ما دور المثقف العربي في الفكر العربي المعاصر؟

استحوذت إشكالية العامل الأساسي الفاعل في حركة التاريخ على حيّز كبير في فكرنا المعاصر. هل هو العامل الاقتصادي الذي راهن عليه ماركس لإحداث انقلاب جذري في المجتمع الإنساني لصالح السواد الأعظم من البشر بإلغاء التكوين الطبقي للمجتمع بالكامل؟ هل هو العامل القومي الذي يمهّد لالتئام الانشطار العصبوي في أمة متعالية على الطبقات والأعراق والمذاهب والإثنيات؟ هل هو السياسي الذي يجلب معه القيم والمعتقدات وطرق التفكير بحيث يشكل الوعي الديني والأخلاق والتربية والاقتصاد، موظفاً تلك العناصر بما يخدم أهدافه ومصالحه؟ هل هو العامل الأيديولوجي الذي يزلزل بنية المجتمع ويقوّضها ليؤسس المجتمع الجديد، مجتمع التقدم والنهضة والحداثة؟

تأسيساً على هذه الأسئلة الإشكالية تقدم الخطاب الثقافي منذ ستينات القرن الماضي، طارحاً مركزية العامل الثقافي وأولويته وتصدّره كل العوامل الفاعلة في المجتمع والاقتصاد والسياسة. في هذا الإطار طرح عبد الله العروي التقويم الأيديولوجي لهزيمة عام 1967، ورأى محمد عابد الجابري أن أصل الخلل في إخفاق المشروع النهضوي العربي يتحدد في “ميدان واحد لم تتجه إليه أصابع الاتهام، هو تلك الأداة التي يقرأ بها العربي ويرى ويحلم ويفكر … إنه العقل العربي”. وفي الاتجاه نفسه ذهب محمد أركون إلى أن العقل العربي ونمط تصوره للكون والإنسان والتاريخ، هو الذي وقف وراء فشل المحاولات النهضوية المتكررة، ورأى هاشم صالح أن سبب الانسداد الحضاري التاريخي الذي يعانيه العرب يعود إلى أسباب ثقافية متمثلة في انغلاقهم داخل يقينيات القرون الوسطى، بينما اعتبر أدونيس أن المجتمع العربي مؤسس على رؤيا دينية تشمل الجسم الاجتماعي كله ولا مجال لأي تغيير في الواقع العربي من دون التصدي لها بالنقد والمراجعة.

من هنا التقت وتقاطعت مشاريع العروي وأركون والجابري وصالح وأدونيس حول نقطة مركزية تتمثل في ضرورة إنجاز ثورة ثقافية تطيح الأبنية ولأنماط الفكرية والثقافية الجامدة، وتحرر الروح الداخلي للإنسان العربي كشرط مؤسس للتحرير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والنهضة الفعلية والوطيدة.

هذا الجدل الثقافي لا يزال محتدماً وراهناً، فنصري الصايغ يرى في 2012 أن “التنظير نتيجة وليس سبباً لما يحدث، وبالتالي لا نظرية للثورة سابقة على الثورة”، وهاشم صالح يرى في 2012 “أنه من المستحيل أن تحسم المعركة السياسية قبل أن تحسم المعركة الفكرية”.

أما علي حرب فقد ذهب في “الجهاد وآخرته، ما بعد الأسلمة” 2018 إلى أن مواجهة الفكر الجهادي الراهن يحتاج إلى عمل نقدي عقلاني تنويري تحويلي على الذات والنصوص لابتكار أنماط مختلفة من التفكير وبناء استراتيجية جديدة، لأن مشكلة الإنسان هي في الدرجة الأولى مع أفكاره، ولأن العلة في العقول والعطل في المشروع الأيديولوجي للسلفيين.

وعليه يجب وضع جميع الأديان تحت مشرحة الفحص العقلي، وممارسة هوية عابرة للحواجز، بإتقان لغة الخلق والفتح والتجدّد لإنتاج أفكار مبتكرة خارقة للشروط حول الإسلام والعالم. مهام أنيطت كلها بالمثقف ودوره التنويري الذي لا يستقيم أي حراك ثوري، سياسي أو اجتماعي من دونه. الأمر الذي أثبته المآل البائس للانتفاضات العربية، فالانقلابات السياسية التي أنجزتها لم ترفدها تحولات ثقافية موازية فكان مآلها السقوط والانتكاس، لم تذهب إلى العمق المجتمعي فانتفض في وجهها، إذ لا يكفي أن ينجح الانقلاب السياسي كي يتحول المجتمع، فما بقيت الثقافة القبلية الأحادية مهيمنة على الأفكار والعقول، فسيبقى المجتمع حلبة صراع قاتل ورهن عمليات إقصاء واستئصال متبادلة.

لكن هل في وسع المثقف العربي أن يلعب الدور المرتجى في التحول والتغيير؟ ما هي عدّته في منازلة قوى التقليد والتكلس السائدة والمهيمنة على المجتمع والفكر والسياسة؟ وكيف له ذلك في عالم عربي هو الأقل إنتاجاً للثقافة والأدنى استهلاكاً لها؟ وهل يتقدم المجتمع بالثقافة فقط؟ وهل المثقفون هم وحدهم من صنعوا نهضة الغرب الجبارة؟

لقد فات هذا الطرح أن المجتمع لا يتقدم فقط بمثقفيه بل من خلال حراك تاريخي شامل ينهض به المجتمع بكامل قواه الحية، حراك تشكل الثقافة وجهاً من وجوهه، بل نتيجة من نتائجه. فهل قدر للمثقف الغربي الاضطلاع بدوره المميز في تغيير العالم لولا النهضة الاقتصادية والعلمية الموازية وترافقها مع إلغاء الأمية والطباعة، وانتشار المطبوعات الثقافية.

حقائق إن لم نأخذ بها فسنبقى أسرى طروحنا الطوباوية ورهاننا الخائب على أدوار ثورية لمثقف هو كذلك ضحية مشاريعه الأيديولوجية المستحيلة.

-النهار العربي

Exit mobile version