
يختار ترامب المعارك مع الحلفاء، وخاصة الأصغر منهم، وإذا سارت الأمور على ما يرام، سينتهي به الأمر بشيء يمكنه تقديمه كـ”انتصار” لقاعدته الانتخابية دون مخاطر نزاع أوسع ومدمر، ترامب لن يحصل على مثل هذه الانتصار من “كيم جونغ أون” أو “شي جين بينغ” أو “بوتين” ولكن ربما يحصل عليه من الدنمارك أو كندا أو بنما، ترامب جاد فعلًا بشأن توسيع نفوذ الولايات المتحدة، ولكن ما يريده في الأساس هو ممارسة الضغط على الدول الصغيرة التي لن تقاوم.
حديث الرئيس الأمريكي السابق والمنتخب “دونالد ترامب” عن ضم كندا وشراء جزيرة جرينلاند والاستيلاء على قناة بنما، يمثل سلسلة من التصريحات المثيرة للجدل التي تعكس نهجه الخاص في التعامل مع السياسة الخارجية الأمريكية، هذه الأفكار التي طرحها “ترامب” سواء كانت جادة أو مجرد تصريحات رمزية، تفتح الباب أمام نقاش واسع حول دلالاتها وتداعياتها السياسية والأمنية على الساحة الدولية.
فالتصريح بضم كندا، أحد أقرب حلفاء الولايات المتحدة وشريكها التجاري الأكبر، وإن بدا كطرفة، فإنه يتحدى الأعراف الدولية المتعلقة بالسيادة الوطنية واحترام الحدود المعترف بها دوليًا، أما عرض شراء جزيرة جرينلاند من الدنمارك فيعيد إلى الأذهان سياسات التوسع الإقليمي التي سادت في القرون الماضية، مثل شراء ألاسكا من روسيا في القرن التاسع عشر، أما الاستيلاء على قناة بنما، فيعيد ذكرى التدخلات الأمريكية في أمريكا اللاتينية، ويثير مخاوف من عودة النزعة الإمبريالية في السياسة الأمريكية.
ترامب ينظر إلى الدول والأقاليم كأصول اقتصادية يمكن بيعها أو شراؤها، مما يعكس أسلوبه التجاري في التعامل مع الشؤون الدولية، ويثير تساؤلات حول مدى اهتمامه بالاستقرار العالمي ومبادئ القانون الدولي.
ورغم أن هذه الأفكار قد تبدو غير واقعية أو مستبعدة، إلا أنها تكشف عن مقاربة قد يكون لها تداعيات خطيرة على العلاقات الدولية، بما في ذلك إمكانية زعزعة الاستقرار الإقليمي والدولي، وتعميق الانقسامات بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين.
ما يريده ترامب حقًا من جرينلاند وبنما؟

قرأت العديد من المقالات والتحقيقات الغربية1 التي تناولت هذه التصريحات بالتعليق والنقد والسخرية أحيانًا، إلا أن أفضلها كان مقال “أليكس شيبارد”2 في مجلة The New Republic الأمريكية بعنوان: ما يريده ترامب حقًا من جرينلاند وبنما؟ ونُشر في 12 يناير 2025.
يناقش المقال دوافع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في طموحاته التوسعية لضم أراضٍ مثل جزيرة جرينلاند، وقناة بنما، وجعل كندا الولاية الأمريكية رقم 51، حيث يُظهر المقال أن هذه التحركات تعكس استراتيجيته العامة في السياسة الخارجية، التي تعتمد على مظهر القوة والترهيب، ويكشف نهج ترامب السياسي الذي يُركّز على المعارك منخفضة المخاطر مع دول أصغر، مثل الدنمارك وبنما، بدلًا من مواجهة قوى عالمية كالصين وروسيا، كما أن نهجه الدبلوماسي يعتمد على التصعيد وإطلاق التهديدات بدلًا من الحوار البنّاء.
وعلى جانب التحليل النفسي والسياسي، يشير المقال إلى أن ترامب معجب بالديكتاتوريين ويرى أن الأنظمة الديمقراطية ضعيفة، ويسعى ليكون مثل القادة المستبدين الذين يعجبونه، وأن دوافعه تحركها بشكل أساسي رغبته في تعزيز إرثه الشخصي وإرضاء قاعدته الانتخابية.
كما يشير المقال إلى المخاطر الجيوسياسية التي تترتب على هذه المواقف لترامب، فالعالم يواجه صراعات متزايدة، مثل التوترات في الشرق الأوسط وأزمة أوكرانيا، وأن ترامب قد يعجز عن التعامل مع هذه التحديات المعقدة، ما يزيد من احتمالية اندلاع أزمات أكبر.
ولا يُخفي المقال الدوافع الإمبريالية لترامب، فالرغبة في السيطرة على كندا وجرينلاند وبنما تعود جزئيًا إلى الرؤية الإمبريالية التي تُذكّر بسياسات القرن التاسع عشر.
ويرى الكاتب أن ترامب يخلط بين القوة الحقيقية والمظهر، وأن معظم تركيزه هو على تحقيق مكاسب رمزية لتعزيز صورته كرئيس قوي، مما يضع أمريكا في مسار محفوف بالمخاطر الجيوسياسية.
وهنا ترجمة نص المقال:
ما يريده ترامب حقًا من جرينلاند وبنما؟

في خطاب ألقاه في أريزونا الشهر الماضي، بينما كان الأمريكيون يستعدون للاحتفال بالأعياد، أطلق الرئيس المنتخب “دونالد ترامب” وعدًا مثيرًا للجدل: أنه سيعيد اسم “جبل ماكينلي” بعد أن أزالته إدارة “باراك أوباما” لتلبية رغبة سكان ألاسكا الذين أطلقوا عليه اسم “دينالي” في 2015، هذا التصريح قد يبدو كمحاولة للانتقام من “أوباما”، ولكنه يكشف عن إعجاب “ترامب” بالرئيس الخامس والعشرين للولايات المتحدة، “ويليام ماكينلي” الذي وضع البلاد على مسار توسعي إمبريالي أدى إلى ضم (هاواي والفلبين وبورتوريكو وجوام) خلال ولايته، كما أن إدارة “ماكينلي” كانت وراء الصفقة مع بريطانيا التي مهدت لاحقًا لإنشاء قناة بنما.
وهذا يعيدنا إلى هذا الشهر، حيث أعرب ترامب عن رغبته في السيطرة على القناة التي كانت تحت إدارة الولايات المتحدة حتى عام 1977، وأيضًا جزيرة جرينلاند، الإقليم التابع للدنمارك، والذي لم تطالب به أمريكا من قبل (رغم أن القوات الأمريكية احتلتها لأغراض دفاعية خلال الحرب العالمية الثانية)، في كلتا الحالتين، لم يستبعد “ترامب” استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافه، لكن هذا ليس كل شيء، فيبدو أن ترامب يطمع أيضًا في كندا، حيث وعد بجعلها الولاية الحادية والخمسين، وإن كان ذلك من خلال “القوة الاقتصادية” فقط، هذه رؤية توسعية شبيهة برؤية “ماكينلي” من حيث الطموح الإمبريالي، وإن لم يكن من حيث التخطيط.
قد يكون من المناسب تجاهل هذه التصريحات باعتبارها محاولات استفزازية؛ لأن “ترامب” يهوى إثارة الجدل، ولكن يبدو أنه جاد بما يكفي بشأن هذه الأفكار لدرجة أنه مستعد لإشعال نزاعات مريرة مع حلفاء رئيسيين أثناء استعداده لتولي المنصب، وهذا يكشف عن حقيقة مهمة حول نهجه في السياسة الخارجية بشكل عام، الذي يدور بشكل أساسي حول رغبته في الظهور بمظهر القوة، أو بالأحرى خوفه من الظهور بمظهر الضعف، ولهذا السبب يختار معارك غير متكافئة مع حلفاء أصغر، بينما يتجنب المواجهات مع الدكتاتوريين الذين يعجب بهم.
قدرات “ترامب” في التلاعب الإعلامي مبالغ فيها أحيانًا، لكنه دائمًا ما كان بارعًا في جذب الانتباه إلى مواضيع هامشية، وبغض النظر عما إذا كان استفاد من تحويل الانتباه عن قضايا مهمة مثل الصين أو الشرق الأوسط إلى موضوعات أقل جدية مثل شراء جرينلاند، فقد نجح في جذب اهتمام الإعلام وأرضى قاعدته الانتخابية التي أصبحت فجأة متحمسة لفكرة امتلاك جزيرة ضخمة غير مأهولة تقريبًا في شمال المحيط الأطلسي.
وإذا كنت جمهوريًا تبحث عن تبرير لهذه التصريحات “الترامبية” الكثيفة، فإن هناك حججًا اقتصادية وجيوسياسية تدعم هذا التوجه الإمبريالي، حتى لو كان سكان جرينلاند البالغ عددهم 55 ألفًا هم أطيب وأذكى أو أجمل الناس في العالم، فإنهم سيكونون بلا أهمية لأي حكومة عالمية، ولكن جرينلاند تحتوي على كميات هائلة من المعادن والنفط، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي في شمال المحيط الأطلسي الذي أصبح ذا أهمية متزايدة مع ذوبان الجليد القطبي وتنافس الحكومات على الكنوز التي قد تكون مخبأة تحت القطب الشمالي، أما قناة بنما، فهي ممر حيوي للشحن العالمي، والسيطرة عليها ستتيح لترامب القيام بإحدى الأشياء القليلة التي يحبها بوضوح كرئيس: معاقبة أعدائه ومكافأة أصدقائه من خلال رسوم المرور.
وكما هو الحال دائمًا مع “ترامب”، فإن التفسير الأكثر بساطة وربما الأكثر إقناعًا والأكثر غباءً هو أنه يرى الأراضي، مثل كندا، تبدو كبيرة جدًا على (إسقاط مركاتور)3 المستخدم بشكل شائع (والمشوه على نطاق واسع)، وأن امتلاكها سيكون دفعة هائلة لغرور الرجل الذي تباهى بعد ساعات من اصطدام الطائرات ببرجي مركز التجارة العالمي بأنه يمتلك الآن أطول مبنى في مدينة نيويورك!! (وهو لم يفعل ذلك، ولكن هذا ليس موضوعنا).
ترامب يريد جرينلاند:

في الواقع، تعزز هذه العداوات المصطنعة غروره في الوقت الذي نتحدث حوله الآن، وهذا أمر مقصود، فنظرة “ترامب” المشوشة للعالم ترى الديمقراطيات ضعيفة والديكتاتوريات قوية: فالصين هائلة، وكوريا الشمالية تمتلك قنبلة نووية، بينما يجب أن تكون روسيا أفضل صديق لأمريكا، فالصراع مع أي منها قد يؤدي إلى الدمار والحرب الشاملة، وبالنظر إلى تعييناته المبكرة، قد يُنهي ترامب ولايته الثانية غارقًا في صراعات مدمرة في جنوب آسيا أو الشرق الأوسط، لكنه يبدأها باحثًا عن طريقة منخفضة المخاطر ليبدو قويًا.
قد يكون “ترامب” مقلدًا للطغاة الذين يعجب بهم، فعلى مدى السنوات الأخيرة، وبينما كان في شبه عزلة بمنتجعه الخاص في (مارالاغو) شاهد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” وهو يلتهم أراضي في أوكرانيا، بينما كان الرئيس الصيني “شي جين بينغ” يمهد الطريق للاستيلاء على تايوان، في كل مكان ينظر إليه يجد دولة كبيرة وقوية تنتزع أراضي من جيرانها الأصغر والأضعف، فلماذا إذن تجلس أمريكا على الهامش؟!
لذلك، يختار “ترامب” معارك مع حلفاء، وخاصة الأصغر منهم، وإذا سارت الأمور على ما يرام، سينتهي به الأمر بشيء يمكنه تقديمه كـ”انتصار” لقاعدته الانتخابية دون مخاطر نزاع أوسع ومدمر؛ لأنه لن يحصل على مثل ذلك من “كيم جونغ أون” أو “شي” أو “بوتين” ولكن ربما يحصل عليه من الدنمارك أو بنما.
في الواقع، قال وزير الخارجية الدنماركي مؤخرًا إن بلاده “منفتحة على الحوار” بشأن التعاون مع “ترامب” لحماية المصالح الأمريكية في القطب الشمالي، يبدو هذا وكأنه انتصار لترامب!
هذا هو كل ما يهم “ترامب” في النهاية، يمكن القول إنه يرى هذا كفرصة مشابهة لغزو “رونالد ريجان” لجرينادا عام 1983، والذي كان حملة علاقات عامة يهدف إلى استعادة الشعور بالتفاؤل والقوة في أمة لا تزال تعاني من صدمة هزيمتها في فيتنام.
لكن “ترامب” لم يهتم أبدًا بمزاج الأمة، بل اهتم فقط بمزاج “دونالد ترامب” قصير الأجل جدًا. إن الاستحواذ على الأراضي، سواء كانت ذات قيمة مثل (قناة بنما) أو كبيرة جدًا مثل (جرينلاند) هو بالضبط نوع من تعزيز الإرث الذي لطالما طمح إليه أول رئيس أمريكي يعمل في مجال العقارات؛ فبالنسبة لـ “ترامب” لا فرق بين القوة الحقيقية ومظهر القوة، والاستحواذ على الأراضي سيجعله يبدو قويًا، مثل ذلك الرئيس الذي عاش في القرن التاسع عشر الذي أزيل اسمه من تلك القمة في ألاسكا ظلمًا.
ما يريده ترامب حقًا من جرينلاند وبنما؟

دوافع “ترامب” في السياسة الخارجية قد تكون نرجسية، ولكن المخاطر حقيقية، ففي 20 يناير سيعود إلى البيت الأبيض والعالم في حالة أسوأ بكثير مما كان عليه قبل ثماني سنوات، عندما تولى منصبه لأول مرة، التوترات مع إيران ربما تكون أعلى مما كانت عليه منذ أزمة الرهائن عام 1979، ومن المعتقد أن طهران على وشك امتلاك قنبلة نووية، وأي ضربة على منشآتها النووية، سواء من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل أو أحد أعدائها العرب الكثيرين، قد تتحول بسرعة إلى حرب إقليمية أو أسوأ، فالإدارة القادمة لـ “ترامب” ستكون مليئة بالصقور الذين يرغبون في مواجهة إيران، والعديد منهم متحمسون لمواجهة مع الصين، وبالنظر إلى القتال المستعر والمتزايد في أوكرانيا، ليس من المستبعد تخيل وضع يؤدي إلى تفعيل بند الدفاع الجماعي لحلف الناتو.4
في حملته الانتخابية، تحدث ترامب كثيرًا عن إيران والصين ولم يقل شيئًا عن جرينلاند أو قناة بنما، والآن بعد أن أصبح رئيسًا منتخبًا، انقلب الوضع، ومن السهل معرفة السبب، فمن خلال استقراء المناخ الجيوسياسي الحالي، يرى بالتأكيد العديد من النزاعات المحفوفة بالمخاطر على شفا الاندلاع في حروب مدمرة وطويلة الأمد، “ترامب” غير مؤهل بشكل كبير للتعامل مع تعقيد الوضع الجيوسياسي الذي ورثه، فهو يحتقر جميع أشكال الدبلوماسية باستثناء التصعيد، وحركته “الدبلوماسية” الوحيدة هي إطلاق التهديدات التي تتسم بالعدائية المتزايدة والسيطرة والجنون، لكن إن قام بذلك ضد قادة مثل “بوتين” و “شي” فهو لا يخاطر فقط بتأجيج التوترات، بل بكشف ضعفه بنفسه، لكن إذا ما دخل في مواجهة مع أحدهم كما فعل مع الدنمارك أو كندا الضعيفة سياسيًا، فقد يضطر للتراجع أو حتى الخسارة.
باختصار، يخشى ترامب هؤلاء الديكتاتوريين للسبب نفسه الذي يجعله معجبًا بهم، إنهم الرجال الأقوياء الذين لطالما أراد بشدة أن يكون مثلهم، وكان يمكن أن يكون كذلك، لولا أن ديمقراطيتنا المزعجة تحد من إمكانياته الكاملة.”
هامش:
ــــــــــــــــــ
مقالات أخرى حول الموضوع:
– Donald Trump’s Plan for New US Empire – Newsweek
– Trump’s Greenland Bid Cites U.S. National Security, Arctic Defense
– Trump’s Greenland Bid Cites U.S. National Security, Arctic Defense
– Donald Trump’s rhetoric of a new American imperialism
– A Better Plan Than Trump’s: Let’s Surrender to Canada! | The New Republic ↩︎
أليكس شيبارد هو محرر أول في مجلة The New Republic. ↩︎
إسقاط مركاتور هو نوع من الخرائط التي تُستخدم لتمثيل سطح الأرض على ورقة مسطحة، تم تطويره في القرن السادس عشر بواسطة “جيراردوس مركاتور” هذه الخريطة تُظهر خطوط الطول والعرض كخطوط مستقيمة، مما يجعلها مفيدة للملاحة، لكنها تُشوه الأحجام الحقيقية للأراضي، خاصةً بالقرب من القطبين، لذلك، تبدو الأراضي مثل كندا أكبر بكثير مما هي عليه في الواقع. ↩︎
تعد “المادة الخامسة” من معاهدة واشنطن، الوثيقة التأسيسية لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، حجر الزاوية في الحلف وأحد عناصر قوته وتنص على أن الهجوم على أحد أعضاء الناتو هو هجوم على جميع أعضائه.
المصدر: تبيان