إبراهيم العريس
هي واحدة من تلك الحكايات التي يبدو أنها لا تزال تشغل بال الحياة الثقافية الفرنسية حتى اليوم تقريباً مع أن نحواً من قرن ونصف القرن قد مرا على ظهورها، وتحديداً عند بدايات العقد السابع من القرن الـ19 بعد صدور روايته “حول العالم في ثمانين يوماً” التي تعد اليوم واحدة من أشهر الروايات في تاريخ الأدب. ولنقل هنا بالأحرى، إن ظهور تلك الرواية كان بالنسبة إلى جول فيرن مسألة يراهن عليها “مجمع الخالدين”، وهو الاسم الذي يطلق على “الأكاديمية الفرنسية”، بأنه بات جديراً بكرسي في أكاديميتهم، بعد نجاحاته الأدبية الكثيرة التي أوصلته إلى كتابة تلك الرواية التي نظر إليها القراء بكونها في منتهى الجدية ولم تكتب لمجرد أن يقرأها المراهقون لكي يعيشوا ساعات لهو مثيرة عبرها، أي من خلال قراءتها كما فعلوا مع رواياته السابقة، التي أسبغت عليه مجداً ومقروئية كبيرين، ودفعت ناشره السعيد هتزل إلى مساعدته في مسعاه لدخول الأكاديمية مدعوماً في ذلك من ألكسندر دوماس الابن ورهط كبير من تلك المرحلة، ومن بينهم مفكرون كبار بالغو الجدية.
شكوى بأحرف كبيرة
من هنا كان من المنطقي أن يقف جول فيرن إزاء ذلك “الجحود” صارخاً، “يبقى أن الفيلسوف الكامن في داخلي قد تفوق حقاً وفي نهاية المطاف على كل ما كنت أحمله في داخلي من طموحات. ومن هنا، ومقابل كل ما أجابه به، أؤكد لكم أن ما من شيء سوف يربك ما هو متبق لي من أيامي. لكني فقط أود أن أذكركم بأنني منذ المرة الأولى التي ذكر فيها اسمي بين المرشحين لدخول مجمع الخالدين وذلك قبل 42 مرة من هذه المرة الجديدة التي أخفقت كسابقاتها، ها هم أعضاء الأكاديمية يصرون على تجاهلي من جديد. وهذا ما يجعلني أؤكد أن الشيء الكبير الذي أشعر اليوم وقد اقتربت من النهاية بالندم لأنني لم أحققه، هو أن أقنع فرنسا بأنني أمثل شيئاً ما في تاريخها الأدبي”. ويومها لم ينه فيرن كلامه إلا بالتأكيد على أن فرنسا سوف تندم بدورها يوماً على ذلك. والحقيقة أن فيرن كان، بالنسبة إلى هذه النبوءة أيضاً، على حق. ولئن كنا هنا نشدد على هذه الكلمات الأخيرة، فما هذا إلا لأننا نعرف أن معظم أدب صاحب “في باطن الأرض” و”الجزيرة الغامضة” و”أبناء الكابتن غرانت” وعديداً من الكتب الرائعة الأخرى، هذا الأدب إنما قاوم حائزاً أعلى درجات الزخم فاتناً ملايين وملايين القراء حول العالم معتمداً على تنبئه بما سيحمله المستقبل للإنسانية، وخصوصاً في العلوم والاختبارات بل حتى في الأفكار.
في قلب الأفكار العميقة
ومن هنا يمكننا القول، إن النبوءة التي أطلقها جول فيرن من حول مستقبل مكانته كانت بالغة الدقة. فاليوم وفي مجمل استطلاعات الرأي التي تجرى في فرنسا، بل أحياناً حتى على المستوى الأوروبي، يصنف ملايين القراء فيرن بين الكتاب الـ10 الأول الأكثر أهمية، وغالباً بفضل مجمل رواياته بدءاً من تلك الكبرى التي ذكرنا بعضها أعلاه وصولاً إلى رواياته الصغرى التي يمكن القول على أي حال، إنها تقرأ أكثر كثيراً من تلك الكبرى التي استند إليها فيرن نفسه للمطالبة من دون جدوى بكرسي له في الأكاديمية. ولعل الغريب في الأمر هنا هو أن الأكاديمية نفسها لم تتوانَ في عام 1872 عن تتويج رواية فيرن “الرحلات الاستثنائية” التي صدرت حينها بجائزتها الكبرى، ولكنها في المقابل تحاشت قبول الكاتب نفسه بين خالديها، رغم أن صدور الرواية تزامن مع خلو كرسي وإعلان اسم فيرن بين المرشحين لشغله. وكان ذلك العام وتلك المناسبة بالتحديد اليوم الذي أطلق فيه الكاتب صرخته التي ذكرناها قبل سطور. والحال أن الغضب الذي وصل إلى ذروته لدى جول فيرن يومها والذي تجلى في صرخته المذكورة كان وراء ما طور إليه هذا الأخير صرخته حينها وبصورة عملية منذ العام التالي في نوع مما اعتبره كثر محاولة لفقء عين الأكاديميين وبصورة عملية هذه المرة، أي من خلال تنويعات بالغة الجدية والجدة على أسلوبه بل حتى على مواضيعه من دون أن يهتم بأن تبدو رواياته الجديدة غير صالحة لجمهوره المعتاد، بل بأن تبدو عصية على تفهم هؤلاء وقدرتهم الاستيعابية فكرياً. وهكذا، على سبيل المثال جعل روايتيه التاليتين، والمتكاملتين إلى حد كبير “الكابتن نيمو” و”أبناء الكابتن غرانت” تختتمان بنهايتين غير منطقيتين لكن التاريخ سيحكم عليهما برؤيوية تنتمي إلى حداثة القرن الـ20.
حداثة الضرورة
وفي المقابل، إنما في السياق ذاته وفي رواية تالية هي “الجزيرة الغامضة” ها هو كاتبنا يطبع روايته الجديدة هذه بقوة ناجمة عن سيطرته التامة على غرابة غير متوقعة تتوافر مع بعد فكري يبدو أكثر قوة وتعقيداً، بل حتى أكثر ذاتية من أن ينتمي حقاً إلى الزمن الذي كتب فيه. فهنا من عمق أعماق البركان وفي ثنايا مغارة تقبع هناك في أعماق البحر منذ فجر الكون، نجد الكابتن نيمو متفانياً في إنقاذه الطارئين الخمسة الواصلين إلى المكان وقد هبطوا إليه من أعالي السماء بالمنطاد، ووصلوا إلى الشاطئ الخالي عادة من أي كائن بشري، نجده وحتى انطلاقاً من فعل إنساني لا يستبقه بالتساؤل عمن يكونون ولماذا هم هنا، يسارع إلى مدهم بكل ما قد يحتاجون للبقاء على قيد الحياة. وهو فقط بعد ذلك يهتم بسؤال المهندس سايروس سميث وجدعون سبيليت والنجار بنكروفت والمراهق هاربرت والخادم ناب عن حكايتهم وعما يحدوهم إلى التمسك بحياة لا أمل لها، ومن ثم إلى السيطرة على موارد الطبيعة نجده “يأنس إليهم وقد تلمس نزاهتهم وعلمهم وترابطهم مع بعضهم البعض بشكل أخوي يتعلق بصداقة بدت له أبدية فيبدأ الوثوق بهم بفضل ما يبذلونه من جهود جبارة…”. ويتمثل ذلك في قيامه بتوزيع ما يمكنه الحصول عليه في المكان، ويشعر أنه يلزمهم كي ينجزوا ما يريدون إنجازه هنا. إن ما يقدمه لهم ليس هدايا سماوية، ولا أدوات إنقاذ مرسلة من عند العناية الإلهية، بل عون من إنسان إلى إخوته في الإنسانية. والحقيقة أن حسبنا هنا المقارنة بين هذا الفعل الإنساني البسيط، وما يحدث للبائس إيرتون في رواية أخرى هي “أبناء الكابتن غرانت” كما يذكرنا الكاتب المختص بجول فيرن، الفرنسي جان بول ديكيس في كتاب وضعه عنه وبنى على أساسه فيلماً لافتاً عن حياة وكتابات هذا المبدع الحقيقي. فإذا كان تعاون الكابتن نيمو مع “زائريه الخمسة” ينطلق منذ تعرفه عليهم، ليوصلهم إلى بر الأمان خلال وقت قصير جداً، ها هو إيرون يحتاج إلى الانتظار في الجزيرة المجاورة التي وجد نفسه فيها، نحو 10 أعوام قبل أن يتمكن من الحصول على إمكانية الإفلات من مصير أكثر سواداً بكثير. ومن الواضح هنا أن تلك المدة البالغة الطول التي قضاها منتظراً إنما كانت عقابه على الشرور التي اقترفها وحدت برفاقه وضحاياه على السفينة التي كان على متنها هارباً أن يرموه في ذلك المكان القفر ليبقى طوال تلك الأعوام سجيناً تقتص منه العدالة الإلهية… هذه المرة!