استطلاع: ما جدوى الفعاليات الثقافية في الحياة العربية؟

قبْل خمسين سنةٍ، كَتَب المُفكِّر الجزائري الدكتور “عبد الله شريط” حول جدْوى المُؤتمرات الأدبيَّة في الحياة اليَّومية للشَّعب وتأثيرها في البناء الفكري والوُجداني للمُجتمع والفَرْد على حدِّ السَّواء، لا سيما فيما يتعلَّق بطبيعة الموضوعات التي كانتْ تتناولها ومدى ارتباطها بقضايا الواقع واهتمامات العقل العربي عُمومًا.

وتُجدِّدُ جريدةُ “الأيَّام نيوز” طَرْح هذه القضيَّة في سياقٍ يشملُ مُختلفَ الفعاليات الثَّقافيَّة على تنوُّع مجالاتها: الأدبيَّة والفكريَّة والفنِّيَّة.. فتوجَّهتْ إلى نُخبةٍ من الكُتَّاب والنُّقاد والشعراء “تسْتفْتِيهم” في القضيَّة من خلال بعض التَّساؤلات منها:

كثيرةٌ هي الفعاليات الثقافية والأدبية في الوطن العربي على امتداد السَّنة الواحدة، سواءٌ كانت محليَّةً على مستوى القُطْر الواحد، أو عربيَّةً، أو دوليَّة.. ومن المُجدي التَّساؤل حول دورها وفائدتها وتأثيرها في الواقع الثقافي العربي، وفي المثقف العربي؟

ما هي رؤيتكم لهذه الفعاليات، وما الأثر الذي تُحقِّقه بعد انقضائها خلال أيام؟ وهل يُفيد منها عُموم المثقَّفين سواءٌ كانوا مُبدِعين أو مُتابعين؟ ودون النَّظر إلى تقييم التَّنظيم وما يتْبعه من أمور تتعلق بالدَّعم المادي لكل فعاليَّةٍ، هل تعتقدون بأنها تخضع إلى تقاليد صحيَّة وصحيحة، أو فيها سلوك ومظاهر تسيء إلى الأدب ذاته، مثل المحاباة في اختيار المشاركين وغيرها من الأمور؟ ثم، هل تُوَثَّق نشاطات هذه الفعاليات كاملة لتكون مَرجعًا للدَّارسين، أم أنَّه يتمُّ التعامل معها كأخبار ثقافية وأدبية؟ فكانتْ هذه الآراءُ والرُّؤى في الصفحات التّالية..

تغريد بو مرعي
تغريد بو مرعي (أديبة لبنانية مُقيمة في البرازيل)

بِيئةٌ تفاعُليَّةٌ تُغذّي الثقافةَ المَحلِّيَةَ والإنْسانِيَّةَ

تتسارع الفعاليات الثقافية والأدبية في الوطن العربي على مدار السَّنَة، وتلعب دورًا حيوِيًّا في تغذية الواقع الثقافي والأدبي. يعودُ دورها إلى تعزيز التبادل الفكري وتعريف الجمهور بالإبداعات الفنية والأدبية. فهي تُشكِّل فرصة للكتَّاب والفنَّانين لعرْض أعمالهم، وتوفر بيئة تفاعليَّةٍ لتبادل الأفكار والآراء.

فيما يتعلقُ بالفائدة، تُعزِّز هذه الفعاليات التواصلَ الثقافي بين مُختلف الثقافات والمجتمعات العربية، وتُسهِم في نقْل التراث والفكر العربي. إضافةً إلى ذلك، تشكِّل فرصةً لتشجيع الشباب على المشاركة الفعَّالة في المجال الثقافي والأدبي.

تأثيرُ هذه الفعاليات يظهر بوضوح بعد انْقضائِها، حيث تترك أثرًا عميقًا في مسار التفكير الثقافي والأدبي. تُعزِّز الإبداعَ وتُلهِم الفكرَ، وبالتالي، تُسهم في تطوير المثقف العربي وتحفيزه إلى المزيد من الإبداع.

على الرَّغم من أنَّ الفعاليات تستهدف في المقام الأول المثقفين والفنانين، إلاَّ أنَّ فوائدها تمتدُّ لتشمل عُمومَ المجتمع. تُعتبَر منبرًا لتوسيع الأفق الثقافي وتحفيز حوارٍ بين شرائح مُتنوِّعة من المجتمع.

بالنسبة للتَّقييم، يمكن أنْ تظهر بعضُ السلبيات كالمحاباة في اختيار المشاركين، ولكن هذا لا يُقلِّل من أهميَّة الفعاليات بشكلٍ عام. يمكن تحسين التَّنظيم وضمان الشَّفافية للمحافظة على جودة هذه الأحداث.

فيما يتعلق بالتَّوثيق، يُفضَّل توثيق نشاطات هذه الفعاليات بشكلٍ كاملٍ لتكون مرجعًا للدَّارِسين. هذا يساهم في فهْم تطوُّر الحركة الثقافية والأدبية في المنطقة، ويسهم في تاريخها المعاصر.

باختصار، تُشكِّل الفعاليات الثقافية والأدبية نقطةَ تلاقٍ حيويَّةٍ للتفاعل والإلهام في المجتمع العربي، وتُسهم في تعزيز التَّفاهم الثقافي، ونقْل التُّراث العربي إلى الأجيال الجديدة.

علي الطائي
د. علي الطائي (شاعر وناقد من العراق)

جدوى الفعاليات الأدبية بين الأمس واليوم

قديمًا، وكما نقرأ في كتبِ الأقْدمِين، كان الأدبُ (الشعر على وجهِ الخصوص) تُقامُ له المَجالِسُ، ويُشدُّ إليه الرحالُ، ويَقصدُ حضرَتَهُ النساءُ والرجالُ، ويتبارى في ميدانهِ ذَوُو الشأنِ من الشعراءِ والخُطباء. يتباهى في إقامة هذه المجالسِ كبارُ القومِ وأغنياؤهم، وذَوُو السُّلطةِ منهم، من الأمُراء وأصحاب الرئاسة. وبعد أنْ ينفضَّ المجلسُ، يدأبُ أصحاب الأقلامِ من الكتّابِ والمؤرخين إلى توثيقهِ والإشارةِ إلى المبرَّزين فيه. ويكون هذا حدثًا يُؤرَّخُ له لتَذْكُرهُ الأجيال، وتمدُّ رقابَها بعيدًا تفخرُ بأنَّها كانت ترتادهُ وتمرعُ فيه. ويروي التاريخُ العربي والأدبي أنَّ القبيلةَ التي يولدُ فيها شاعرٌ، تقِيمُ الولائمَ، وتبتهجُ وتفرح وتفخرُ على جاراتها من القبائل، لأنَّ الشاعرَ كان يُعَدُّ لسانَ القبيلةِ، والذَّائد عن حِياضها بلسانه قبْل سيْفه ورُمْحه. كانت العربُ تخشى سطْوَةَ الشاعرِ والخطيب، كما تخشى سيْفَ عنترة العبسي.

أمَّا اليوم، فقد بلغتْ المجالسُ والمنتدياتُ الأدبية والثقافية عددًا لا يُستَهانُ به في كل قطْرٍ من أقطارِ الوطن العربي. تجْمعُ في جلساتِها ضُروبًا من أصحابِ الأدب والشعر والثقافة والفن. ولن أحِيد عن الصَّوابِ إذا قلتُ: إنَّ هذه المجالس هي من مَظاهرِ بعْث الروح الثقافية والأدبية في مجتمعنا العربي. وهذه المجالس والمنتديات هي الحافظ الوحيد للتُّراثِ الأدبي الخالد، والتي سار كثيرٌ منها سِيرة المجالس التي كانت تُعقَد في بغداد والشام والأندلس وغيرها من الحواضر العربية والإسلامية.

هذه المجالس تبْعثُ الروح وتنفخ في جَسَد الخُمول، وتُرشِد النَّشءَ الجديد، وتُعْلِمه بحجم التَّرِكة الثقافية التي ورثها عن الآباء والأجداد. وإذا عرَّجْنا على مِقدار العطاء الذي جادتْ به هذه المجالس، فسوف يطول بنا المقامُ. يكفي أنْ نَذْكر أنَّ مجالس فرنسا الثقافية قُبَيْل الثورة الفرنسية، كان لها الدَّوْر الأعظم في توجيه الثائرين لأنَّها (المجالس) كانت تُغذِّي الشعبَ بالأفكار الجديدة وتُنير العقولَ التي كانت ترْزح تحت نير الكنيسة التي كانت السَّببَ الرئيسي في تخلُّف أوروبا في العصور الوسطى. ولا ننسى مجالس بغداد والتي كان يحضرها المُفكِّرون فيقدِّمون الغذاءَ الرُّوحي المطلوب للمناضلين من أجل الاستقلال.

وإذا انتقلنا بالحديث إلى المجالس والمنتديات والمهرجانات الثقافية التي تُعقَد هذه الأيام وفي عصر الشَّبكة العنكبوتية، فإنَّنا نصطدم بالحقيقة المرة، التي تُدهِش كل من فكَّر فيها. فبالرغمِ من تقارب الأمور، وتُيَسِّر المحادثة والاتصال وعرْض النَّتاج الأدبي، وتزاحم الآلاف من الأدباء من أجل التَّعريف بأنفسهم، والإدلاء بدلائهم في بئر الشهرة علَّهم ينالون قطرةً من قطرات الإعجاب والإطراء، فإنَّنا نلمس الجفاء بين هؤلاء. وكلَّما كَثُر المتنافسون، زاد السَّعيُ غير المشروع من أجل الشُّهرة. تعدَّدتْ المنتدياتُ وقلَّ حافظوها والصائنون لقِيمتها الحقيقية. يجتمعُ هؤلاء وأكثرهم لا يسمعون لزملائهم، همُّهم الوحيد هو تفريغ ما في حقائبهم من قصائدٍ وخُطَبٍ، والفرار لقبض المقسوم. وكم من هؤلاء مَمَّن يرقى إلى مرتبة الشاعر الملتزم، الذي يهتم فعلاً بقضايا مجتمعه وهُمومه؟ النَّزر من هؤلاء مِمَّن يرقى إلى هذا المقام السَّامق.

تُعقَد هذه المهرجانات والهدف من انعقادها لا يعدو استعراض العضلات والتَّباهي الفارغ، والتقاط الصُّوَر، وأغلب الحاضرين مِمَّن يبتسم لهم الحظ يشملهم قوْل: لمفلسُ في المهرجان آمنٌ. المحاباةُ، والمحسوبيات، والنزعات الطائفية، والدينية، والحزبية، والعلاقات الضيقة ومآرب أخرى يفرضها المنصب، كلُّها تجْمعُ عددًا من هؤلاء في مهرجان كان لا يُقام إلاَّ بحضور كبار الأدباء، وبشهادة الجميع من أصحاب الاختصاص، والذَّائقة الرَّاقِيَّة. أما التأثير الذي يُخلِّفه هؤلاء في المجتمع فلم يَعُد ذلك التأثير الذي يعبأ به.

المجتمعُ العربي حالُه حال المجتمعات العالمية، أصبح في سِباقٍ مع التقنية والعَوْلمة. انهالتْ عليه الثقافات والمعلومات دفعةً واحدةً، فأصِيبَ بنوْباتٍ مستمرةٍ من الذُّهول، والصدمة التي كلَّما أفاق من واحدةٍ منها دخَل في أخرى. فلم يعد يهتمُّ إلاَّ للمعلومات ذات الوَقْع السريع، وهذا ما انعكس سلبًا على مقدار الوقت اللاَّزم الذي يحتاجه للتَّحديق في كتابٍ أو لسماعِ قصيدة طويلة. ولنا أن نقول: لا بدَّ أن نستمرَّ مهْمَا كان التَّقييم، لأنَّ الأديبَ نبيُّ قومه إذا أخْلص النِّيَة، وليس كل من ادَّعى الأدبَ، كان أدِيبًا، وليس كل من ادَّعى النُبوَّة كان نبِيًّا.

السيد حسن 2
السيد حسن (شاعرٌ من مصر وأمين صندوق اتِّحاد كُتَّاب مصر)

الفعالياتُ الثقافيَّةُ بين الجِدِّيَّةِ والاستعراضِيَّة

تُعَدُّ الفعالِيَاتُ الثقافيَّةُ الجادَّةُ مُتنفَّسًا حقيقيًّا للإبداع الأدبي والفني والفكري، ومُلتقى بالغُ الأهميَّة بين المُبدعين بعضُهم والبعضُ الآخر، وبينهم وبين نُقَّاد الإبداع ومُتذوِّقِيه.

وعبْر تجربتِي الخاصَّة، فإنِّي أستطيعُ أنْ أجْزم بأنَّ الجادَّ من هذه الفعاليات يُسهِم إسهامًا حقيقيًّا في دفْع الحياة الثقافيَّةِ إلى الأمام وإلى الأعلى؛ فهو من ناحيةٍ يمثِّلُ ساحةً لحَفْز المُبدِع على الإبداع بفِعْل الاستثارة التي يُحدِثُها في نفسِه إبداعُ الآخرين. وهو من ناحيةٍ خاصَّةٍ يُمثِّل فرصةً للاطِّلاع على التَّيارات الإبداعيَّةِ والفنيَّةِ والنقدية والفكرية الجديدة، فضلاً عمَّا يُوفِّره من إلقاءِ ضوءٍ ضروريٍّ على الأعمال الجديدة أولاً بأوَّلٍ.

صحيحٌ أنَّ بعضَ هذه الفعاليات لا تخلُو من آفاتِ الصُّورِيَّة أو الاستعراض في بعض الأحيان، إلاَّ أنَّ الجادَّ منها يُمثِّل ميدانًا حقيقيًّا لتلاقُح الفكر وتجْديدِ المياه في نهر الإبداع، من خلال هذه الفعاليات يتِمُّ اكتشافُ مواهبَ نقديَّةٍ جديدةٍ تُمارس لوْنًا من ألوان الدَّرَبَة حتى يشتدَّ عُودُها وتنضج رُؤاها وتتَّضح ملامحُ صوْتِها النَّقدي، تمامًا كما يحدثُ اكتشافُ المواهبِ الإبداعيَّةِ الجديدةِ التي تسْتَوي موهِبتُها على نيران التَّلاقي الأدبي والنقد والفكري الجاد..

والحقيقةُ أنَّ الفعاليات ليستْ كلُّها سواءٌ، فمِنْ ناحيةٍ يمكن تقسيمها إلى فعالياتٍ رسميَّةٍ وفعاليات مُوازِيَة. وفي كثيرٍ من الأحيان تتحوَّلُ الفعالياتُ الرَّسميَّة إلى أداءِ واجبٍ رسميٍّ دون اهتمامٍ كبيرٍ بعُمْق الفعالية أو جدواها الحقيقيَّة، حيث ينْصبُّ اهتمامُ القائمين عليها على استِيفاء الشَّكل الرَّسمي الذي يَعني أداءَهم لواجبِهم، بينما الأمرُ في الفعاليات المُوازية يحظى بفرصةٍ كبرى لتقديم إسهامٍ جادٍّ في الحياة الثقافية، متى ما خَلَا من النَّزْعة الاستعراضية التي تقول:  هأنذا، لأنَّ القائمين عليها لا يحِمِلهم على إقامتها إلاَّ عشقُهم للَّوْنِ الإبداعي الذي يمارسونه، وشَغَفهم به،وإخلاصهم له، فلا رؤساءَ يتابعون ما يفعلون، ولا هم يَنْشُدون بإقامتها إرضاءَ أحدٍ أو استرضاءَه.

ومن ناحية أخرى، فهناك فعالياتٌ تتَّسِمُ بالدَّوْرِيَّة بما يتيح لها مدى زمنيًّا لاحتضان المواهب ورعايتها بعد اكتشافها والكشف عنها. وهناك فعالياتٌ تُقام بشكلٍ عارضٍ دون التزامٍ بأيّ لوْنٍ من ألوانِ الدَّوْرية والاستمرارية.

ولقد كان لي تجربةٌ خاصةٌ في هذا الميدان، حيث أقمتُ صالونًا أدبيًّا يحمِلُ اسم “صالون السيد حسن” استمر على مدى عشر سنوات بدءًا من العام 2013، وكان يُعقَد في “دار الأدباء المصرية” بصورةٍ أسبوعيَّةٍ، ويشارك فيه نُجومُ الإبداعِ الأدبي في مصر والعالم العربي جنْبًا إلى جنبٍ مع المواهب الإبداعية الصاعد. أحدثَ الصالونُ حالةً إبداعيَّةً ونقديَّةً شديدةَ التميُّز، وخلَق جمهورًا واسعًا. كان له أثرٌ بالغٌ في اكتشافِ أصواتٍ إبداعيَّةٍ كثيرةٍ، وكذلك الكشف عن مواهب نقدية مُتميِّزة. حظِيَ الصالونُ باهتمامٍ إعلاميٍّ عريضٍ، مِمَّا ضاعَف من مساحة تأثيره وأكْثرَ من رُوَّاده ومُتابعيه والمُستفيدين مِمَّا يطرحه من قضايا، وما يناقشه من أعمال.

خلاصة القول: إنَّ الفعاليات الثقافية إذا ما برِئتْ من آفات الصُّوريَّة والاستعراض، تُشكِّل ساحةً رحْبةً مُؤثِّرة تُسهِم إسهامًا حقيقيًّا في دفْع الحياة الثقافية العربية إلى الأمام وإلى الأعلى، وإنَّه إذا ما توافَر لإحدى الفعاليات صِفة رسمية وكان القائمون عليها من المهمومين الحقيقيين باللَّون الإبداعي الذي تُغطِّيه، فإنَّها تكون قد حازتْ مزايا العمل الرسمي والعمل المُوازي في آنٍ معًا، وهو ما يضمن لها وفْرة الإمكانيات مع جِدِيَّة العمل وعُمْقه وتأثيره.

عزة عيسى
عزة عيسى (شاعرة من مصر)

الفعالياتُ الثقافيَّةُ.. إيجابِيَاتٌ وسلبِيَاتٌ

تلعبُ الفعاليات الثقافية والأدبية دورًا مُهمًّا في إثراء الواقع الثقافي العربي، ودعْم المثقف العربي، وتعزيز التواصل بين الثقافات العربية المختلفة.

وتتنوع هذه الفعاليات بين المَعارض الفنيَّة والعُروض المسرحيَّة والحفلات الموسيقية والندوات الأدبية والأمسيات الشعرية وغيرها. وتستهدف هذه الفعاليات جميعَ الفئات العمرية، من الأطفال إلى الشباب إلى البالغين.

ولعلَّ من أبرز التَّأثيرات التي تتركها الفعالياتُ الثقافية والأدبية في الواقع الثقافي العربي:

أوَّلاً التَّأثيراتُ الإيجابيةُ، ومنها:

إثراءُ الحياة الثقافية: تساهم الفعاليات الثقافية والأدبية في إثراء الحياة الثقافية العربية، من خلال تقديم تجارب فنية وأدبية جديدة، وتَعْريف الجمهور العربي بالثقافات المختلفة.

دعْمُ المواهب الفنية والأدبية: تساهم الفعاليات الثقافية والأدبية في دعْم المواهب الفنية والأدبية، من خلال توفير الفرص لها للعَرْض والمشاركة، ونشْر أعمالها بين الجمهور.

تَعزيزُ التَّواصلِ بين الثقافات العربية: تساهم الفعاليات الثقافية والأدبية في تعزيز التَّواصل بين الثقافات العربية المختلفة، من خلال تقديم تجارب فنية وأدبية مشتركة، وخلْق فُرَصٍ للتَّفاعل والحوار بين الفنَّانين والمُثقفين العرب.

ثانيًّا التَّأثيراتُ السَّلبِيَّةُ، ومنها:

الافْتقار إلى التَّمويل: تُعاني العديد من الفعاليات الثقافية والأدبية في الوطن العربي من الافتقار إلى التَّمويل، مِمَّا يَحُدُّ من قُدْرتها على الاستمرارية والتوسُّع.

عدمُ التَّنوُّع: تَمِيل الفعاليات الثقافية والأدبية في الوطن العربي إلى التَّركيز على اتجاهاتٍ فنيَّةٍ وأدبيةٍ مُعيَّنةٍ، مِمَّا يُؤدي إلى تهميش اتجاهاتٍ أخرى.

التَّهميش: يُعاني المثقف العربي في بعض الأحيان من تهميشه في الفعاليات الثقافية والأدبية، مِمَّا يُؤدِّي إلى عدَم تمثيله بشكلٍ عادلٍ.

الشِّلَلِيَّة: تُؤدي الشللية في الوسط الثقافي والأدبي إلى العديد من الآثار السلبية منها:

تَهْمِيش المواهب: تهميش المواهب الجديدة والأصوات المختلفة، مِمَّا يُقلِّل من فُرَص الإبداع والتطوير.

انحصار الثقافة: انحصار الثقافة في مجموعةٍ مُعيَّنةٍ من الاتجاهات والأفكار، مِمَّا يَحُدُّ من حرية الرأي والتعبير.

فسادُ الحياة الثقافية: من خلال انتشار المَحسوبِيَّة والمُحاباة والفساد.

وبشكلٍ عام، يجب العمل على معالجة الشِّلَلِيَّة في الوَسط الثقافي والأدبي، لضمان ازدهار الحياة الثقافية والإبداعية.

أمَّا تأثيرُ الفعاليات الثقافية والأدبية في المثقف العربي، فهي عديدة، منها:

الاطِّلاع على تجاربٍ فنية وأدبية جديدةٍ: تساهم الفعاليات الثقافية والأدبية في تعريف المثقف العربي بتجارب فنية وأدبية جديدة، مِمَّا يساعده على تطوير ثقافته ورؤيته الفنية والأدبية.

المشاركة في النقاش والحوار الثقافي: تساهم الفعاليات الثقافية والأدبية في توفير الفُرَص للمثقفين للمشاركة في النقاش والحوار الثقافي، مِمَّا يساعدهم على تبادل الأفكار وتطوير الوعي الثقافي.

التَّواصل مع الفنانين والمثقفين الآخرين: تساهِمُ الفعالياتُ الثقافية والأدبية في توفير الفُرَص للمثقفين للتواصل مع الفنانين والمثقفين الآخرين، مِمَّا يساعدهم على بناءِ علاقاتٍ مهنية وثقافية.

إلهام بورابة (كاتبة وروائية من الجزائر)

المهرجاناتُ الأدبيَّةُ الجزائريَّةُ.. أحاديثٌ من الذَّاكرةِ

كنتُ صغيرةَ السِّن وقتَ ما سمعتُ بعبارة “مهرجان شعري”، وكانت عن مهرجان “المَربَد” للشعر في العراق، كان ذلك في مجلة فنِّيَّة لبنانية اسمها “فيروز”، عبْر تحِيَّةٍ من المجلة إلى هيئة المهرجان وجمهوره.

منذ ذلك الوقت، تكوَّن في ذهني مفهومُ “المهرجان” أنَّه لقاءٌ للمسرّات ولقراءة الشعر وسَط مُجتمع مِخْمليٍّ يتصَيَّد فيه الشعراءُ الجوائزَ لا السيِّدات الحسان. ومن بَعْد جَلسات الأدب، يجلسون إلى المآدب والوصلات الغنائية يُحيون السَّهر. فكان يُنظَر إلى الشعراء أنَّهم أشْرافٌ بين كل الألقاب المَجيدة التي تُهيْمن على المجتمعات، مع الأمراء والوزراء في نظام حُكم ملكيٍّ.

كبرتُ، وظلّ ذلك الحلمُ، حلمُ المهرجان يراود ذهني، حتى باغتني الحظُّ بأنْ أكون مَدعُوَّة إلى الملتقى التأسيسي للشعراء الطُّلاب بمدينة “باتنة” وأنا بالجامعة عام 1988. فكم كان الطُّموح بين الشعراء الطُّلاب كبيرًا، فوَثبوا لأجل قوْل الشعر إلى المنْبر في جوّ تنافسي أخوي، اعْتنى بهم وبأشعارهم الدكتور الأستاذ “العربي دحو”. فلا كلام رديء عن ذلك المهرجان، فقد تحدّثتْ عنه الصُّحف، وأشادتْ به هيئاتٌ ثقافية، وظلّ صداه في كلّ المشاركين من الشعراء إلى زمن بعيد.

مرَّةً ثانيةً، حضرتُ إلى مهرجان “المرأة والإبداع” بمدينة “سكيكدة” في العام نفسه، وكان أجمل ما فيه مَنْ فيه، الأديبة المصرية الكبيرة “لطيفة الزيات”. شاركتْ في المهرجان أسماءٌ عديدة ما زالت صامدةً حتى اليوم في المَشهد الشعري الجزائري. أحسبُ أنَّ كل الأسماء النسوية آنذاك في بلادي قد دُعِيَتْ، فلم تتخلف امرأة شاعرة. لكن خمسة أصوات فقط، ومنها المُتحدِّثة، كان مجالُ التَّعريف بها في مجلة “الجيل” المشهورة، فوصَل صدى المهرجان والأسماء المشاركة فيه إلى أبعد مِمَّا كان مُعدًّا له.. تغطيات في الصحافة الوطنية والعربية، لأنَّ مُشارِكات من مختلف الوطن العربي قد لبّتْ الدَّعوةَ، وأثْرت بتدخّلاتها عن الأدب النسوي ما يحسم ويفصل فيه بدءًا من ذلك الزمن.

مهرجانٌ ثالثٌ، أكبرُ قِيمةً، لأنَّ قِيمته من قيمة الوطن. مهرجان “محمد العيد آل خليفة” بمدينة “بسكرة”، حضَره كِبار الشعراء والأدباء الجزائريين. مهرجانٌ، لانضباطه استطاع أنْ يحافظ على استمراريته بقوة ووزن الاسم الذي يحْمله: محمد العيد آل خليفة، شاعرًا وثائرًا. من رموزه الشاعر عبد الله بوخالفة رحمه الله. فقد قدّم المهرجان للناشئة عنايةً ومُتابعة حتى ساد القوْلُ أنَّ شاعرًا ما قد تخرّج من مهرجان محمد العيد آل خليفة.

تلك أيّامٌ ومسرّاتٌ، ومهرجاناتٌ بقيمة العطر الدائم في أشجار الورد. لم أحضر بعدها إلى أيّ مهرجان لأسباب عائلية. لكني أراقب من بعيدٍ وأتبيّن نفحات مهرجان هنا وآخر هناك.

من بين المهرجانات التي اتّقد لها ذهني وانتبه إليها قلبي، مهرجان الشعر النسوي بمدينة “قسنطينة”. فكم كنت أتمنى أن يكون للنساء في مدينتي مهرجان “يُرهِف السَّمعَ لهُنَّ” فكان. لقد أبدتْ مُحافِظته السابقة الشاعرة “منيرة سعدة خلخال” تَميُّزا وقدرةً في احتواء جميع الاسماء النسوية سواءٌ منها النَّشِطة أو الموءودة على حسب اصطلاح الاستاذ الدكتور “يوسف وغليسي” الذي أحصى خصيصا لهذا المهرجان شاعرات وشواعر خلّدهن في كتابه “خطاب التأنيث”. فأيّ مهرجان غيره قد أحاط بورود الحدائق كلها؟

أحسبُ أن ما حقَّقه مهرجان “الشعر النِّسْوي بقيادة السيدة “سعدة خلخال” قد خَرقتْه طبعاتٌ أخرى جاءتْ بمُحافِظة أخرى وهيئة أخرى لم تعِدّ كما يجب لتحافظ على مستواه الذي كان. ربّما بسبب التركيز على أسماء مُعيّنة من باب الصداقة والمحسوبية والمصالح أو أشياء أخرى لا أعلمها. هنا المقارنة فقط لتبْيِين أنَّ المهرجانات لم تَعد بقيمة المادَّة التي تحملها، لأنَّ الطاقات الواقفة عليها ليست جِديّة بما يكفي لتقوم بها بما يخدم الأدب والثقافة والبلاد عموما، إنها تخدم مصالحها فحسب.

ومِثل مهرجان “الشعر النِّسْوي”، مهرجان “مالك حداد” ومهرجان “نجية عبير”. أتحدَّثُ عمّا يقام في مدينتي خاصة لأنِّي أحسبُني معنِيَّةً، فكل مهرجان في مدينة مُعيّنة يجب أن يكون جداريَّةً توثِّق للمدينة ذاتها ولأهلها وليس فقط للنشاط الأدبي المُسطّر.

فأنْ تُقِيم مهرجانًا لـ “مالك حداد” لا يشارك فيه مضطلعون بحياة وأدب مالك حداد، فأنت تسيء إلى ذاكرة المدينة وللأديب نفسه. فنحن نرى في كل طبعة، الأسماء ذاتها تتمُّ دعوتها لا علاقة لها بالمحتوى، لكنها تُدْعى لأنَّها الفئةُ الصَّديقة أو هذا ما هو حاضر في المَشهد.. فابحثْ أيُّها المُشرف على المُلتقى فإنَّها أمانتك، ابحثْ عن الأسماء التي تنعش الملتقى والتي تستحِقُّ حضورها لا التي تغوص في ظلمة جهلها تحضر للحَكْي والمؤامرات.

أقِيمَ مهرجان “نجية عبير”، هذه الكاتبة خرِّيجة معهد المعلّمات، ولم يكلِّف أيُّ مسؤولٍ نفسه للبحث عن معلّمات زميلات لها اللائي أمدّ الله في أعمارهن ليشهدن على أيّامها وقد قضتها كاتبةً بينهن عنهن. فأيّ استهتار باسم كبير؟ حتى لو حضرتْ عائلتُها، فإنَّها لا تجزي. فأهل الكاتب هم من رافقوا أدبَه وكانوا ضمن كتاباته وشكّلوا في حياته أقمارًا تضيء عَتَماتَ تيْهِه..

إنَّنا ننشر الغسيل ليجِفَّ في الهواء الطلق النقي، وبالتالي مشاريعُ الغدِ يَكمُل نقْصانُها وتصير تطلّعات مجتمعنا إلى ثقافة مَديدة تقاوم وتتجمّل للحياة.

إنَّ الجمال لا يُعدَم، فقد سمعت عن ” أيّام العلمة الأدبية” خلال الأعوام السابقة، وسمعت من يتحدّث عن العدل في توزيع تلك الأيّام بين الأسماء المبدعة بالتساوي وبنشوة الوصال بين الأدباء الإخوة. لكني أتساءل: لماذا تلك الأيّام الجميلة حُكِم عليها بالإعدام؟

قد كانت أيّاما بإمكانها تغيير خريطة الثقافة، الثقافة التي ننقلها من الشارع إلى آفاق كبرى. فمدينة “العلمة” حتى وإن كانت بلدة للتجارة واستعدادها دائم للبيع والشراء، فإنّها مدينة العلم والعلماء وهذا يظهر في اسمها: العلمة.

إنَّ ما حدث فيها ولم يستمر يشبه سوق عكاظ. فمن هنا السِّلع، ومن هناك الإبداع. إنّها رغبة العارفين في جعل ما هو عَصِيٌّ يذوب في القلوب. علّ هذا فيه مبرّرا للحب. وأنَّ هذا الدرس الفلسفي الذي يجعل المكان مَحجًّا للمبدعين هو ذاته سوق الرغبات والشهوات، لا بدَّ أن يزدهر ويحظى بالتَّزكية.

مرّةً وأنا أتجوّلُ في حديقة الأمير عبد القادر بمدينة سطيف، توّجهتُ تلقاءَ مكتبتِها الصغيرة المُتواضعة، لأجِد كتابًا للأديب “جمال فوغالي” عنوانه “مَجْدُ الأمْكنة”. سلب عقلي العنوان وأنا بمكان مجيد يحمل اسم الأمير عبد القادر، فبدّلتُ قراءتي من تاريخ الأشجار إلى تاريخ المكان، وكانت دهشتي كبيرة إذْ كان يتحدّث عن “أيّام العلمة الأدبية”. فما أجمله تأريخ وتوثيق لفعلٍ إبداعي ارتبطتْ مُفارقاته بالمكان.

ليت الأيّامَ استمرتْ، فليس شرطًا أنْ نكون من الحاضرين لندعم مقامًا ما. فنحن ندافع عن الأدب لأنَّنا مُولعين بالأدب. والشَّغفُ وحده ما يوجّهنا إلى قول حقيقة ما كان، والرجاء فيما سيأتي، مع الأخْذ بعين الاعتبار الانتقادات ليحقَّق الأجْمل.. إلى أنْ تزهر الزَّنابق، سأظلّ أحرِّض البُصَيْلات المجهولة لتتوافر إلى الأجيال المقبلة حدائقُ وثرواتٌ معرفيَّةٌ جيِّدةٌ.

أميرة إبراهيم 2
د. أميرة إبراهيم عبد الحليم (كاتبة من مصر وعميدة كلية الإعلام والصحافة الإلكترونية)

الفعالياتُ.. لنشْرِ الوعيِ العلمي والمعرفي والثقافي

تُعَدُّ الفعاليات الثقافية والأدبية أحدَ فروع الإعلام الثقافي الذي يساهم بشكل فعَّالٍ في تقارب الثقافات وجعْل الوطن العربي وحدةً ثقافيه واحدةً، ولها دوْرٌ كبيرٌ في صناعة الرأي العام وتحقيق القوَّة الناعمة للدول.

تبرز أهميةُ الإعلام الثقافي، في المقام الأول، بمُهمَّة نشْر الوعي العلمي والمعرفي والثقافي في أوساط المجتمع، وكذا تنمِيَة المواهب والقدرات الفكرية لدى الأفراد ومن أساسياته الجوهرية أنه يعمل على:

– النهوض بالإنتاج الفكري، من خلال تشجيع وإبراز كل أشكال الإبداع والابتكار الفكري، الفني والمادي، ونشره وتوزيعه على أوسع نطاق بين البشر.

ولذلك فإنَّ الفعاليات الثقافية والأدبية، التي تقيمها الدول، ليستْ مجرد ترفِيهٍ أو مناسبة عادية، بل إنَّها منظومةٌ متكاملة لها رؤي وأهداف واضحة، مثل تحقيق قوة ناعمة للنهضة والتنمية وتحقيق مجتمع المعرفة، وصناعة الرأي العام المُجتمعي والعديد من الأهداف المجتمعية.

والجدير بالذِّكر أنَّ احترام الهُوِيَّات الثقافية المختلفة يُعَدُّ من أهمِّ عوامل الرقي في المجتمعات الحديثة، حيث التنوُّع هو أساس البقاء، والتطوُّر إلى الأمام هو سبب تقدُّم الدول. كما أنَّ الندوات الثقافية تُعَدُّ أرضًا خصبةً للحفاظ على الثقافة، من خلال التجديد بها الذي يعتمد على الإبداع ويُعدُّ أحد محاور العمل الثقافي.

كما أنَّ هذه الملتقيات الثقافية بأشكالها المختلفة الفنية أو الأدبية.. وسيلةُ تَلاقٍ بين المُبدعين من مختلف دول العالم لنقل وتبادل الخبرات بين هؤلاء الفنانين والمفكرين الذين يشكلون وجدان شعوبهم، مِمَّا يجعل العالمَ مجتمعًا إنسانيًّا واحدًا مُتعدد الثقافات.

كما تلعب وسائل الإعلام المختلفة دورًا رائدًا في تغطية مختلف الفعاليات الثقافية، فهي حلقة الوصل بين تلك الأنشطة وبقية أفراد المجتمع الذين لا يستطيعون حضور تلك الفعاليات لأسباب مختلفة، فتقوم وسائل الإعلام المختلفة بدور بارز في نقل وترسيخ تلك الفعاليات لدى الجمهور للمساهمة في ترويج القوة الناعمة للدول وصناعة الراي العام المجتمعي.

سيد فاروق 1
د. سيد فاروق (شاعر وناقد من مصر)

فَعالِيَّاتُنا الثقافِيَّة في الوطن العربي.. بين النَّقد والتَّصحيح

إنَّ الثقافة العربية مصطلحٌ كبيرٌ يمكن أنْ يشمل الأدبَ بجميع أجناسه: شعر، رواية، قصة، ويشمل أيضًا الفن التشكيلي والسينما والمسرح، وما إلى ذلك من تخصصات إبداعيَّة، فوُجود فعاليات لها علاقة بتلك الحقول يمكن أنْ تصبح إيجابيةً ومحفّزةً في خِضمِّ التوجُّه العام للدول والوضع الاجتماعي نحو الاستقطاب، والمحافظة على المواهب الإبداعيَّة. ومن هنا فكلّ مهرجان جادٍّ، أو فعاليَّةٍ ثقافية رصِينةٍ، ستسهم في ترسيخ قِيَم المجتمع المدني والحراك الثقافي المُتواشج مع الهضمِّ العام، والقضايا القومية المعاصرة، لا سيِّما إذا لم تُستَغل تلك الفعاليات لأغراضٍ لا علاقة لها بالثقافة والإبداع.

إذًا ليس هناك جوانب سلبية من الفعاليات الثقافية والمهرجانات بحدِّ ذاتها، لكنَّ تسْخيرها خارج إطار الثقافة لتَنميط الوعي الجَمعي، وتمهيده لفرْض هيْمنَة مُعيَّنة، هو ما ينبغي الانتباه إليه وتوجيه النقد له والعمل على دعم الوعي لإدراك دوْر الفعاليات الثقافية في بناء جيل واعٍ كامل المعرفة بقِيَم المجتمع وقضاياه القوميَّة.

وهنا يأتي طموحُ المثقف الجادِّ إلى تأصيل تلك المهرجانات والفعاليات، وتعميق دورها في بلْورة هُويَّةٍ ثقافية وطنية وقوميَّة كي تكون ملمحًا بارزًا للهوية العربية ككل، أيْ لا بدَّ من الفهْم الصحيح لكَنَهِ الثقافة من أجل الابتعاد عن إبراز السطحي، والهامشي، والشعاراتي، وإظْهار ودعْم العميق والأصيل والمُنتَج الجاد الهادف.

إنَّ المؤسسات الثقافية الرَّسمية وغير الرسمية من مُنظَّمات المجتمع المدني غير الحكومية هي من يقَع على عاتقها تصميمُ البرامج الثقافية والسياسات التَّنمويَّة العامة للنهوض بترقية المجتمع على جميع الأصعدة.. ويتمُّ ذلك من خلال تفعيل الأنشطة الفنية والثقافية والتقنية المدنية التي من بينها: الشعر والأدب والترجمة والسينما والمسرح والكتابة والمسابقات الأدبية، أما أنْ ننتظر من شاعر في مهرجان ما تَغيير الواقع، أو أنْ نتطلَّع من فيلم إلى إحداث ثورة ثقافيَّةٍ، فهذا من قبيل الأهداف العابرة للقَصْد وغير الواقعيَّة.

والجدير بالذِّكْر أنَّ المهرجانات الشعرية والفعاليات الثقافية، في مصر تحديدًا وفي أغلب البلاد العربية، هي واحدةٌ من المواريث والعادات المُجتمعية التي تحاول المؤسسات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية الإبقاءَ عليها لتحقيق غايات إعلاميةٍ أو إعلانيةٍ صِرْفة.. غايات تُعْنَى بالتَّواجد على الساحة الأدبية لا غير.

بيْد أنَّ الشعر لا يزال يحتمل هذا الضجيج الذي يرافق المهرجانات والفعاليات الثقافية، إنّه ضجيج الشعراء المَحْض، لا حشْد مُتلقِّين وقُرَّاء، لا جمهور لا مُتلقٍ غير الشعراء أنفسهم والمنتسبين إلى لثقافة، يقرأ بعضُهم لبعضٍ، ويسمع بعضهم بعضًا وسَط أجْواء من النرجسية والاطْراءات والمُجاملات المتبادَلة.

الشِّعر في العالم كلّه يعاني أزمةَ تَلقِّي، والمهرجانات الشعرية والفعاليات الثقافية، واحدةٌ من مُسبِّبات هذه الأزمة، إنّها من أسوإ المظاهر البيروقراطية لادِّعاء الثقافة، فالدَّعوات في هذي المحافل الثقافية للشعراء والأدباء في مقابل صدودٍ شعبيٍّ عام عن التواصل الثقافة، وهو أمرٌ يحتاج إلى مراجعات كبرى تتعلق بطبيعة الشعر نفسه وطبيعة عصر الاتصال الذي نعيشه، حيث تمَّ اختصار العالم كله في شاشة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا.

وارتكازًا على ما سبَق، علينا أن نبحث عن البدائل المجدية للممارسة الثقافية الحالية بدلَ مُجرّد انتقادها، والأمرُ ذاته بمثابة دعوة لكلِّ المؤسسات للاهتمام برموز ثقافتنا العربية وجعْلها في أولويات اهتمامهم من دراسةٍ وبحثٍ واحتفاءٍ من خلال إقامة فعلياتٍ هادفةٍ جادةٍ تسلِّط الضوء على تجاربهم الغنيَّة والهائلة، وذلك في إطار توعيَّة مُجتمعية هادفة للارتقاء بالثقافة العربية.

إنَّ الثقافة بمفهومها الشامل لا تتوقّف عند إقامة فعاليات ومهرجانات أو ملتقيات أدبية، بل تتجاوزه إلى ما هو أبْعد من ذلك، من حيث بناء مجتمع واعٍ يستطيع من خلال المعرفة أنْ يتجاوز الأطُرَ المتخلفة، وأنْ يرتقي بحياة الفرد في شتّى نواحي الحياة.

إنَّنا على يقينٍ أنَّه كلّما ارْتفع مستوى الثقافة في المجتمع تقدَّم هذا المجتمع وأصبح قادرًا على مواجهة التحدِّيات المعاصرة، وهذا ما لا يمكن أن نطلبه من أعمال إبداعيَّةٍ الهدفُ من وجودها جماليٌّ روحيّ بالأساس، بل لا بدَّ من أنْ تأخذ من المجتمع لتصب فيه. كما لا بدَّ للمؤسسات الثقافية من تفعيل دوْرها في جعْل الثقافة منهاج حياة عبْر خلْق جسورٍ للتواصل بين الجهات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني من جهة، ومن جهة أخرى تتواصل مع أفراد المجتمع، وذلك من خلال وضْع خُطَطٍ واضحةِ الملامح لتأسيس أجيالٍ مُثقَّفةٍ مُنفتحةِ على الآخر، تؤمن بتكامل العلوم والمعارف من دون قَطيعة مع الجذور الثريَّة، والقيم المُجتمعيَّة والهوية العربية.

ڤينوس فائق
ڤينوس فائق
(كاتبة وروائية من كوردستان)

نشاطاتٌ ثقافيَّة لغايات بعيدةٍ عن الثَّقافةِ أحْيانًا!

بطبيعة الحال، إقامةُ الأنشطةِ الثقافية هو انعكاسٌ للحراك الثقافي في المجتمع وديمومة هذا الحراك بهدف الارتقاء بالعمل الإبداعي إلى مستويات يطمحُ إليها کلُّ مثقفٍ في أيّ مجال كان. بالنسبة للأدباء، إقامة النشاطات هي بمثابة التَّنفيس وإشراك الآخر المُتابع نتاجاتَهم الأدبية. لكن آليَّةُ إقامة النشاطات في بلداننا تتركُ انطباعًا بأنَّها لا تخرج عن كوْنها نشاطات ليستْ مُكرَّسةً للارتقاء بالشأن الثقافي، إنَّما هي نشاطاتٌ مُكرَّسةٌ للإشادة بالجهة التي تموِّل النشاط، ويتِمُّ دعوة شخصياتٍ من خارج البلد بهدف الترويج لواقع ثقافي هو أصلاً مُنهارٌ وغيرُ صحيٍّ.

كُثْرةُ الحُضور أهمُّ من النَّشاط أحيانًا؟

بعْد المُشاركةِ في أي نشاط ثقافي، سواءٌ كضيْفٍ مُتكلِّمٍ أو كحضورٍ، لا بُدَّ أنَّنا سألنا على الأقل أنفسَنا إن كُنَّا استفدنا من هذا النشاط؟ هل أضاف هذا النشاط شيئًا جديدًا إلى مخزون معلوماتنا؟ وهل إنَّ هذه النشاطات في العموم تخدم الواقعَ الثقافي في بلداننا؟ أمْ إنَّها لا تعدو أنْ تكون فرصةً للتَّلاقي وقضاء بعض الوقت خارج المنزل والانعزال الذي يُعاني منه الكثيرُ من المثقفين في ظروف مُعيَّنةٍ؟ وغيرها من الأسئلة..

ربما يكون سقْف توقُّعاتي أو تصوُّراتي عاليًّا لو قلتُ أنَّني أنتظرُ من هذا النشاط أو ذاك أنْ يُغيِّر المجتمعَ أو يُحدِثَ تغييرًا في قناعاتنا، أو يخدُم الواقع الثقافي والمثقفين.. لكنَّني في النهاية لا أنتظرُ من أيّ نشاطٍ من الأنْشطة التي تُقام اليومَ في بلداننا أنْ يضَع الأساسَ لعمليَّة تغيير العالم أو مجتمعه، أو يترك أثَرًا بشكْلٍ أو بآخر في واقعنا الثقافي غير الصحِّي إنْ صَحَّ التَّعبير.. لكنَّني على أقلِّ تقديرٍ للأسف سأنتظرُ أنْ أسْمع شيئًا جديدّا أو رأيًا لم يُقَل بعْدُ، أو أنْ يضع يده على قضيَّةٍ مسكوتٍ عنها لاعتبارات لا يجهلها أغلبنا، أو رأيٍ مُختلِفٍ حول قضيَّةٍ قِيل عنها الكثير.

في الكثير من الأحيان أُصاب بالإحباط منذ بداية نشاطٍ مُعيَّنٍ، وأخرجُ بجُعبةٍ فارغةٍ، وأفكِّر أنَّني لو استثمرتُ الوقتَ الذي خسرْتُه جالسةً على كرسيٍّ وانا في انتظار قولِ شيءٍ جديدٍ أو إنجازٍ ثقافي جديد يخدم فكريَّا وثقافيًّا وأدبيًّا او حتى أخلاقيًّا.. لو استثمرتُه في إنجاز أيّ عملٍ آخر في البيت أو خارجه، لَكان أكثر فائدةً. وعليه، وفي ظلِّ هذه المُعطيات، علينا أن نسأل أنفُسنا سالفًا إنْ كُنَّا سنستفيدُ من حضور نشاطٍ مُعيَّنٍ أم أنَّنا سنخرجُ بوفاضٍ خالٍ، لا ينوبُنا سوى تجشُّم الطريق إلى المكان المُقام فيه النَّشاط.. وفي اعتقادي، أنَّني لو لم أضع نُصب عينيَّ أنَّني سأكسبُ شيئًا من حضوري إلى فعاليَّةٍ ثقافيَّة، سأكون أقْتُل وقتي، وسيضمنُ القائمون على الفعاليَّة حضورًا ثابتًا حتى التَّافهةِ منها.

ما جدوى إقامةُ الفعاليَّات الثقافية؟

من المُهمِّ جدًّا، ونحن نفكِّر في إقامة نشاطٍ أنْ نكون قد وضعْنا نُصْب أعيُننا من الشروط والاعتبارات، منها: ما الهدف من إقامة هذا النشاط؟ ما الهدف من تعْيين موضوعٍ بعيْنه ليتِمَّ الحديث بصددِه وسَط جمهورٍ من الحُضور ينتظرُ شيئًا جديدًا؟ حسب علمي، وحسب تجربتي الشخصية في مجال تنشيط الفعاليات الثقافية أنَّ کل اقتراحٍ لإقامة أيَّ نشاطٍ لا يأتي من فراغ، إنَّما يأتي وفْق حاجة المجتمع إليه، أقلُّه حاجةٌ مُلِحَّة آنيَّةٌ، وثانيًّا كونه موضوعًا حيويًّا ومُفيدًا، أو أنَّه موضوعٌ مسكوتُ عنه ونأمل أنْ نقدِّم بصدده دراسةً جديدةً ورؤية جديدة تضعنا على أعْتاب حلول عمليةٍ. نقطة أخرى، هي عدَم المُتابعة وعدم المضي نحو خطواتٍ لاحقةٍ بصَدَد الموضوعِ الذي تمَّ طرْحه.

نشاطاتٌ ثقافيَّةٌ بأيّ ثمنٍ؟

في بلداننا يتِمُّ رصْدُ الميزانيات للمُنظَّمات المَعنيَّة بإقامة النشاطات السَّنوية أو بشكلٍ دوْريٍّ وفْق شروط واعتبارات لا يعلم بها إلاَّ المُقرَّبون من تلك الأوْساط..

اليوم، أصبح لا أسْهل من إقامةِ مهرجانٍ ثقافي، فني أو أدبي في بلداننا، بمجرد الحصول على موافقة الجهة المعنيَّة برصد ميزانيةٍ لإقامته، حينها تشتغل الصَّداقات والمُجاملات، لتجِدَ تكرارًا مُمِلاً لوجوه غير ثقافيَّةٍ حاضرةٌ بدون أنْ يكون لها أيّ وظيفةٍ سوى أنَّها شخصيَّةٌ فُرِضتْ ضمْن صفقة الحصول على الميزانية. وحتى الحصول على موافقة الجهات المعنيَّة تخضعُ في أغلب الأحيان للمجاملات والمحاباة والتَّوصيات من قِبَل المسؤولين..

مثلاً، تُقام مهرجاناتٌ أدبيَّةٌ فتجِدُ حضورَ أُناسٍ لا علاقة لهم بالإبداع الأدبي لا من قريب ولا من بعيدٍ، أو تجد المهرجانات الفنية تضُجُّ بنُشطاءِ مواقع التواصل، الذين لا شغْل ولا شاغل لهم سوى تسجيل المقاطع المقززة والسیلفیهات القبِيحة، وعرْض أجسادهم وآخر مقتنياتهم. ولا تعرف السببَ ولا الهدفَ من وراء مثل هذه المهرجانات سوى أنَّها مناسبةٌ لالتقاء بعض الناس ببعضهم، وتبادل النَّميمة وقضاء وقتٍ في المجاملات الفارغة التي تُصيبُنا بالدُّوار.

لديَّ قناعةٌ راسخةٌ أنَّه في أيّ بلدٍ إنْ لم يكن هناك تخطيطٌ ونظامٌ يحكمان مثل هذه الأمور، فلن تكون لهذه النشاطات أيّ جدوى ولا تخدم الواقعَ الثقافي بشيءٍ.

أحمد الشطري
أحمد الشطري (شاعر وناقد من العراق)

الهَيْمَنَةُ الفَوْضَوِيَّةُ للثقافة الوَهْمِيَّة..

الأدبُ شأنُه شأن أيّ نشاطٍ اجتماعي يحتاج إلى التَّواصل والتَّحفيز، وهو فعل يستند على مُرتكزات تُسهِم في ديْمومَته وارتقائه وتطوُّره. والنصُّ الإبداعي هو أشْبه بالطفل، وكلُّ طفلٍ يحتاج إلى بيئة تُنمِّيه وتُقوِّم خطواتَه، وتُهيِّئُ له المُستلزمات التي تساعده على الفهْم والتفاعل والمُحاكاة لما حوله بالشَّكل الذي يمنحه القدرةَ على التأثير في الآخرين، وجذْبهم ومحاورة أفكارهم. وفي الغالب تمثِّل الملتقياتُ الأدبية والثقافية البيئةَ الخِصبة التي تتَّسم بالتفاعل المباشر، والذي يعكس الصُّورة المُثلى للتَّأثُّر بقيمة وجمالِيَة الخطاب الذي يحمله النصُّ الإبداعي، ومن ثّمّ فإنَّ ذلك الانعكاس سيستشعر بشكل أكثر وضوحًا وفاعليَّةً من قِبَل مُنشئِ النص. كما أنَّ تلك الملتقيات ستوفِّر نوعًا من التَّلاقح الفكري والثقافي والاجتماعي، والذي – بكل تأكيد – سينعكس إيجابيًّا على الحِراك الإبداعي سواءٌ من حيث الكمِّ الإنتاجي أو الرَّصانة الفنية.

وقد يُؤخذ على الملتقيات الثقافية في الوقت الراهن بأنَّها تعاني من شحَّة التَّفاعل الجماهيري، والذي يُعتبَر الهدفَ الرئيسَ لِبَيان فاعلية الخطاب الإبداعي، وعدم قدرتها على استقطاب جمهورٍ واسع يؤمن بأهميَّة رسالتها كما كانت عليه في العصور والأزْمنة الماضية، واقتصارها في الغالب على مجموعة المُشاركين أو بعض من أصدقائهم، وهي حقيقةٌ لا يمكن نكرانها، بَيْد أن ذلك – غالبًا – لم يكن نتاجَ خللٍ في الملتقيات أو بمن يساهم فيها؛ وإنَّما هو نتاج القفزات الواسعة في التطور التكنلوجي، والذي أسَّس لثقافاتٍ مُختلَّة وناقصة، كوَّنتْ أجيالاً تعتمد المعلومةَ “المُبَسترة” والسريعة بغضِّ النظر عن قِيمتها الفنية والجمالية الذاتية، ولكنها تُقدَّم بطريقة “الدلفري” مُغلَّفة بجماليات خادعةٍ، وتكاد أنْ تشابه الأكُلات السَّريعة التي أصبحتْ مَوضِع جذْبٍ للغالبية من الناس.

إنَّ هذا الانتقال الجماهيري لثقافة “الريلز” ساهم بشكلٍ فاعلٍ في تَهْشيم صورة الشاعر النَّجم الذي كانتْ عليه في زمن ما قبل الأنترنت، عندما كان لمجتمع الشعراء نُجومهم الذين تتَّجه إليهم الأنْظارُ أيْنما ساروا، وتُصغي لهم الأسماعُ كلَّما نطقوا، وتُضفَى عليهم الألقابُ المُميَّزة، والتي في كثير منها تُمثِّل واقعًا مَبنِيًّا على رُؤى نقدية، أو تأثُّر جماهيري حقيقي، وهذا الخُفُوت في اللَّمعان النُّجومي للشِّعر والشعراء هو نتاجُ ما يمكن أنْ يُشَبَّه بالصَّدمة المفاجأة التي تتولَّد عن مُستَجدٍّ حياتيٍّ مُباغتٍ خارج دائرة التوقُّع، أو هو أسْرع وأوسْع مِمَّا هو مُنتَظر. وبِناءً على ذلك، فإنَّ الغِياب النهائيَّ للملتقيات والفعاليات الثقافية سيعكس صورةً انهزامِيَّة للفعلِ الثقافي الحقيقي أمام الهَيْمَنَة الفَوْضوِيَّة للثقافة الوَهمِيَّة.

وبغضِّ النَّظر عن كل السَّلبِيَّات التي ترافق تلك الملتقيات، أو الصورةَ الظاهريَّة التي توحي بعدم جدواها في التأثير في الوعي المُجتمعي، إلاَّ أنّها تبقى ذات أثر مُهمٍّ وضروري – وإنْ بَدا غير مَنظورٍ- في المَشهد الحياتي بشكلٍ عام.

ومِمَّا لا شك فيه أنَّ كل مُلتقى ثقافي ينطوي على خصوصيات مُؤثرةٍ سلبًا أو إيجابًا، ولعلَّ مِنْ بعض إيجابيات تلك الملتقيات هو عملية التَّوثيق التي يمكن أنْ تُستَغَلَّ تقنيًّا في الجانب الإشهاري، كواحدٍ من أفعال المواجهة بذات السلاح مع الثقافة الوهميَّة التي ساهمتْ بها تلك التقنيات الحديثة. كما أنَّ عمليات التَّوثيق الرَّقمي تلك يمكن أنْ تمثِّل مَصدرًا من المصادر التي سيتمُّ الرجوع إليها في الدَّرس الأكاديمي، إذا ما أصبحتْ تلك التقنيات كواقعٍ مَفروضٍ في المَرْجعيات البحثية مُستقبلاً.

وأجدُ من الضرورة أنْ أشير إلى أنَّ تلك الملتقيات يجب أن تُراعَى فيها عواملُ الجودةِ والرَّصانة في اختيار ما تُقدِّمُه ومَنْ تقدمه، بعيدًا عن العلاقات الشخصية والنَّفْعية، والتي تساهم غالبًا في خلْق حالةٍ من النُّفور واليأس والخُذلان، ليس على صعيد الشُّخوص فحسب، وإنَّما على صعيد المُنتَج الإبداعي، سواءٌ بفعل التكرار المُمِلِّ للوجوه، أم بفعل الاشتراطات المُقيِّدة للفعل الإبداعي.

ليلى بومدين
د. ليلى بومدين (ناقدة وشاعرة من الجزائر)

حاجةُ الملتقى الأدبي إلى ضوء المعرفة اللسانية الحديثة

على الأدباء والمؤلفين وكذا المثقفين تَسبيقٌ لِدَيْبَجَةِ إستراتيجيةٍ هادفةٍ لِرَسْخ سَدادِ المضمون الأدبي الجزائري، في مُناجَدة مُتَنوَّعِه وأبراج مكانته لدى حياة الفرد بجميع الأعمار، وسَط بيئة ثقافية مَحْثوثة على الأحداث ومُنبسِطة على التَّشاطر الثقافي والمعرفي مع العالم.

ويجبُ التَّطرق إلى الظروف الرَّاهنة لقطاعات الثقافة والأدب والنشر والترجمة في مظاهرة استعراضٍ مع تنقُّطات قوةٍ تقتضي إلى إدغام نقاط الضعف الواكفة في التحديات للقطاعات الثقافية. يجب الاستناد على إستراتيجية للهيئة أو اللجنة المُنتدبة على إثراء وإغناء محتويات الملتقيات بتطوير منظومةٍ تنافسيَّةٍ مستدامة لتعزيز التَّواصل الفعَّال مع عَنادل العلاقة أو أصحاب الثَّراء الثقافي لإمامته، بهذا يُمكننا من أنْ ننزر وفْق خارطة طريقٍ أمْثل لتحقيق طموحات ومستهدفات الاستراتيجية الوطنية للثقافة حتى يكون دورًا حيويًّا في مَأْسسة العمل الأدبي لتتمة الاستدامة الثقافية بالتَّضاد والمواجهة في تميُّع الحاصل، وذلك وفْق صُرُطٍ أبْعد ما تكون عن المنهجية والتثمين في لقْط تجربةٍ ما، والفتور عن دَرَبات أخرى قد تكون تستوجب تلْييفًا، وأعزِّز على ضرورة  الإنْتاب والدراية بوجهات النظر المتعددة  سواءٌ عند الاكاديمي أو المبدع أو الهيئة المُنظِّمة للملتقى .

الثقافةُ بَداءَةً ليست بما تستحوذ من معلومات بل هي بمذْهبِيَّة تعلمك مع المُتَضادّ عنك، وصبرك وتجشُّمك على المختلف أو المتفاوت معك. الثقافةُ تستوجب إلى وعيٍ وإدراكٍ أكبرَ، فمثلاً عندما تقول بأنَّ (فلان) يخفر بعض الإقتباسات للأدباء وفلاسفةٍ أمواتٍ آنِفين سنقول بأنَّه مثقف لا…! فلما تأتي بمشْخص (الأديب فلان) هذا الأديب الزَّاهر جدا الذي رسخ حياته كسادِنٍ للمجتمع الإنساني من خلال كتابته، ثم تقبل أنت في بيئة مختلفة جدا وإنماء متسارع، فتأخذ  كتاباته نسخًا أو وضعًا كاستشهاد رغم أنَّ ما زاحمه (هذا الأديب) يختلف تماما مِمَّا تعاصره لأنه كابد أكثر مِمَّا تعانيه أنت، كوْنه هناك لم يكن أيّ مَطِيَّة نقْلٍ إعلامية تستطيع إنباءَ معاناة هذا الأدمي أو نقْل  معاناة المجتمع الذي عمَّر فيه، أنت تأتي وتحمل نفس كتاباته ومن دون أن يكون لك أيّ فعالية عليها، هذا الْتِكاكٌ، وهذه ليست ثقافة! هذا مجرد حِفْظ، أيُّ إنسان ممكن يحفظ، مُدَّعي الثقافة عندما يقرأ أو عندما يريد القراءة يبحث عن الإسم قبْل المعلومة، فلو أقْبل شخصٌ لم تسمع به من قبْل و قال كلامًا صادقًا، مُدَّعي الثقافة لن يستمد به لأنه ليس من النوافل المعروفة رغم أنَّ ما قاله صحيح، فمدَّعو الثقافة ينبشون عن الإسم قبْل المعلومة، بينما من يريد الثقافة حقًّا، ومن يريد التَّعلُّم تهمُّه المعلومةُ أكثر من اسم صاحبها، والمثقف يقُم بخلاف كل هذه المنقوضات، المثقف يترب إلى أنْ يتعلَّم كل يوم باعترافه، عندما تقول أنَّك شخص تتعلَّم الجزيل وتحتاج إلى أنْ تتعلم أكثر، هذا المثقف الذي يستطيع اشتمال كل أمرٍ يحدث في هذه الحياة فيؤسس أو يعاضد على تكريسه لصالح البشرية.

هناك نُدُبًا تبعث فينا الاستحثاث من خلال الكتابة والرغبة في تدبيج الأحداث. فالكاتب، برأي “لوكليزو”، يأمل في نموط البسط بأنْ يكون شاهدًا رغم أنه قد يكون في غالب الأحايين ليس إلاَّ محض ناظر تسود أجفانُه من رويته، لكنه بالمقابل قد يكون الكاتبُ شاهدًا فريدا، فيكون شاهدا رغم أنفه عندما يحث بنفسه عن ثمن شهادته، وتكمن المفارقة أنَّ ما يشهد عليه ليس ما لاحظه ولا حتى ما استنبطه، تكمن البسيلة وأحيانا في أنَّه ليس من الوفود الحاضرة وقت المرافعة!

لكن لا شك أنَّ الابتغاء الحقيقي في الكتابة عندما تظفر إزاء سطوة الذات، التي تنماع في النهاية تحت فورة فعل الكتابة ذاته.

أنا شخصيا، بجلجلة منحورة، ناكفتُ ذهنية ذكورية. حاولتُ أنْ انعتق نسبيًّا من تصفيد هذه الطائلة القبلية، في تجربة ذاتية اخترتُ فيها مرآة عاكسة بتقنية كلاسيكية، فمن رحم التزغم واليئيض أو الحاصلة الاجتماعية، كتبتُ أو بمعنى أصح دخلتُ عالم التأليف الخاص بـ ( الواقعية )، كواسطة تنكيس أعكسُ بها أدوال المؤتلف في المجتمع، برؤية حسية ملموسة  لردى المجتمع وحمولاته وسواجيله التي اشتملت كل الضمن الاجتماعية لأخفر الأحداث بتفاصيل واقعية وفرت فيها الهياكل المنطقية بتقنية كلاسيكية كانت أشد التصاقا بالواقع، فاهتممت بنقد الواقع وصورت الصراعات بأسلوب دقيق التفاصيل ليتسلل القارئ من خلاله إلى أحوال مجتمعه ويدرك بكل حواسه، حتى بسطت سطوتي المطلقة على الأحداث في تضاريس الواقع وأحراشه، ميسما تنفث من خلاله مرارة الواقع بكل تفاصيله وتعرجاته، أفراحه وأتراحه، لقد تبنيت الواقعية الإنتقادية من خلال وصف البيئة الأولى وعادات أهلها كما رصدت هموم المرأة في بلورة حرفية عبر مرآة شديدة التعرج والتهشم لتكون أطروحةً تحمل نتيجة استثنائية يعلو عليها معيار الجمال والعنف وشدته وضراوته وفظاعته، فعبرتُ بعمق وطوَّعتُ لغتي لتوائم السرد الذي كان صاخبا قويا ومتدفقا إلى أعمق الحدود، بل غار في بؤر الإحساس الذي ساور “ليلى بومدين” الكاتبة واقض مضجعي لأنِّي في النهاية فردٌ من المجتمع أئن واغتم لألمه، فأذبتُ حروفي لتقرأ في وحدة عضوية متماسكة وارتباط وثيق الشكل، وانبناؤه هو تلك الصيررة التي اتخذتها في سيرورتي نحو الاكتمال الذي كان متفاعلا في تعالق مخصوص بين الشكل و المضمون.

نعم حررت ليلى في ظهور تجريبي، جابهتُ فيه شظايا الحمم البركانية فتجاوبت ذاتي من أطوق الصمت مستمدة العون من عنفوان الوعي ووجهته فعبرت عن شجوني بإعادة توليف الخطاب.

الشخصيات المقلدة (تبعية)! الشخص المقلد هو شخص (تابع) لا يملك شخصية منفصلة عن الآخر، إنما شخصية تقتبس الرأي من الشخصيات الموجودة حولها، وهي لا تملك محتوى خاصا مجردا أو مستقلا بحد ذاته، وهذا أكيد يدل على وجود خلل ما، وأن الشخص ليس لديه القدرة على أن يحدد مبادئه وقواعد حياته فيذهب لتقليد الآخرين لإثبات ذاته من خلالهم للاسف هذه الآفة اصبحت عدوى إذا أصابت مجتمعنا أضاعته، لأننا نتفاخر بالتقليد الأعمى.

للأسف الانتقاد واللوم الدائمين يعتقدون أن العيب منا واعتادوا على المخاصمة لوقت طويل بسبب تفاهات ويفرضون علينا قواعد صارمة إلى حد الاتهام بالقسوة وصعوبة المراس لأني لا أنساق إلى افكارهم الذليلة، لأني لا أسمح بالسخرية إلى درجة عدم السماح لهم بالتعبير عن مشاعرهم السلبية، ودائما كنا نختلف بسبب العنف السلبي وعدم احترام الحدود الشخصية للأسف أدوارهم معكوسة، يضربونني بانتقادهم ويقولون إنِّي من استفزتهم.

وأخيرًا فهمتُ أنَّ الابتعاد عنهم أو بمعنى أصح الاستقلال والتخلص من سلبياتهم، إلى درجة الانسحاب من حياتهم دون خسائر، وهذا البعد لم يكن بالمسافة الفيزيائية لكن بالمسافة النفسية، فاخترتُ أو تحينت الفرصة واستغليت وهذا جهاد شاق جدا.

للأسف آل المشهد والحراك الثقافي إلى الارتطام والمجادلة، وبالتالي آضت الملتقيات إلى تنظيمات لا يسمع بها إلاَّ المدعوون! هذا الإعتلال يحمل مطارق العضارطة التي تعكس وضعا يائسا طالته صعاليك التشنجات الشكسة وصرمت حتى شانت فنالت من سموها، هذا الجو المداهن الذي يعمل البعض على جعله قاعدة لازبة لنمط هجن لا يتسق ومفهومه الثقافي ومتفرعاته، إن الإسقاط والتهميش والصرعات الشاغرة من أبعاده المبعدة كلها انتقاص إلى هذه المشهدية، وتستحوذ دون إنماء المشهد وازدهاره.

علينا أن نستحدث هذا المشهد بالحنو والتتالى والمطارحة الإيجابية، لأن المنازعات القائمة في المشهد الثقافي الجزائري هي في أساسها صراعات طابورات لا صراعات اكتفاء، وعلينا أن نرسخ لثقافة النخب لا ثقافة الوكف، وبذلك يمكن للمشهد الثقافي أن ينسل من ميزة الكساد والإسقاط والمحاباة ونذهب به إلى خيلاء الإعزاز والإحداث الجمالي.

يجب الاستفسار من مناهج البحث المتفاوتة حول حقول الأدب المعرفية والاحتذاء بدراسة ومعالجة تلك الظنات أو القضايا المطروحة من خلال الاجناس في شتى صنوف وفصول البحث حتى يكون الأس التداولي للأدب يضمن ضمن بلورات الدارسون لإس وتشكيل الحدث اللساني حول حيوية الملفوظ باعتباره انعكاس بنيوي المقاصد في تواترية الحدث وزرع النمط اللساني ووظيفته الدلالية في إقراء المعيار البلاغي، وبذلك إنجاز أيّ ملتقى أدبي يجب أن يكون تحت ضوء المعرفة اللسانية الحديثة.

-الأيام نيوز

Exit mobile version