في طليعة الاتهامات الموجهة إلى الحراك العسكري والسياسي الراهن في سوريا، وتُرفَع غالباً من جانب ما تبقى من أبواق “محور الممانعة” المأسوف عليه؛ ذاك الذي يجزم بأنّ متغيرات الأرض العسكرية، وبالتالي الفصائل والقوى التي صنعتها وتواصل تعزيزها وتوسيعها، هي صناعة إسرائيلية أوّلاً، تختلط فيها أياد تركية وأمريكية و… أطلسية! ورغم سخف هذا الاتهام، والركاكة الظاهرة الطافحة التي تطبع معناه ومبناه المنافيين لأبسط منطق في قراءة أبجدية التبدلات الجذرية في المنطقة؛ فإنّ أحد الأسباب الوجيهة للإتيان على ذكره هنا، في هذه السطور، هو أنه يفضح مستوى البؤس الذي بلغه القائلون به، ومقدار الإدقاع في التمسك بغربال، واسع الثقوب، لإخفاء قرص الشمس الساطعة.
فللمرء أن يكتفي برياضة بسيطة، عالية الفاعلية مع ذلك لأنها إنما تتكئ على التاريخ ودروسه، قوامها العودة إلى الأسابيع القليلة التي سبقت، وأعقبت، انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا، آذار (مارس) 2011؛ حين سارع رأس النظام بشار الأسد إلى إبداء الاستعداد التامّ لاستئناف المفاوضات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. ولقد أبلغ وفداً من الكونغرس الأمريكي، ترأسه يومذاك السناتور الديمقراطي جون كيري الذي سيتولى حقيبة الخارجية لاحقاً، أنه جاهز لمناقشة (أي: قبول) أية خطة تعيد إحياء قناة التفاوض مع الاحتلال؛ سواء من حيث انتهت قناة الوساطة التركية الشهيرة، أو من أوهام “وديعة رابين” التي لا تقلّ شهرة، أو حتى من نقطة الصفر التي يحددها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
وكي يعيد التاريخ واحدة من صفحاته في صورة المهزلة، أطلّ رامي مخلوف مؤخراً على المشهد العسكري الراهن في سوريا، ليس من موقع تمساح الفساد والنهب، بل بصوت الملياردير مهيض الجناح، والتمساح مكبّل الشدقين؛ كي يعرض 50 مليار ليرة سورية على الضابط في جيش النظام سهيل الحسن (المعروف بلقب “النمر”، وهو منه براء!)، وذلك بعد تخويف السوريين، وأبناء الساحل خصوصاً، من “إرهابيين يريدون قتلكم، وإن وصلوا إليكم، سينتهكون أعراضكم ويسلبون أموالكم”.
هذه المهزلة في العام 2024 كانت قد سبقتها وجهة مأساوية قبل 13 سنة حين أطلّ مخلوف نفسه، وكان يومذاك صيرفي النظام وأكثر تماسيحه جشعاً وتسلطاً ونفوذاً، لينقل عبر صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية هذه المقايضة: “إذا لم يتوفّر استقرار هنا، فلا سبيل إلى استقرار في إسرائيل”. وكان ناقل الرسالة، الصحافي الراحل أنتوني شديد، قد تنبّه إلى لعبة الأسد في السماح لعدد من الفلسطينيين باقتحام حدود الاحتلال الإسرائيلي في محاذاة بلدة مجدل شمس، على السفح الجنوبي لجبل حرمون، في الجولان المحتل؛ وكتب: “للمرّة الأولى منذ 11 سنة في حكمه، أظهر الأسد لإسرائيل، وللمنطقة والعالم، أنه في سياق انتفاضة شكّلت التهديد الأكبر لأربعة عقود من حكم عائلته، يمكن له أن يفتعل حرباً للبقاء في السلطة”.
ولقد انقضى زمن غير وجيز ـ منذ اتفاقية سعسع سنة 1974، بين النظام السوري ودولة الاحتلال ـ ظلّ الثابت الأبرز الأوّل فيه هو الصمت المطبق الذي خيّم على وديان وذرى وسهول الجولان المحتلّ، فلم تتردّد طلقة من بندقية صيّاد؛ وكان الثابت الثاني هو الخدمات التي أسدتها، وتسديها حتى الساعة، تلك الحال في إدامة النظام عموماً، وفي منجاة بيت السلطة بصفة خاصة.
إلا أنّ دوام الحال من المحال، وما بعد التحوّلات الكبرى الني شهتها المنطقة، وشملت رعاة النظام السوري في طهران وموسكو خصوصاً، وقواعد الاشتباك الإسرائيلية ــ الإيرانية التي تبدلت نوعياً، واهتراء معمار النظام ذاته في ركائز الأمن والجيش والاجتماع البشري والاقتصاد والسياسة… ليس البتة كما قبلها. ولهذا فإنّ اتهامات “الممانعين” لا يفضحها الواقع الفاضح الصارخ وحده، بل يسخفها تباعاً قادمٌ أعظم على الأرجح.