“العام الجديد الذي لم يأت أبدا”.. أمنية أن يموت الديكتاتور

حاز الفيلم الروماني «العام الجديد الذي لم يأتِ أبداً» على جائزة الهرم الذهبي في الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي. يتناول الفيلم الأيام الأخيرة قبل سقوط حكم نيكولاي تشاوشيسكو، وهو من إنتاج عام 2024، ويبلغ زمن عرضه 138 دقيقة. الفيلم من تأليف وإخراج بوجدان موريشانو، في أولى تجاربه الروائية الطويلة.

البداية

في 16 ديسمبر/كانون الأول 1989 عندما تظاهر الناس في (تيميشوارا)، ضد قرار المحكمة بطرد القس الإصلاحي لاسزلو توكيس، ونقله إلى منطقة أخرى. وعلى خلفية تدني مستوى المعيشة وانهيار الاقتصاد، وكذلك انهيار النظام الشيوعي الأوروبي في البلدان الاشتراكية السابقة، اندلعت ثورة مناهضة للشيوعية. وفي 20 من الشهر نفسه، أُعلنت تيميشوارا أول مدينة خالية من الشيوعية في رومانيا، ثم اجتاحت الثورة العديد من مدن البلاد. وفي اليوم التالي اندلعت المواجهات في بوخارست. وخلال 4 أيام متتالية تواصلت الثورة والمواجهات بين الثوار والجيش والشرطة السرية، حتى سقط حكم تشاوشيسكو، وتم إعدامه في 25 ديسمبر 1989.

الفيلم

تبدأ أحداث الفيلم في الأيام الأخيرة لسقوط تشاوشيسكو، فالجميع يستعد للعام الجديد، وسط الانتفاضة في منطقة بعيدة عن العاصمة بوخارست، وحيث تواصل وسائل الإعلام (الصحف، الإذاعة، التلفزيون) التسبيح بحمد تشاوشيسكو وتزييف الحقائق، وتصف مدى الرخاء الذي لم تعشه البلاد إلا في ظل الرفيق الرئيس الحي. على هذه الخلفية السياسية تتحرك الشخصيات المتباينة، وتتضافر العلاقات في ما بينهم ولو من بعيد، كممثلين لفئات أو نماذج من الشعب.. عامل نقل أثاث، ممثلة مسرحية، طالب جامعي، مخرج تلفزيوني، ضابط في الشرطة السريّة، أم الأخير المتقدمة في السن.

الحكاية

مع بداية الاضطرابات والأنباء المتوالية عن الحياة السعيدة المستقرة، فقط في إذاعات الدول الغربية المجاورة، والتي يتم الاستماع إليها على استحياء ورعب تتواتر أخبار الثورة والقتلى، وخلال اليوم يتلقى (جيلو) عامل شركة نقل تعليمات من رئيسه بالذهاب إلى أحد المنازل لنقل الأثاث إلى عنوان آخر، هذا المنزل الذي تقرر هدمه مع منازل الحي بالكامل، حتى تتمكن الدولة من القيام بأحد مشروعاتها العظيمة ـ كتالوغ واحد لعظمة القيادة السياسية الحكيمة ـ وهنا يلتقي هذا العامل وساكنة المنزل العجوز (مارجريتا) التي تجاهد ألا تترك منزل ذكرياتها وتماطل في الرحيل، وتعطي العامل نقوداً ليشتري لطفله هدية عيد الميلاد، على أن يساعدها في تغطية النوافذ بعازل للصوت، نوافذ البيت الذي سيُهدم خلال يومين على الأكثر! وبالفعل يستجيب العامل، إلا أن تدخل ابن مارجريتا (إينوت) ونهره لأمه والرجل يوقف مهمة عزل الصوت هذه. مع ملاحظة أن إينوت هذا يعمل ضابطاً للشرطة السريّة، الجهاز الأمني المرعب في البلاد ـ أشبه بأمن الدولة أو الأمن الوطني في ثوبه الجديد ـ هذا الرجل مُكلف بمراقبة النشاط الطلابي في الجامعات، أو ما يُسمى بـ (الأعمال العدائية) من كتابات وأعمال فنية ضد النظام الحاكم، يترصد طالب الهندسة (لورينتو) وصديقه، حيث يقرر كل منهما عبور الحدود والفرار من الفردوس الأرضي المُسمى (رومانيا). لورينتو بدوره ناقم على أبيه (ستيفان) ويعتبره في عداد الأموات، لأنه ينهره دوماً على أفعاله خوفاً على مستقبله. وستيفان مخرج في التلفزيون الوطني ـ تلفزيون الدولة ـ يُعاني من مأزق في العمل، من الممكن أن يُنهي حياته المهنية، فهو يقوم بإخراج عرض وطني بمناسبة العام الجديد، وتهنئة الأب والعم نيكولا ـ الاسم الشعبي لتشاوشيسكو ـ وهو ما يُشبه (الزعيم الخالد) و(الأب القائد)، أو حتى (الرئيس المؤمن)، إلا أن الممثلة الأساسية في العرض ـ الذي لم يُعرض بعد ـ هربت وفرّت من البلاد، والخوف من إذاعة العرض وربما تظهر على شاشة دولة غربية تفضح النظام من خلالها، فكان لا بد من استبدالها بممثلة تقاربها شكلاً، وبعد البحث الطويل، وفي أجواء من التوتر والرعب، بفضل مسؤول الإعلام في الجهاز الأمني، يتم التوصل إلى (فلورينا) الممثلة المسرحية، التي تتصدر مجموعة قوى الشعب المتحالف ضد قوى الرجعية في الفقرة الدعائية، والتي عليها تأدية عبارات تمجد نجم رومانيا وبطلها الأوحد (الأخ الحي دوما) تشاوشيسكو، باعتباره (الابن الأكثر حباً للشعب)، فلورينا التي تستمع إلى الأحداث الحقيقية للثورة وحيدة ومرتعبة في منزلها، وهي من الناقمين على البطل الحي المشكوك في موته أو زواله.

السخرية

رغم الأحداث والأجواء القاتمة لتلك الأيام ـ لم تتغير الصورة بشكل مطلق حتى الآن ـ التي أكدها صانع الفيلم في الكادرات الضيقة والألوان القاتمة والضبابية في أغلب مشاهد الفيلم، إلا أن السخرية هي الحل السحري لمواجهة الثقة المطلقة لأي نظام ديكتاتوري، لأنه في الأساس خارج عن المنطق ويستدعي الضحك، لأن أصحابه في الغالب يعيشون حالة من الجنون، وبالتالي يثيرون الضحك. فما بالك بإنسان يتمثل دور الإله، بل ويصدق نفسه ويصدقه مَن حوله خوفاً أو تحقيقاً لمصالحهم، ويتعاملون معه على هذا الأساس، فالإله له منطقه الخفي غير المُبرر في أغلب الأحيان لمخاليقه، بينما لو تمثل الإنسان ذلك سيوضع في صف المجانين، وهي مقارنة ما بين العقل المطلق وانعدامه.

المأزق

الجميع هنا في مأزق، لن يُحل إلا بسقوط (إله المجانين).. فالمرأة العجوز بعد نقلها إلى شقة ذات حجرات ضيقة، تغادرها ليلاً عائدة إلى منزلها، وفي الطريق يحاورها سائق التاكسي الذي يعرف باقتراب إزالة الحي الذي تسكنه بالكامل، ويدعو لها الله بالحماية، فترد قائلة.. «إن الله نفسه لا يستطيع أن يحمي كنائسه». تذهب وترتدي ملابس لها ذكريات عزيزة، وتنام بعدما تستكمل وضع الشريط اللاصق مانع الصوت على زجاج النوافذ، لتتضح خطتها، بأن تشعل الغاز وتُنهي حياتها بإرادتها وقت هدم المنزل. كذلك يتم القبض على الشاب الجامعي وصديقه قبل عبورهما الحدود، فقد كانا مراقَبين منذ البداية، وقد تقرر سلفاً التضحية بصديق الشاب عديم الأهمية من قِبل أجهزة الأمن، أما ابن المخرج، فهو ورقة ضغط على الرجل من الأفضل استخدامها، وبالفعل يتم الإيعاز للمخرج بأن ابنه في خطر، وعليه كتابة التقارير في رفاقه لإثبات حُسن النوايا، وتشجعه زوجته على ذلك خوفاً على مستقبل ابنهما، بل تمليه تقريراُ نموذجياً، ليكتشف مدهوشاً أنها خبيرة تقارير، لتجده في الصباح قد قام بتمزيقه، وليواجه ابنه مصيره حسب مشيئة جهاز أمن الرئيس الحي. أما الممثلة التي لا تستطيع الرفض فحاولت البحث عن حلول أخرى كتشويه وجهها والعبث بصوتها حتى لا تصلح لأداء الدور، ليبدو الأمر خارجا عن إرادتها، فتذهب لجارها دائم الشجار مع زوجته وضربها، تستجديه أن يضربها ويشوه وجهها، فيرفض الرجل وتثور الزوجة لكرامتها ويطردانها، فتقوم بضرب وجهها وهي تردد كلمات تمجيد الطاغية، كذلك تأكل الثلج وتشرب كثيراً حتى تصيب أحبالها الصوتية، كي لا تخرج من شفتيها كلمات التمجيد الزائفة، وتذهب إلى التلفزيون في الموعد المحدد، مُتعللة بأنها سقطت على وجهها وأنها أصيبت بالبرد، فما كان الحل سوى الماكياج وشرب الشاي الساخن، وأخيراً الاختناق بالبكاء عند تأدية بروفة العرض التلفزيوني، الذي سيُذاع بعد دقائق من انتهاء خطاب الزعيم في أكبر ميادين العاصمة.

لا تثق بأحد ولا حتى سانتا كلوز

ونأتي إلى عامل نقل الأثاث، وهو صاحب الحدث الساخر الأهم ـ حكاية هذا الرجل كانت موضوع فيلم قصير للمخرج نفسه بعنوان «هدية عيد الميلاد» 2018، وهو الحدث الأساس في فيلم «العام الجديد الذي لم يأت أبداً». يعود العامل (جيلو) وقد اشترى بنقود عجوز منزل الذكريات هدية لطفله الصغير بمناسبة عيد الميلاد، وبينما يجد طفلاً يقوم بإشعال المفرقعات الاحتفالية، يعنّفه ويأخذها منه خشية فزع وإخافة المارة. وبالحديث مع طفله عن أمنياته، وماذا سيطلب من (سانتا كلوز) يطلب الطفل لعبة قطار، فيُجيبه الأب بأنه يعتقد أن سانتا سيُحضر له مجموعة من الأقلام الجميلة، ويطلب الطفل لأمه حقيبة جلدية جديدة، بدلاً من القديمة المتهالكة، كل ذلك في جلسة عائلية لطيفة، وفي الأخير.. ماذا طلب لأبيه؟ يجيب الطفل الذي كتب خطاباً لـ (سانتا كلوز) بأنه طلب بأن تتحقق أمنية أبيه، أن يرى (العم نيكو) ميتاً ــ لقب تشاوشيسكو ــ لا يستوعب الأب الأمر في البداية، ولكن الطفل يؤكد له، وأنه قام بوضع الرسالة ـ المدوّن بها عنوانه بالتفصيل كما علمته أمه متباهية حفظ عنوان المنزل وكتابته بدقة ـ في صندوق البريد، فيُصاب الأب بالذعر والهياج، ويصف طفله بالخائن، وكذلك زوجته. يحاول إجبار الطفل على تغيير الخطاب وذكر شخص آخر، لكن الطفل يحب هذا الشخص ولا يمكنه أن يتمنى له الموت. فيذهب الرجل إلى صندوق البريد ليغرقه بالمياة، حتى يزول الحبر المكتوب به خطاب الأمنيات المُميت.

العام الجديد

تأتي الأوامر للعمال، ومعهم (جيلو) بالذهاب إلى ميدان الاحتفالات، ضمن حشود التسبيخ بحمد (العم نيكو) الذي سيُلقي خطابه، موضحاً لشعبه الحبيب الطيب المهاود، مدى حكمة قراراته في ردع القِلة المندسة التي أرادت تشويه وتعطيل مسيرة الرخاء، بل يحمل جيلو صورة كبيرة للزعيم العجوز، ويقف خلفه أحد العمال، هامساً بأنها الفرصة المناسبة، فقط.. أي فعل سيُنهي الأمر. هنا يجد جيلو خلاصه الشخصي مرتعباً مما سينتظره جرّاء خطاب الطفل البريء، فيُخرج مفرقعات الأطفال التي لم تزل في جيبه، فيشعلها خلسه ويلقيها، ليظنها الحشد طلقات رصاص، فتقوم القيامة، وتنقل شاشات التلفزيون ما يحدث، واندهاش الطاغية، ومحاولته تهدئة الجميع، في مشهد يُشبه (بن علي) وكلماته المتكررة.. «أنا فهمتكم». لتبتسم الممثلة باكية بكاء الخلاص، وتنهض العجوز وقد انقطع الغاز عن المنزل، فلم تمت، فقد قامت الثورة وسقط تشاوشيسكو.

الذي لم يأت أبداً

ولكن.. إذا كانت هذه النهاية، فلماذا (لم يأت أبداً) هذا العام الجديد؟ وإن كان العنوان مُحيرا بعض الشيء، إلا أن الإجابة ساخرة بدورها، فالرجل الذي تولى الحكم بعد تشاوشيسكو كان أضل، وقد واصل ارتكاب المجازر باسم تشاوشيسكو، فإيون إيلييسكو ـ الذي لم يزل حياً ـ وزير الشباب في عهد تشاوشيسكو، قاد البلاد على رأس (جبهة الإنقاذ الوطني)، وكان أول رئيس منتخب لرومانيا الديمقراطية، (1990 ــ 1996)، وفترة أخرى (2000 ـ 2004). وقد تم التحقيق معه مؤخراً في 2019، لمقتل 862 شخصاً سقطوا برصاص عشوائي، إضافة إلى سقوط 2150 جريحا بين 22 و31 ديسمبر، أي بعد مقتل تشاوشيسكو نفسه، وقد أقرت النيابة بأنه «قام بعملية تضليل واسعة، من أجل الحصول على شرعية في نظر الشعب»، لكنه لم يُدن، ويشغل الآن منصباً في البرلمان، وهو الرئيس الفخري للحزب الاجتماعي الديمقراطي. فبالضرورة .. لا بد ألا يأتي العام الجديد أبداً.

Exit mobile version