عمل مسرحي فلسفي لـ”برنارد شو” يؤرخ للبشرية من آدم حتى العام 31920

“العودة إلى متوشالح – معالجة مستقبلية لأسفار موسى الخمسة” للكاتب المسرحي والروائي والمفكر الأيرلندي جورج برنارد شو كتاب لا متناهٍ، لم يخف فيه مؤلفه مخاوفه وأفكاره الساخرة ورؤاه المثيرة للجدل حول الشباب ورهاب الشيخوخة والسياسة وفناء الجنس البشري، مقدما لنا خلاصة تجربته في الحياة وقد بلغ من العمر 62 عاما حينما شرع في كتابته عام 1918 والحرب العالمية الأولى لم تنته بعد، لينشر عام 1921 بمسرحياته الخمس، واستهلال حمل عنوان “نصف القرن الخائن”.

نحن هنا أمام كتاب يتخذ فيه برنارد شو من المسرحية والحوار والنقد السياسي طريقا نحو البشرية وهي تعيش إحدى لحظاتها التاريخية الأكثر دمارا، لنكون بعد قراءة الاستهلال حيال نظريات فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا إلى التفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم وقد أمسى نموذج الحضارة على المحك، اليوم أكثر من أي وقت مضى، فلا محيد عن الكوارث التي يلحقها الإنسان بنفسه وبالطبيعة. فما الذي يحتاجه ليصبح أكثر نضجا وحكمة؟

يفترض شو أن ثلاثة قرون أو أكثر من عمر الإنسان كفيلة بأن تجعله يبلغ كماله العقلي في مسار تطوره وتحقيقه لغايات وجوده السامية، فهل الامتداد الأفقي للزمن يحقق ذلك؟ من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ هذا ما يقدمه لنا كتاب “العودة إلى متوشالح” لكونه كما جاء في كلمة الغلاف كتابا “يتحدى الفناء منطلقه الأزل ومنتهاه الأبد. يبدأ من آدم وحواء في جنة عدن، وينتهي في عام 31920 ميلاديا وقد أمسى بمقدور الإنسان العيش لما يتجاوز ثلاثمئة عام، وصولا إلى ولادته من بيضة”.

 إنه كتاب عصي على التصنيف، له أن يجسد تماما ماهية “الخيال العلمي”، بوصف الخيال مع جورج برنارد شو (1856 – 1950)، يستدعي العلم والفلسفة والفكر بحق، مقدما هجائية كبرى لداروين والانتقاء الظرفي، مفضلا تسميته بالانتقاء التصادفي، فإذا استطعنا أن نثبت أن الكون بأكمله خلق عبر ذلك الانتقاء، فلن يطيق عيش الحياة إلا الأغبياء والأوغاد.

◙ الكتاب نظريات فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا إلى التفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم، وقد أمسى نموذج الحضارة مهددا
◙ الكتاب نظريات فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا إلى التفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم، وقد أمسى نموذج الحضارة مهددا

يتخذ الكتاب، الصادر عن “محترف أوكسجين للنشر” في أونتاريو بترجمة السوري أسامة منزلجي، معبره إلى الخيال من حقيقة أن البشر لا يعيشون مدة كافية، وعندما يموتون يكونون مجرد أطفال، واجدا في لامارك والنشوء الخلاق سنده، لنكون حيال عمل خالد، لا هو مسرحية ولا رواية، بل مزيج بينهما، مسرحية تقرأ ولا تجسد، ورواية يتسيدها الحوار، فضلا عن كونه “الكتاب الغربي الوحيد الذي يمكن إقامة علاقة بينه وبين أولاد حارتنا”، كما يقول نجيب محفوظ.

ولعل التقاطع يكمن هنا بين الكتابين في تسليط نجيب محفوظ الضوء على أسئلة الإنسان الوجودية في مكان بمعطى زمني واجتماعي محدد، وتوقه اللامحدود للحرية والعدالة، ولو كان شبه خالد يحوز في جعبته مئات السنين في تصور برنارد شو.

حملت المسرحيات الخمس العناوين التالية: “في البدء”، “مزمور الإخوان بارناباس”، “الأمر يحدث”، “مأساة رجل عجوز”، “أقصى حدود الفكرة”، ومن خلال حوارات عميقة حول مكانة العلم والتطور والفن والإبداع يسافر بنا برنارد شو عبر الأزمنة ليناقش الأفكار التي يطرحها أبطاله منذ آدم وحواء مرورا بالزمن الحاضر، ومضيا نحو المستقبل البعيد وقد وصلت البشرية إلى ذروتها، وتخلص الناس من الحب والجنس والعاطفة، وأصبحوا كائنات منطقية خالصة. لكن عبقرية برنارد شو في هذا الكتاب تكمن في تعامله مع فكرة الخلود، بحيوية وسخرية، مستكشفا العواقب النفسية لطبيعة العقل البشري الذي يحتاجه الإنسان ليعيش ألف عام ويحكم نفسه بنفسه، ويتخلص من الصراع والحروب والآفات التي تبدأ به وتنتهي بإفنائه.

ويأتي الكتاب ضمن سلسلة “أوكلاسيك” (أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك) التي يسعى من خلالها المحترف إلى تقديم الكلاسيكيات بنهج جديد ومغاير عماده الاكتشاف وإعادة الاكتشاف.

من الفصل الثاني من “مزمور الإخوان بارناباس” نقرأ:

“آدم (مخاطبا حواء، شاكيا): لم ما زلت على قيد الحياة، إذا كنت لا تجدين ما تقومين به غير التذمر؟

حواء: لأنه ما زال هناك أمل.

قابيل: أمل فيم؟

حواء: في تحقيق أحلامك وأحلامي. في الأشياء المخلوقة حديثا. في الأشياء الأفضل. إن أولادي وأحفادي ليسوا جميعا حفاري أرض ومقاتلين. بعضهم لن يحفروا الأرض ولن يقاتلوا، إنهم أقل فائدة من أي منكما، وضعفاء البنية وجبناء؛ إنهم تافهون، لكنهم قذرون ولن يتكبدوا مشقة قص شعورهم. وهم يقترضون ولا يسددون ما عليهم، لكن المرء يعطيهم ما يريدون، لأنهم يكذبون أكاذيب جميلة يصيغونها بكلمات جميلة. ويستطيعون تذكر أحلامهم. يستطيعون أنْ يحلموا من دون أنْ يناموا. ليس لديهم ما يكفي من الإرادة ليبدعوا بدل أنْ يحلموا لكن الأفعى قالتْ إن كل حلم يمكن أنْ يتحقق بالإرادة على أيدي الأقوياء إلى درجة الإيمان به..”.

أخيرا جاء كتاب “العودة إلى متوشالح – معالجة مستقبلية لأسفار موسى الخمسة”، في 352 صفحة، وهو من الأعمال المسرحية الفلسفية الرمزية التي إن لم تغير حياتنا فإنها تغير طريقة رؤيتنا للعالم، فهو في الأخير كتاب وجد ليقرأ لأننا -ببساطة- لا يمكننا تفاديه وفي وقتنا الراهن بالذات.

Exit mobile version