
مستشار الرئيس السوري للشؤون الإعلامية
مقدمة: الذكرى الأولى للتحرير
في الذكرى الأولى للتحرير، تزاحمت الاحتفالات والمناسبات على الشعب السوري، في ظاهرة ربما غير مسبوقة في تاريخه، وهو الذي عاش في جمهورية المآسي والسجون والاضطهاد والقهر، بحقبة سوداء من تاريخ حكم البعث السوري منذ عام 1963 حتى الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 يوم سقط نظام بشار الأسد.
ولعل أجمل ما في احتفالات الذكرى السنوية الأولى للنصر، هي المظاهرات العفوية التي شهدتها كل المناطق والبلدات السورية، حتى مناطق الشتات السوري، مما عكس حالة استفتاء شعبي، وتصويت بالأرجل لصالح العهد الجديد، مما عزز حالة الانتماء الوطني للجمهورية الثانية، وعزز معه الوحدة الوطنية التي التقت على شعار كبير هو تحرير سوريا، وبناء مستقبلها.
فيلم “ردع العدوان”: توثيق الملحمة
صاحب هذه المناسبة، فيلم (ردع العدوان) الذي سعى إلى توثيق ما جرى من عدة واستعداد استغرقت سنوات، فالتقت الفرصة مع الاستعداد، للحظة استغلها الثوار يوم انطلقت جحافلهم من الشمال السوري، من أجل تطهير سوريا كلها من نظام كبلها لعقود.
ولعل من أهم الرسائل التي تمكن فيلم ردع العدوان (الذي قاربت مشاهداته على منصة يوتيوب وحدها حتى كتابة هذا المقال 2.5 مليون مشاهد تقريبا) من إيصالها:
- التخطيط لا الصدفة: أن المعركة لم تكن ردة فعل آنية، وهي التي ولدت من رحم الاجتياح الكبير الذي استهدف بعض مناطق الشمال السوري عام 2019، وكنت شاهدا عليه، حيث خسر فيه الثوار كثيرا من ريف حماة وحلب وإدلب، مع تهجير أكثر من مليون شخص.
- عزيمة الثوار: بالعزيمة والإرادة اللتين تحلى بهما الثوار وعلى رأسهم هيئة تحرير الشمال، كانت أقوى من ذلك الانكسار، إذ تمكنت من خلال برامج عسكرية وأمنية وخدمية وبغضون خمس سنوات فقط، من العودة أقوى مما كانت عليه.
- الوثبة الكبرى: كعادة الأسود التي تتراجع مترا أو نحوه لتثب وثبتها الكبرى، تحققت تلك الوثبة يوم السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2024، يوم انطلقت معركة ردع العدوان مستهدفة قبتان الجبل وريف حلب الغربي، لتمتد محاور القتال لاحقا إلى محاور إدلب، وتتقدم الجيوش لتكنس النظام المجرم من المدن الرئيسة حتى الوصول إلى درة التاج السوري دمشق، وذلك في غضون 11 يوماً.
بناء النموذج المستقل
عمد الثوار في إدلب طوال تلك السنوات إلى تحرير القرار العسكري والسياسي والخدمي للمنطقة، فوحدوا الجماعات كلها ضمن بوتقة واحدة ممثلة بـ حكومة الإنقاذ، التي نجحت في:
- تقديم أنموذج خدمي مميز مقارنة بالإمكانيات المتوافرة.
- تفوقها النوعي على نموذج النظام السوري البائد أو نموذج “قسد”.
- جذب السوريين من مناطق النظام نتيجة توفر الخدمات والأمن والمعيشة الجيدة.
الاختراق الأمني والمهنية العالية
عكس الفيلم مدى الاحترافية في العمل الأمني الذي سبق العمليات، ومن أبرز معالمه:
- الاختراق الأمني للأجهزة الداخلية للنظام السوري.
- قصة البطل خالد الذي انضم للأمن العسكري في حلب ووصل لأماكن حساسة، مكنته من تهريب مجموعة الانغماسيين الخمسة (مفاتيح النصر) الذين اقتحموا غرفة العمليات في حي الفرقان.
- إثبات استقلالية قرار المعركة، الذي كان قراراً سورياً بامتياز بطعم نبع الفيجة وبردى والفرات والعاصي.
“الجيش المنتصر دخل دمشق، لكنه لم يتوجه إلى القصور… بل إلى سجن صيدنايا”
لقد عكست هذه المعركة حقيقة ملموسة للجميع: أنها كانت من أكثر المعارك رحمة في التاريخ الحديث، حيث شاهد الجميع جموع المنهزمين بالآلاف خارجين من دمشق، بينما توجه الجيش المنتصر إلى سجن صيدنايا وغيره من السجون، إيفاءً بالقسم الذي أقسمه الثوار لتحرير المعتقلين، ولكن لم يتم العثور سوى على بضعة آلاف فقط.
القيادة والذكاء الإستراتيجي
لم تكن معركة ردع العدوان التي قادها الرئيس أحمد الشرع مجرد معركة عسكرية، بل كانت معركة متعددة الأبعاد:
- الذكاء السياسي: تجلى في رسائله للدول لتبديد مخاوفها بما يخدم مصالح الدولة الجديدة.
- ضبط الشارع: إعلان شعار (نصر بلا ثأر) الذي منع عمليات التهور والتجاوزات، وأكد قدرة القيادة على ضبط الشارع واستعداد الشعب للإنصات.
- الإدارة الخدمية: لعبت حكومة الإنقاذ برئاسة الأخ محمد البشير دوراً محورياً بنقل الكوادر للمدن المفتوحة فوراً لحماية المؤسسات وتوفير الخدمات، مما شكل سابقة واعدة.
الحالة التصالحية والشفافية
رسخ الفيلم الحالة التصالحية بين كافة مكونات الشعب السوري، وعلى الرغم من محاولات الفلول في الساحل أو الجماعات الخارجة عن القانون التأثير على هذه الأجواء، ظلت الدولة على نهجها:
- السماح للمنظمات الدولية بإجراء تحقيقات شفافة.
- مواجهة نظام مدعوم دولياً وإقليمياً بإمكانيات محدودة ولكن بإرادة صلبة.
- كشف الفرق بين “حالة البؤس” التي تركها النظام وبين “التنظيم” الذي حمله الثوار.
خاتمة: توثيق سنوات الجمر
على الرغم من الجهد الفني المميز، يبقى من قد يعترض على جزئيات في الفيلم، وهو أمر عادي في الأفلام العالمية، لكنه لا يقلل من قيمته كـ رواية رسمية لما حصل في تحرير دمشق بعد أن بلغ اليأس مبلغه.
الفيلم الذي قدم سردية في ساعتين ونصف تقريباً، ليس كافياً لسرد حكاية صمود شعب لم يستسلم أمام أسلحة الدمار الشامل (التي استخدمت 217 مرة) والبراميل المتفجرة، لكنه ظل وفياً لقسم الثورة بإسقاط النظام.. وقد فعل.







