مقالات
أخر الأخبار

الهيمنة ونقيضها في اليمن

محمد العلائي

من سوء حظ اليمن أو من حسن حظه، لا أدري، أن وضعه وتكوينه لم يسمحا أبداً بنشوء مركز سياسي يحتفظ بهيمنة منتظمة على البلاد كلها، قرناً بعد قرن، دون انقطاع.

لو وُجد مثل هذا المركز، لكان حال اليمن اليوم أفضل: أقل انقساماً، وأكثر رسوخاً وتجانساً، والشخصية الوطنية أكثر صلابة.
فالمشكلة إذاً ليست في وجود “هيمنة”، بل في نقصها؛ وليست في استبداد ثابت لمركز واحد، بل في تعدد المراكز، وتنازعها، وتغيّرها على مرّ العصور.
وعليه، فإن نقيض الهيمنة، في التجربة اليمنية، لم يكن الدولة الفاضلة العادلة، بل كان التفتت والتشرذم، بوصفهما ردّ الفعل التاريخي المتكرر على المركزة والدمج والربط.

ومثلما لم ينشأ في اليمن مركز سياسي دائم على كل البلاد، كذلك لم ينشأ نسق دائم للانقسام والتجزؤ؛ فلا مواقع ثابتة للدويلات التي تناوبت في الظهور والأفول، ولا حدود مستمرة.
في كل دورة انقسام، تتبدّل المراكز، وتتغيّر الحدود، وتظهر كيانات جديدة على نسق جغرافي مختلف، لا يشبه ما سبقه.
وهذا ما يتعارض بوضوح مع ما ذهب إليه سيد مصطفى سالم، من أن “تفتت وحدة اليمن كان يظهر في أقسام تقليدية مكررة”.
اليمن لم يعرف ثباتاً في التوحيد والمركزة، ولا انتظاماً في خرائط وأنساق الانقسام.

وتلك الكثرة من الدول الصغيرة والكبيرة، والممالك والسلطنات والمشيخات، وتلك الكثرة من الألقاب والمراتب والمراكز والحصون والرموز، التي نجدها هنا وهناك على امتداد تاريخنا، قد لا تكون سوى التعبير السياسي المباشر عن نزعة يمنية متأصلة ضد كل هيمنة أحادية منتظمة، ضد رسوخ واتصال الدول.
وهو ما يقوض الشرط الذي بوجوده، كما قال ابن خلدون، ترسخ الدولة وتستحكم الحضارة!

ومن هنا، لا يمكن اعتبار التشظي السياسي نوعاً من “تداول السلطة”، كما ذهب أحمد الأحصب في دراسته الممتازة “هوية السلطة في اليمن”. فالتداول لا يكون تداولاً إلا داخل إطار وطني موحَّد، لا عبر تناوب سلطات متفرقة في جغرافيات منقطعة.
ومع ذلك، فإن محاولة الأحصب تستحق التقدير، إذ يمكن فهمها كمحاولة نقدية لمواجهة التصورات التي شاع تداولها في العقود الأخيرة حول وجود “هيمنة زيدية” مستمرة على اليمن.
وقد وُفِّق الأحصب، إلى حدّ بعيد، في مسحه التاريخي الواسع للدول اليمنية، والمراكز السياسية، والسلاطين والملوك والأئمة الذين تعاقبوا على الحكم.
وكان لسان حاله: لنسلّم، جدلاً، بمنظورات الهويّة والعرق في قراءة السلطة اليمنية، فأين هي الهيمنة الممتدة والمستمرة على اليمن كله من أي طرفٍ كان؟

والقارئ ينتهي من قراءة كتاب الأحصب إلى أنه لا وجود لهيمنة واحدة مطلقة، بل شبكة معقدة من الكيانات المتزامنة أو المتعاقبة، جاءت من خلفيات مناطقية، أو مذهبية، أو عرقية، في ظل غياب طويل الأمد لمركز سياسي دائم.

زر الذهاب إلى الأعلى