
في “الأوراق الفيدرالية”، يشترك ثلاثة من الآباء المؤسسين الكبار للولايات المتحدة الأمريكية (الكسندر هاملتون مع جيمس ماديسون وجان جي) في صياغة دفاعات جدلية متينة ومدهشة عن “الاتحاد” ضد أطروحات أنصار الاستقلال والتجزؤ.
وإذ برهنت هذه الأوراق على أن فرص السلام الداخلي والسعادة في ظل الاتحاد أكبر منها في ظل التفرق، فقد قدمت أيضاً دفاعات لا تقلّ قوة ومتانة عن “الجمهورية” كمبدأ مؤسِّس للدولة لا بديل عنه.
كانت ظروف التأسيس والتوحيد تستوجب منهم بناء مفهوم معتدل عن الجمهورية قابلاً للتحقيق وفقاً لخصوصية الواقع الأمريكي، زماناً ومكاناً. ذلك أن الطبيعة الخاصة لكل بلد هي العامل الأهم في تقرير نوع السياسات الممكنة. والتجارب العملية التاريخية هي المرجعية الأكثر صواباً للاختيار بين الدساتير والنظم، وليس النظريات المجردة. وفي ضوء نتائج كل طور من أطوار التجربة يتم التنقيح والتحديث حين تستلزم الضرورة ذلك.
كتب هاملتون في تدوينة من تدويناته الصحفية الكثيرة الموجهة إلى أهالي نيويورك ردوداً قوية على من عابوا الحكم “الجمهوري” بمبرر عدم ملاءمته للدول ذات المساحات الشاسعة، وقالوا إنه لا يناسب إلا المدن (الدول) الصغيرة، وأسندوا قولهم بآراء مجتزأة من سياقها لـ مونتيسكيو، أو بنماذج سيئة من حقب مختلفة من تاريخ الإغريق أو الرومان.
[بعد مونتيسكيو جاء روسو فقال في “العقد الاجتماعي” إن المَلكية تلائم الشعوب الموسِرة، والأرستقراطية تلائم الدول المتوسطة الثراء والاتساع، وأن الديمقراطية لا تلائم غير الدول الصغيرة والفقيرة، “ولذا يجب، لتكون الحكومة صالحة، أن تكون أكثر قوة نسبيًّا كلما زاد الشعب عددًا”.بخصوص الديمقراطية، هكذا قال فولتير أيضاً المعاصر لروسو: “تبدو الديمقراطية مناسبة لبلد صغير جدًّا فقط، فضلًا عن أنه لا بد وأن يكون في موقعٍ جيد. ومهما يكن صغيرًا؛ فسيَرتكب أخطاءً كثيرة؛ لأنه سيكون مكوَّنًا من البشر”]. رفض هاملتون أقوال مونتسكيو، لأن الإذعان لها من شأنه أن يقود إلى نتيجتين غير مرغوبتين:
إما قبول التمزق إلى جمهوريات صغيرة متنازعة متحاسدة، أو قبول فكرة الاتحاد في ظل حكم ملكي بما أن الولايات الأمريكية كبيرة المساحة.
يقول هاملتون: “ولذلك فنحن إن أخذنا أفكاره (يقصد مونتسكيو) المتعلقة بهذا الموضوع بمعيار الصدق والحقيقة- أفضى بنا الأمر إلى البديل، إما اللجوء فوراً إلى أحضان النظام الملكي أو التوزع إلى عدد لانهائى من مجتمعات رَفهٍ عام، تكون صغيرة المساحة متحاسدة دائمة التصادم كثيرة الصخب، تشكل حاضنات مناسبة للفوضى وتكون أهدافنا تعيسة تثير شفقة العالم عليها واحتقاره لها”.
ثم يحاول هاملتون إعادة تأويل وملائمة بعض آراء مونتسكيو مع ما ينشده بحيث يجمع في نظام واحد بين الاتحاد الفيدرالي لبلاد واسعة والحكم الجمهوري: “إن مقترحات مونتسكيو بعيدة جدا عن معارضة قيام اتحاد ولايات عام، إلى درجة أنه يعالج بكل صراحة جمهورية كونفيدرالية ويعاملها بصفتها ضرورة متطلبة لتوسع فلك حكومة شعبية والاستعاضة عن ميزات النظام الملكي بحسنات النظام الجمهوري”.
وهكذا فهاملتون يحاجج ضد تقييد الحكم الجمهوري برقعة جغرافية ضيقة، رافضاً الخلط بين الجمهورية والديموقراطية،
وفي هذا السياق جاء التمييز المرتجل الذي وضعه بينهما:
في الديمقراطية يلتقي الأفراد (المواطنون) ويمارسون الحكم بأنفسهم، أما في الجمهورية فهم يعقدون الاجتماعات ويديرون دفة الحكم من خلال ممثليهم ووكلائهم، ومن ثمّ فالديمقراطية بطبيعتها هذه تناسب المدن الصغيرة وأما الجمهورية فيمكنها أن تتسع لتشمل منطقة كبيرة المساحة، وبالتالي فأمريكا صالحة لأن تكون جمهورية.
لا يهم إن كان تمييزه بين الجمهورية والديمقراطية “علمياً” أم لا، فالمهم هو أن الحاجة “العملية” والمصلحة الوطنية هي التي فرضت عليه وعلى زملائه في ذلك الوقت اقتراح أو حتى اختلاق تفريق كهذا.
ما المستفاد من الدرس الأمريكي؟
– التجربة والحاجة العملية الموافقة للمصلحة العامة هما مقياس الاختيار في أمور الدولة والحكم.
هل يجب على الجميع محاكاته والسير على نهجه؟
– لا يجب ذلك. لكل بلد جدليته الخاصة. يأخذ من غيره ما يناسبه ويترك ما سواه.
وإنه لمن المفيد في هذا الصدد أن ننقل فقرة من محاضرة غنية بالأفكار المفيدة ألقاها الزعيم الصيني “صن يات صن” عام 1924م وترجمها إلى العربية عباس محمود العقاد في كتابه عن هذا الزعيم الذي يوصف “صن” بأنه “مؤسس الصين الحديثة”، لدوره الريادي في التحضير والإعداد -تنظيراً وتنظيماً- للحركة الثورية التي أطاحت في النهاية بأسرة المانشو الامبراطورية الحاكمة، وشرعت في تأسيس النظام الجمهوري في الصين عام 1912م.
يقول صن: “ومنذ رأى بعض الصينيين أن الولايات المتحدة الأمريكية تقدمت إلى مركزها الحاضر غنىً وقوة على نهج الدساتير الاتحادية [الفيدرالية] التي لا تترك الشئون المحلية لسلطان الحكومة، إذا بأولئك الصينيين المثقفين يتخيلون أن الصين لن تنال الغنى والقوة إلا بالدساتير الاتحادية.
ولم يشغلوا أنفسهم وهم يحاولون علاج مشاكل الصين بأن يعقدوا المقارنة بينها وبين الولايات المتحدة، وكان قياسهم المنطقي أن الدساتير الاتحادية هي الطريق إلى الغنى والقوة ما دمنا نريدهما وما دامت الولايات المتحدة قد حصلت عليهما من هذه الطريق، ونسوا أن هذا النظام إنما قام هناك؛ لأنه كان قائمًا فعلًا في كل ولاية وكان لكل ولاية فعلًا دستور وحكومة، فنحن إذا أردنا محاكاته وجب أن تهيئ كل ولاية من ولاياتنا دستورها وحكومتها المحلية، ثم تجتمع الولايات أخيرًا للاتفاق على دستور الأمة قاطبة، أو بعبارة أخرى نعمد إلى الصين المتحدة فنقسمها كما كانت الولايات الأمريكية مقسمة منذ قرن مضى، ثم ندمجها جميعًا في حكومة واحدة،
وأنه لتفكير ولا شك منحرف عن الصواب، وكأنما نحن ببغاوات تردد الكلمات وعيونها مغمضة عما حولها”.
إنني أنتمي إلى المنطق الكامن في كلام الزعيم الصيني.
ولو سئلت اليوم مثلاً عما إذا كنت في اليمن مع “الدولة البسيطة” [الدولة المركزية] أم ضدها، فسوف أرد هكذا:
ليس لديّ اختيارات نظرية مسبقة، أنا مع النافع، وأميل في قلبي إلى الشيء الذي ثبت بالتجربة أنه نافع حتى يظهر بديل أنفع منه.
هذه قاعدتي. لم نعد أطفالاً كي نتحزب لأفكار هوائية خاوية، كبرنا وتعلمنا!