حاول إريك آرثر بلير (جورج أوريل) عبر مخياله الخصب الانتقال إلى التاريخ الآخر، بعد جولة الصراع التي تنتهي لها مجتمعات ما بعد الثورة، كانت مزرعة الحيوان هي الممثل لمجتمع المستضعفين، ثم القوى الكادحة التي دفعتها العناصر النضالية، لتواجه القوة الإمبريالية البرجوازية، التي تضطهد العالم الآخر.
هذا العالم الآخر حينها، لم يكن القسم الجنوبي من العالم فقط، وإن بدت الشيوعية في تبشيرها الأخير أنها معنيةٌ به، مستثمرة حجم الإذلال والإبادة التي سفكت دماء الأمم الشرقية والجنوبية، من آسيا الهندية حتى أمريكا اللاتينية، فنَصَب أوريل في هذه الرواية العظيمة الإنسانَ رمزاً لذلك الطغيان، والحيوان الثائر رمزاً للكفاح البروليتاري.
يُعيد أوريل حضور حكايته لنا حتى اليوم، رغم أن الرواية أول ما عُرضت للنشر، رُفضت في بريطانيا لكونها تشير إلى معسكر اليسار العالمي، تحت الولاء لموسكو الحليف في الحرب العالمية الثانية، فخشيت لندن من استفزازه، حين اعتبرت رواية أوريل أن المآل الأخير للحيوان المتمرد (اليساري) في المزرعة الثائرة، هو السقوط في حفرة المستعمر البشري من جديد.
فبات يقلده في كل شيء، حتى في طقوس برتوكولاته، وحتى في احتفالاته، وصولاً الى التواطؤ معه ببيع غلة مزرعة الحيوان التي طُرد منها الإنسان المتوحش، فعادت قيادة الحيوانات إلى التعامل مع القاتل ذاته، وباتت تتعقب الحيوانات الثائرة الرفيقة معها، وهو ما كان يُقدمه أوريل كرمز للغدر اليساري الذاتي بالرفاق، من خلال نزواتهم أو أطماعهم، أو من خلال المستعمر الجديد.
حينها كان الاتحاد السوفييتي عضواً فاعلاً في منظومة الحلفاء، التي اتحدت في سبيل وقف القوة الأوربية الطاغية التي يقودها الفوهرر أدولف هتلر، تلك الروح التي وُلدت من ذات الرحم وتخلقت في قصة الإنسان المتفوق، فالجذر الأساسي في الفلسفة النازية، التي كانت لها أكاديمية وكنائس، متصل بقوة بفلسفة رعاة الثورة الرأسمالية رغم صراعهما، وأوريل حتى نهاية الثلاثينيات وما بعدها، ظل مرتهناً ببعض إرثه اليساري، الذي أثّر على اضطرابه الشخصي ومواقفه، حتى وفاته.
وهذا الميراث اليساري، بدا أنه يختلف مع عقيدة التفوق لكلا الفلسفتين المعاصرتين حينها، وأن البيان الشيوعي يطرح ميلاد رؤية كونية أخرى، قبل أن يعود التاريخ مرةً أخرى لتشريحها وكشف المشترك الضخم والمركزي، في المادية المصمتة، فهل كانت رؤية مختلفة عن الكون المادي؟
ولكن هذا الاضطراب لم يمنع أوريل نفسه، من أن يتحوّل إلى التحالف مع الإعلام البريطاني، ضمن حملة التوجيه الإعلامي لمواجهة المعسكر النازي، ورغم نقده المر لتجارب اليساريين وخيانتهم الذاتية، فإن روح أوريل ظلت تقارب معنى الكفاح البروليتاري.
محطات عدة حاول أوريل فيها أن يبقى جندياً مخلصاً للعدالة الاجتماعية، التي تَنقّل عبرها من خلال الفكر الماركسي أو اليساري المطلق، وكان جزءاً من كوادر المواجهة الحربية، في الثورة الجمهورية الإسبانية، التي اختلط فيها الصراع اليساري، وطورد من معسكرات يسارية مقربة من موسكو، وأيضاً كان محل مراقبة وتعقب أمني في بريطانيا، حتى منتصف الأربعينيات.
خلال هذه الفترات أصدر أوريل جملة من رواياته وأعماله الأدبية، وأيضا شارك في البث الاستعماري للـ”بي بي سي”، وانضم إلى الشرطة البريطانية البورمية (ميانمار) في خليط من التجارب الشخصية والأيديولوجية.
حكاية أوريل تعكس قصة الصراع الذاتي داخل المنظومة الغربية، في دوافع الكفاح لمواجهة البغي الاقتصادي والسياسي الرأسمالي، والذي انخرط فيها المناضلون اليساريون، في حلقات مواجهة وحروب عسكرية، مثّلت في أحد أهم جوانبها صدمة كبرى لفكر ولذاكرة أوريل، التي دفقها في مزرعة الحيوان، من استدعاء البغي والقمع والفساد في الحكم الشمولي، إلى التجارب الثورية اليسارية في الغرب.
وهو كان حتى ذلك التاريخ، في موقع صراع مع القوة الرأسمالية الزاحفة، وكان اليسار الغربي يمتلك فيها قوة مدعومة من موسكو، أو الأيديولوجية الثورية الذاتية في المجتمعات الغربية ذاتها، لإبقاء معادلة الصراع، لكنها- وفقاً لتجربة أوريل نفسه- كانت تحمل سر فشلها في صراعها الداخلي، وفي انقسام الروح الشيوعية وتمزقها.
هذه اللحظة التاريخية، التي رمز لها أوريل عبر مزرعة الحيوان، كانت تمثل قصة البحث عن المرجعية الكونية العليا للمستقبل الأوروبي، ربما كان العالم الجنوبي الآخر حاضراً في المشهد، وفي عقل وبنية التعبئة الثقافية للقوى اليسارية الممزقة، والتي كانت لها إصدارات ومجلات وحتى أحزاب، غير أنها كانت تبحث عن قصة ميلاد العالم الجديد في قلب أوروبا، وماركس ذاته كان يراهن على أن الثورة البلشفية سترفع أعلامها في لندن قبل موسكو.
بتكبير الشاشة نجد اليوم أن التركة اليسارية كانت تتبخر في العالم الغربي بنهاية القرن الماضي، وإن بقي منها بعض الصوت أو بعض الضوء، لكنه مبعد عن قدرات التأثير النسبي، فضلاً عن المركزي، وإن مفاهيم حزب العمال المستقل، الذي كان مرتبطاً بحزب العمال الماركسي الموحد (الدولي) المنحل، الذي انضم له أوريل، لا يوجد له وريث أيديولوجي فاعل؛ فحزب العمال البريطاني الحالي منظومة مختلفة، مندمجة بالجملة في المركزية الغربية، ومرتبطة بالرؤية المادية للكون، من خلال المرجعية الرأسمالية العليا والحداثة الغربية، وإن وجدت فروقات يسارية ضئيلة، لكن المرجعية واحدة.
فهل وصل أوريل إلى الكون الأخلاقي الجديد؟