واحدةٌ من الارتباطات العضوية مع فلسطين ونموذج على التجرد للقضية.. الجزائر والنضال الفلسطيني
فليت فلسطين تقفـو خطــانا
وتطوي كما قد طوينا السنينا
وبالقدس تهتم لا بالكراسي
تميل يساراً بها ويمينــــــــــا
(شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء)
**
تتعاطف معظم الشعوب اليوم مع فلسطين ومقاومتها، لكنّ ارتباط الجزائريين بها يُعتبر حالة استثنائية من التفاعل الوجداني، إذ تمتزج فيه المشاعر القومية والدينية التي تشترك فيها كل الشعوب المسلمة، مع مشاعر خاصة يتوارثها الجزائريون جيلاً بعد جيل تجاه فلسطين.
هذه المشاعر قد تجدها مُجسّدة بعفوية. عندما يهتف الجزائريون فرحاً بهدف لفريق كرة القدم الفلسطيني حتى ولو كان هدفاً في مرمى فريقهم الوطني، أو عندما يُحدِّثك بعضهم عن الوجود القديم لأسلافهم في فلسطين وبلاد الشام من خلال الجيش الفاطمي، أو حارة المغاربة، أو عن مشاركتهم في معركة تحرير القدس، أو عن قصة القطب الصوفي أبي مدين الغوث الإشبيلي دفين الجزائر، فهم يعلمون أنهم هم فقط من واجه استعماراً استيطانياً عنيفاً شبيهاً بالاستعمار الصهيوني. فما هي مظاهر المشاعر الجزائرية الخاصة تجاه فلسطين في مراحلها التاريخية المختلفة؟
المأساة الفلسطينية ومواجهة الصهيونية في الجزائر المُستعمَرة
بعد أن استنفدت المقاومات الشعبية كل وسائلها العنفية في القرن الـ 19، وفشلت في إفشال المشروع الاستيطاني الفرنسي في البلاد، خمدت قوى المجتمع الجزائري ونخبه في العقدين الأولين من القرن الـ 20.
بدا حينها أنّ الاستسلام للواقع الاستيطاني حقيقة غير قابلة للجدال، إلى أن ظهر شاب اسمه مصالي الحاج من تحت رماد المأساة التاريخية الجزائرية، ليُذَكِّر الجزائريين بضرورة نفض غبار الذلّ الذي فرضه الاستعمار عليهم منذ العام 1830، فكانت حركته “نجم شمال أفريقيا” النواة التي أعادت الجزائر إلى التاريخ الإسلامي، وفق مسارٍ مضنٍ وتراكمي من العمل المقاوم، بعد أن كادت تصير نسياً منسياً.
مصالي، ومن خلال وعيه الثوري، عرف مبكراً أنّ المشروع الصهيوني الذي يروم إنشاء كيان استيطاني لليهود على حساب الشعب الفلسطيني، لا يختلف عن نظيره الذي يحاول الانعتاق من ربقته في الجزائر، فالتقى في سنة 1931 مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، وأبدى استعداده لدعم الفلسطينيين بكلّ السبل.
وشهدت السنة نفسها انعقاد المؤتمر الإسلامي العام الأول في القدس الذي دعا له الحسيني، في أعقاب انتفاضة القدس التي عُرفت بــ “ثورة البراق”، وذلك بهدف توحيد جهود المسلمين لمواجهة المشروع الصهيوني. وضمَّ المؤتمر ممثلين عن مختلف البلاد الإسلامية والعربية؛ من بلاد الشام والمغرب ومصر وصولاً إلى إيران وتركيا والهند والبوسنة وغيرها، ومثّل الجزائر فيه العالم والأديب الإباضي إبراهيم أطفيش، والأمير سعيد الجزائري أحد أحفاد الأمير عبد القادر.
منذ ثلاثينيات القرن العشرين دمج مصالي الحاج دعم فلسطين ومواجهة المشروع الاستيطاني الصهيوني، بالنضال ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. وتجسَّد ذلك في الحضور الدائم لفلسطين في خطاباته التعبوية وفي المقالات المنشورة في الجرائد القريبة من تياره، وفي تنظيم المهرجانات الشعبية لجمع التبرعات دعماً لثورة 1936-1939 في فلسطين التي تُعرف بالثورة الكبرى، التي اندلعت بعد استشهاد عز الدين القسام وفشل انتفاضته.
لكن دمج مصالي للنضال ضد المشروع الصهيوني في الخطاب الأيديولوجي للحركة الوطنية الثورية، تجسَّد أيضاً في مواجهة ذلك المشروع في الجزائر نفسها، من خلال مواجهة نشاط الحركة الصهيونية في أوساط يهود الجزائر لحثِّهم على الهجرة إلى فلسطين.
وكان المشروع الاستيطاني الفرنسي قد منح اليهود الجزائريين الجنسية الفرنسية من خلال مرسوم كريميو سنة 1870 لدمجهم في مجتمع المستوطنين الأوروبيين، مقابل سنِّه لـــ “قانون الأهالي”، الذين يحرم المسلمين من أدنى الحقوق السياسية والاجتماعية. وقد أدى هذا الدمج إلى تزايد الشعور لدى الجزائريين، بأنّهم فئة خائنة انحازت إلى الاستعمار، إلى جانب نظرائهم من المسلمين الذين اختاروا الطريق نفسه. كما أغرى هذا الدمج الحركة الصهيونية التي جهدت لنشر أفكارها في أوساط يهود الجزائر، حيث شارك واحد منهم ضمن الوفد الفرنسي إلى المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، وهو إدوارد عَطَالي.
أما في أربعينيات القرن الماضي فكثّف “حزب الشعب الجزائري”، الذي أسَّسه مصالي الحاج بعد حل “نجم شمال أفريقيا”، كثّف من نشاطاته في مواجهة الحركة الصهيونية في الجزائر، شاجباً نجاحها في تهجير المئات من اليهود إلى فلسطين وجمع الأموال لصالح نشاطها الاستيطاني.
وحثّ الحزب أبناء الطائفة اليهودية على الابتعاد عن المشروع الاستعماري في الجزائر وفلسطين، وعدم التنكُّر لقرونٍ من التاريخ المشترك. ووصل الغضب الشعبي الجزائري من هذا النشاط إلى حد هجوم المتظاهرين على مقر جريدة “النداء” الصهيونية. وعقب قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، ندَّد حزب مصالي الحاج بقرار التقسيم وهاجم الأمم المتحدة واعتبرها لعبة في يد الاستعمار والإمبريالية.
وفي موقف ثوري واعٍ ومبكر بخلفيات المشروع الصهيوني، اعتبر الحاج أنّ الامبريالية تجهد لتحويل فلسطين إلى قاعدة عسكرية بقصد تركيع المنطقة بأسرها، وفي السنة نفسها تأسَّس جناح عسكري للحزب تحت اسم “المنظمة الخاصة” بغرض التحضير لإطلاق حرب تحريرية.
بعد إعلان تأسيس “إسرائيل” عام 1948، نُظِّمت صفوف الشباب الجزائري لإرسالهم للقتال في فلسطين رغم صعوبة الظروف الأمنية في البلاد، حيث ألقي القبض على الكثير منهم في الجزائر أو وهم في طريقهم عبر ليبيا، إلّا أنّ المئات منهم تمكّنوا من الوصول إلى فلسطين، حيث سقط منهم شهداء.
شكّلت “المنظمة الخاصة” الطليعة التي أطلقت الثورة الجزائرية عام 1954، والتي خاضت حرباً تحريرية عنيفة لــ 8 سنوات، وفي الوقت الذي كان يتطلَّع فيه الفلسطينيون لهذه التجربة الثورية الفريدة التي تمكّنت من اقتلاع جذور النظام الكولونيالي الفرنسي الذي دام لأكثر من قرن، كان الصهاينة يشاركون في مواجهتها.
وظهرت منذ سنوات بعض فصول هذه التجربة عندما قرّر أبراهام برزيلاي سرد تفاصيل مهمته في الجزائر لجريدة “معاريف” الإسرائيلية بمناسبة إحياء احتفال في مدينة القدس المحتلة سنة 2005، نشَّطه المغني الصهيوني المنحدر من أصول جزائرية أنريكو ماسياس، عندما كلّفه “الموساد” مع زوجته عام 1956 بتشكيل خلايا لتنفيذ عمليات اغتيال ضد عناصر الثورة الجزائرية في مدينة قسنطينة.
مع فلسطين ظالمة أو مظلومة
ما إن انتصرت الثورة الجزائرية عام 1962، حتى أعلن أحمد بن بلة، أول رئيس جزائري للدولة الوطنية المستقلة، أن “استقلال الجزائر سيبقى ناقصاً ما لم تتحرّر فلسطين”.
هكذا، بدأت الدولة الفتية فعلياً في دعم الحركات الفلسطينية، التي تأثّرت بالتجربة الثورية الجزائرية الفريدة في العالم في سحق استعمار استيطاني، وذلك عبر فتح معسكرات لتدريب الحركات الفلسطينية.
وتوالى الانخراط الرسمي للدولة في دعم حركة التحرّر الفلسطينية، حيث جسّد انضمام المناضل محمد بودية، الذي طالته يد الموساد عام 1973، إلى صفوف الثورة الفلسطينية، استمرارية لتلك الروح التي أرادت نقل التجربة الثورية نفسها بغية الوصول إلى المآل نفسه.
أضحت الجزائر في موقعها الطبيعي في مقارعة المشروع الاستيطاني الصهيوني، مُجسِّدة صيحة هواري بومدين الشهيرة “الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، ورافضة لكل أشكال التراجع والاستسلام، وداعمة لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية طيلة عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات.
وكانت للجزائر يد في العديد من العمليات النوعية والمعارك المفصلية للمقاومة الفلسطينية، لا يتسع المقام هنا لشرح تفاصيلها، ولا تزال الجزائر الرسمية، رغم كل الظروف الصعبة التي فُرضت عليها في العقود الأخيرة كالعشرية السوداء، وفيّة لتراثها تجاه فلسطين، كان رفضها مؤخراً للهرولة نحو التطبيع آخر تجلٍّ له، فيما يقتنع أغلب الجزائريين أنّ فلسطين ستقفو خطى أسلافهم حتماً، وتطوي سنوات الاستعمار، ولو بعد حين.
عبدالله بن عمارة – الميادين