يوميات الحرب في غزّة (1)

تقييم المستخدمون: 0.55 ( 1 أصوات)

عاطف أبو سيف

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، عن أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقا إنسانيا وشخصيا ومجتمعيا، رهيفا وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازيا مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر “العربي الجديد” بعضا من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعا في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(19 أكتوبر)
مضت ساعتان، ونحن نُحاول أن نستجلي الأمر. لم يكن من السهل إيجاد شيء. أكوامٌ وحفرٌ وركامٌ وقطع أثاث وبقايا ذكرياتٍ متناثرة في النواحي وبكاءٌ ونشيجُ ونواح. أفضل ما يمكن فعله مغادرة المكان، فالمشهد يقطع القلب. الأطفال الغافون على أحلامهم ظلّوا مُغمضين عيونهم إلى الأبد. عدتُ إلى منزل فرج. لم نستطع أن نفعل شيئاً. بالكاد، نمنا في تلك الليلة ونحن ننتظر الصبح، حتى نبدأ عملية البحث عن الناجين وعن الجثث. ولأن البيوت المدمّرة تقع وسط الحارة، فإن وصول أي وسيلة مساعدة، مثل الجرّافة، لإزالة الرّكام بدت مستحيلة، فجميع الأزقّة المفضية إلى مكان الجريمة الشنيعة ضيقة، ولا يزيد عرض أوسعِها عن مترين. الحلّ الوحيد استخدام الطرق التقليدية في رفع الرّكام. لذا انهمك الشباب منذ ساعات الفجر في رفع ما يمكنُهم رفعُه من حجارةٍ وكتلٍ إسمنتية ومحاولة إزاحة بقايا الجدران، لعله يكون خلفها أو أسفلها أحد الناجين. كان عبدو، ابن علي، يسير في الشوارع المحيطة بالرّكام وينادي على أولاده، كأنه يوقِظهم من النوم. لم تنفع جهود الشباب في تهدئته، إذ ظلّ طوال الوقت ينادي وينادي، كأنهم يسمعونه، وهو يقول لهم “إصحا يابا”. فيما حاول بعض أبناء العائلة بثّ بعض الحماسة والقوّة في نفوس الشباب، وهي تحفر بأيديها وتطرُق الإسمنت الصلب بمطارق صغيرةٍ في محاولةٍ لإيجاد شخصٍ أو حتّى جثّة.

وجدْنا جثة علي ابن عمّي بائع البيض. كان علي قد زوّج ابنه مصطفى قبل ثلاثة أسابيع. معظم أولاد علي نجوا من الموت إلا هو. أمّا بناتُه وأزواجهنّ الذين جاؤوا من مناطق مختلفة للاحتماء ببيت العائلة في وسط الحارة، لظنّهم أنهم سينجون، فقد باتوا تحت الرّكام. ولأن والدة علي مصرية، فكنا نناديه أبو عبدو. وكان اسم ابنه عبد الكريم، لكن الحال درجت أن نناديه “عبدو”. لن يعود علي إلى بيع البيض، ولن يعود دكّانه الصغير على الجهة الشرقية لسوق المخيم عامراً بالبيض، ولن أسأله بدعابة “كيف بيضاتك اليوم ابن عمي”، ولن يجيب بدعابةٍ أشدّ “كبُرن” أو “بطلّن نافعات”. تأخذ الحربُ منّا كل شيء، ليس فقط من نحبّ، بل أيضا حتى مقدرتنا على تذكّرهم.

الأطفال الغافون على أحلامهم ظلّوا مُغمضين عيونهم إلى الأبد

سأعرف قبل قليل أن غارةً أخرى طاولت منزلاً لأقرباء لنا يسكنون مخيّم خانيونس قبل يومين أيضاً. قبل خمس سنوات، استُشهد أحد أفراد هذا الجزء من العائلة الذي يسكن مخيم خانيونس في مسيرات العودة، وذهبتُ مع الشباب لتقديم واجب العزاء. ثمّة محلٌّ لبيع الفلافل يقوم عليه أحد أبنائهم. في ذلك المساء قبل أيام، كان كل شيء طبيعياً في البيت. طحنوا الحمّص وتبّلوه حتى يتحوّل إلى عجنة فلافل، وسخّنوا المقلاة، وبدأت المقلاة بإخراج الأقراص الشهية. انتهى كل شيء على خير. فجأة، في الرابعة صباحاً، أغارت الطائرة على البيت، فقتلت ثمانية أفرادٍ منه وأربعة من الجيران، كما أجهزت على مقلاة الفلافل والحمّص المنقوع في الأواني الكبيرة، في انتظار طحنه وأن يتحوّل إلى أقراص فلافل. ولكن يبدو أنهم أكثر حظاً، إذ تم انتشال جثامينهم بسهولة، وجرى دفنهم في اليوم نفسه. لا بد أن تكون فعلاً محظوظاً ليتمّ العثور على جثمانك ثم دفنك والانتهاء من مراسم العزاء. بالأحرى، أهلُك هم الأكثر حظاً، لأن هذا يعفيهم من الانتظار، ومن ألم التفكير فيك راقداً تحت الرّكام. يتخيّلونك ويتعذّبون وهم يتخيّلون عجزَهم وقلة حيلتهم وعدم مقدرتهم على فعل أيّ شيء.

أعرف أن هناء تتمزّق من الداخل، وهي تتخيّل هدى وحاتم ومحمّد ممدّدين تحت التراب وتحت ركام الإسمنت، وتعرف أننا كلنا عاجزون عن فعل أي شيء. وليتنا كنّا نستطيع القيام بأي خطوة يمكن لها أن تساعد في إخراج الجثامين وإراحتها وإراحتنا. حتى في الموت، لا بد أن تكون محظوظاً، وهناك أناسٌ أكثر حظّاً من آخرين. أيّ مفارقة تلك، حين لا تملك الخيار، لا في موتك ولا في التأكّد من أن جثمانك سيتم العثور عليه وسيتم دفنك بطريقةٍ لائقة. الميّتون لا يفكّرون في ذلك، ولكن قلقنا وألمنا ونحن نفكّر فيهم يجعل موتَهم أكثر إيلاماً. صحيحٌ أن موت هدى وحاتم والعائلة نزل كالصاعقة على هناء، ولكن كل شيء سيهون بالنسبة لها إذا وجدنا الجثامين ودفنّاها. وقتها سترتاح قليلاً، من دون أن يُغادر الحزنُ قلبَها المثقل بالهم.

أكوامٌ وحفرٌ وركامٌ وقطع أثاث وبقايا ذكرياتٍ متناثرة في النواحي وبكاءٌ ونشيجُ ونواح. أفضل ما يمكن فعله مغادرة المكان، فالمشهد يقطع القلب

ابتدع بعض الأطفال طريقةً مؤلمة، ولكن ذكية، تعبّر عن هذا اليأس، وذلك الخوف من أن يموتوا ولا يتم التعرّف إليهم. مثلاً، حيث كتبوا أسماءهم على معاصم أيديهم أو في كفوفهم. وبعضهم كتب بياناتٍ إضافيةً للتعريف بهم، مثل رقم هاتفٍ للاتصال. كان الخوف من الموت، ومن أن أحداً لا يعرف عنه مرعباً ومثيراً للقلق. صحيحٌ أنّنا لا نفكّر في أي شيء بعد أن نموت، ولكن التفكير يبقى في عذاب أهلنا من بعدنا وهم يبحثون عنا. لذلك، بدت كتابة الأسماء وطرق التواصل على اليد فكرة ذكّية، وإنْ كانت تعبّر عن هذا الألم من الموت، من دون أن يعرفنا أحد.

طفلة فلسطينية بين أنقاض مبنى دمّره قصف إسرائيلي في رفح جنوب غزّة


بتّ أحفظ تقريباً كل الوجوه في الطريق إلى الطابق الثالث، حيث تتلقى وسام العلاج في قسم الجراحة. أعرف أهل الخيمة الصغيرة على مدخل الدرج الجانبي لقسم الطوارئ، حين أصعد الدرجات الخمس للدخول إلى المبنى. أعرف السيدة السمينة التي تجلس على تختٍ، هو في الأساس للمرضى، لا بد أن أحدهم ساعدها في الحصول عليه. وأعرف السيدات الشابّات اللاتي يجلسن على جانبي الممرّ يبدو عليهنّ الهمّ والحزن، وهنّ غير مصدّقات أنهن يبتن في ممرّ داخلي قرب مصعد المستشفى ودرجه. وحين أصعد إلى الطابق الثاني، أعرف العائلة التي تتّخذ من زاوية غرفة العمليات مبيتاً لها. الرجل الحائر الذي يحاول طوال الوقت تهدئة أطفاله، وأعرف في مدخل الطابق الرابع الستارة الضخمة التي مدّها رجل بين جداريْ المصطبة التي تفصل الدرجات، لتعلن عن باب الطابق الرابع، تاركاً فقط مساحةً لا يمرّ منها أكثر من شخص في الوقت نفسه. وحين أدلف إلى الطابق الرابع، أعرف السيّدة التي لا أمرّ إلا وتكون تأكل حلاوة مع خبز، والرجل المصاب بساقه تخرُج منه مسامير البلاتين ممدّداً على سريرٍ على مدخل قسم جراحة الحريمي. كما بتّ أعرف الممرّضات والطبيب دائم العبوس والحيرة، وأقول في نفسي “الله يساعده”. وأيضاً صرت أعرف عوائل المصابين مثلي: أعرف أبو نعيم الذي كان شرطيّاً قبل الحرب، ويقف على دوّار الكلية الجامعية كما أخبرني. وأعرف الشاب أبو يزن وزوجته أم يزن اللذيْن كانا يعتنيان بوسام في أول يوم وصلتُ فيه. أعرف كل هؤلاء الذين يتألّمون ويعانون، وتظلّ وجوهُهم مطلية بالبأس والشدّة، لأنهم لا يحبّون أن ينكسروا. أعرف الألم وأعرف أنه الرفيق الوحيد لنا في كل هذه الزحمة، وأن لا شيء يمكن أن يخفّف منه أو يزيله، لأن من رحلوا تركوا جرحاً غائراً في قلوبنا دامياً في أرواحنا. تُركوا من دون أن نتحضّر لهذا الفراق، ومن دون أن ننتظرهم قرب بوابات الرحيل نلوّح لهم. ننظر للمرّة الأخيرة في عيونهم، وهي تبهت قبل أن يغادرها النور. أعرف أننا سنظلّ نعيد تذكير أنفسنا بتلك اللحظات القاسية مهما جفّت الكروم واختفت.

(20 أكتوبر)
ضحكتُ، وأنا أشير نحو محمّد، وأقول له إنه يلبس حذاءً حريميّاً. لم يُلاحظ أحدٌ ذلك، رغم أن محمّد يلبسه منذ يوم أمس، حين شعر بتعبٍ شديد في قدميْه، جرّاء لبسه المتواصل البوط قرابة أسبوعين، فقرّر أن يخلعه ويحرّر قدميه قليلاً، وبلبس شيئا أكثر رحابة وتهوية، فلَبس حذاء هناء القديم الذي تركته في البيت قبل الانتقال إلى رام الله.

في الحقيقة، لا أحد ينتبه إلى التفاصيل في هذه الأيام. الكلُّ مشغولٌ بالتفصيل الأكبر: الحرب. بفكرة النجاة التي يريد لها أن تتحقق. في الحرب كلُّ شيءٍ يشبه كلّ شيء. ضحكتُ وأنا أقول المساواة والجنس الواحد تصبح واقعاً في الحرب. فعلى الرغم من أن محمّد مشى معي في المخيم في الليل، وتنقلنا من مكان إلى آخر، وخلع الحذاء، وتركه على عتبات الغرف والبيوت، وأعاد لبسه، إلا أن أحداً لم يلاحظ أن الرجل يلبس حذاء المرأة. ليس مهمّاً أصلاً ماذا يمكن أن يقول الناس. أنا كنت أسأل محمّد الشيء نفسه قبل ساعة، حين صففْنا السيارة، وهممتُ أن أنزل حتى أعود وسام، وأفحص ما إذا كانت في حاجةٍ لأي شيء. قلتُ: أنا ألبس شورتاً، فهل من اللائق أن أدخل المستشفى؟ الشورت الذي ألبسه طويل، ويغطّي معظم الساق إلا القليل منها. وبالتالي، لا يبدو شورتاً فعلياً، ومع ذلك شعرتُ بحرجٍ أن أدخل إلى المستشفى وأنا ألبسه. ابتسم محمّد وقال إن لا أحد يلاحظه. هذه حربٌ، وفي الحرب كلُّ شيءٍ ممكن. رغم أنني، مثلاً، كنت ألبس الشورت ليلة أمس وصباح اليوم، وانا أتنقّل في الحارة، وأسامر أبناء عائلتي في الشارع، ونحن نتحدّث عمّن فقدناهم تحت الركام، وعمّن تحوّلوا جثثاً هامدة أو مقطّعة. لم أجد حرجاً من أنني ألبس شورتاً، كما أن أحداً لم يعلّق ولم يلفت انتباهي. ربما كان هذا ممكناً في الحارة وبين أبناء العائلة، حيث كلنا عائلة كبيرة. ولكن قد لا يبدو لائقاً في المستشفى المليء بالسيدات والصبايا والرجال والأطفال. سأكتشف أن ما يقوله محمّد صحيح، فالأمر ليس بهذا التعقيد، وللحرب قوانين خاصة بها أكثر رحابة من قوانين الواقع، رغم قسوتها (الحرب) وآلامها.

بدت كتابة الأسماء وطرق التواصل على اليد فكرة ذكية، وإنْ كانت تعبر عن هذا الألم من الموت، من دون أن يعرفنا أحد

مثلاً، تنام السيدات معظم الوقت بالملابس كاملة، ويضعن غطاء الرأس بجوارهن تحسّباً لحدوث قصف واضطرارهن للهرب من المنزل فجأة، فيكنّ على أهبة الاستعداد، أو إذا ما باغتهنّ الموت وهنّ نائمات، تكون أجسادُهن مستورة، ويكن جاهزاتٍ للرحيل إلى مثواهن الأخير. يفعل الجميع ذلك حتى الرجال، فالكلّ يريد أن يكون جاهزاً للحظة القاسية، ويريد أن يكون مستعدّاً في حال وقَع المُصاب. هذه من قوانين الحرب التي لا يناقشها أحدٌ، لأنها تتولّد وفق الحاجة، وتتخلّق وفق الظروف. كنت أفعل ذلك طوال الأيام العشرة الأولى للحرب، ثم وجدُتني آخر يومين لا آبه كثيراً بأن أنام بكامل ملابسي، أو أكون مستوراً بشكلٍ كامل، لأن الموت يجعلنا لا ندرك ماذا يحدُث بعده. ماذا يضرّ الشاةَ سلخها بعد ذبحِها. فأنا لا أعرف ماذا سيحدُث بجسدي حين أموت، ولا أعرف كيف سأموت، أو ما إذا كان جسدي سيظلّ سليماً أصلاً إذا وقع عليه سطح البناية، أو حمله الانفجار عشرات الأمتار في الهواء ثم رمى به على سطح بناية أخرى. لا أحد يعرف. لذا ليس مهمّاً ماذا يمكن أن يقع إذا وقع. المهم أن لا يقع. ولمّا ليس بمقدورنا أن نقرّر وقوعَه من عدمه، فإن بقيّة التفاصيل ليست مهمّة، فالمهم هو الموتُ وحدَه، وإذ وقع انقشع كل شيء، وانتهى كل شيء.

فلسطيني يرفع جثمان قريبه الذي استشهد جرّاء قصف إسرائيلي في دير البلح وسط غزّة


نمنا ليلة أمس مثل جائعٍ لم يأكل منذ قرون. لا أعرف ما السبب. لم تتوقّف الطائرة عن القصف ولا توقّفت عن الطنين، ولا ساد هدوء من أي نوع. ولكن كما سنعرف من الأخبار حين نصحو، تركّز القصف الليلة على مدينة الزهراء، حيث دمّرت قوات الاحتلال معظم أبراج المدينة الجميلة التي أنشأها ياسر عرفات في جنوب مدينة غزّة على حافّة الوادي، حتى تكون مستقرّاً لقيادة القوات الذين عادوا من الشتات. كانت المدينة الأجمل في غزّة، سواء أبراجها المبنية بشكل حديث، أو فيلاتها التي تنتشر بانتظام في شوارع نظيفة. ظلّت المدينة محاطةً بكروم التين والعنب التي تشتهر بها منطقة الشيخ عِجلين، آخر أحياء مدينة غزّة الجنوبية. وأنت حين تأكل عنب الشيخ عِجلين تأكل كما يمكن لأي مواطنٍ يعيش في غزّة أن يقول لك أفضل عنب في فلسطين.

عموماً، نمنا بشكل عميق. ما أن وضعتُ رأسي على المخدّة حتى غفوْت. أجريتُ حواراتٍ طويلةً في عقلي مع الطائرة الزنّانة، حواراتٍ تخلق رتابة ومللاً يجعل النوم مهرباً لا بدّ منه. وكما دائماً، أنت بحاجة لما يجبرك على النوم. ورغم الملل الكبير الذي نعيشُه بكل تفاصيلنا، إلا أننا بحاجةٍ لمزيدٍ منه، من أجل أن تضطرّ جفوننا للإطباق بشكل كامل، ونغوص في النوم مثل من ينزل في بحيرةٍ ويغرق. وغرقتُ في النوم بشكلٍ أذهلني، حين أفقت في الصباح عند السابعة. فقط قرابة الفجر صحوتُ على صوت جلبةٍ وحركةٍ وأصواتٍ في الشارع.

أيّ مفارقة تلك، حين لا تملك الخيار، لا في موتك ولا في التأكّد من أن جثمانك سيتم العثور عليه

استيقظ فرج أيضاً على الأمر. قال لي إن حريقاً شبّ داخل البيوت المقصوفة في الحارة، وإنهم، أي أهل الحارة، اتصلوا بالمطافئ، وها هي تؤدّي عملها من أجل إخماده. وقفتُ أنظر من النافذة. كان ثمّة لهبٌ يبدو في جوف العتمة من آخر الزقاق الممتدّ قبالة النافذة. وكان رجال المطافئ يواصلون عملهم، فيما نور الصباح بدأ يُفرد القليل من بهائه على الحارة الغافية على الألم والوجع، والساكنة على ضفاف الموت. بعد عشر دقائق، نجحت المهمّة، وطوى رجال الإطفاء خراطيم المياه، وانسحبوا من المكان. لم تمرّ إلا دقائق حتى عاد الهدوء وعمّ الصمت، ورجعتُ إلى فرشتي، لأواصل نومي، كأنني لم أستيقظ ربع ساعة أشاهد الحريق وأشاهد إخماد الحريق. وحدها ربع الساعة تلك هي ما أزعج نومي الهادئ العميق. إنها ربع ساعة جاءت لتؤكّد أن الهدوء التام مستبعَد، وأن الصمت التام لا يحدُث، وأن النوم بدون كوابيس لا يعدّ نوماً حقيقياً. فأجملُ النوم الذي يتم وسط الكوابيس، وأكثره عمقاً الذي يحدث وسط الأحلام المزعجة، كما أن أفضل الصمت ذلك الذي تنزعه وسط الضجيج لأنه يصل إلى أعماق أعماق روحك.

قبل أن ننام، وفيما كنّا نمارس عادتنا في الاستماع للأخبار، وندخّن النرجيلة استعداداً للنوم، كان صوت القصف قريباً، والانفجارات تهزّ الحارة. لم نقم، ولم نقف قرب النافذة نستطلع الأمر، فالقصف أمرٌ عادي والانفجار روتين الحياة في الحرب، كما أن فكرة أن يكون البيت المجاور قد تدمّر وأنت لا تعرف صارت أمراً عادياً، لكنه الفضول يظلّ ينبش الاستقرار المزعوم الذي نحاول ادّعاءه. طاول القصف مسجدا مجاورا في الحارة بالقرب من بيت محمّد المقيد، كما أن الرسائل النصية الواردة ستُخبرنا أن قرابة 14 شهيداً سقطوا في تجمّعاتٍ مختلفة في المخيم في بلوك “9” وفي بلوك “7” لجهة المسجد وفي منطقة القصاصيبي.

فلسطينيون يبحثون عن ناجين في بناء مدمّر بفعل قصف إسرائيلي وسط قطاع غزّة (31/10/2023 الأناضول)


سأعرف أن صديقي زياد أبو الجديان وآخرين قد أصابهم القصف، وسأعرف أن البحث عن النجاة لا يفيد كثيراً، في ظل نهم الجيش للقتل. الفكرة أن يوقع أكبر قدرٍ من الموت فينا، أن يقتلنا، أن يحوّلنا إلى أشلاء. لا يهمّه الرقم. فنحن، في نهاية الأمر، مجرّد أرقام، وحين يصبح البشر أرقاماً، فإن رقم 10 أو رقم مليون ليس أكثر من زيادة أصفار جديدة. لذلك ما يهم الجيش أن لا نظل موجودين، أن نتحوّل إلى ركام. لا يقول العالم شيئاً باستثناء المظاهرات في المدن والعواصم، لكنّ هذا لم يوقف الاحتلال، فبعد مذبحة مستشفى المعمداني، واصل ارتكاب مزيد من المجازر، فمصّاص الدماء لا يُشبعه إلا مزيد من الدم، والمزيد من الدم يتطلّب المزيد منه أيضاً. ومع ذلك، يصحّ أن أقول: لقد نمتُ بشكلٍ أفضل من قبل.

قبل ساعة، رنّ الهاتف ليخبرني بأن الحفار “الباقر” وصل أخيراً إلى مكان بيت حاتم. تركت اللابتوب، وخرجتُ مسرعاً مع محمّد إلى مكان البيت. كان “الباقر” يرمي الرّكام جانباً، محاولاً الكشف عن الجثامين التي ترقًد هنا منذ أربعة أيام. كان بعض أبناء عمومتي يقفون في الشوارع المحيطة بالبيت، وكان الغبار سحابةً تلفّ المكان، إذ يصعب النظر جيداً لرؤية شيءٍ خلاله. أخذ الشاب ذو الشارب الخفيف يدفع أسنان “الباقر” في داخل الباطون المتراكم، ثم يسحبه بعيداً، ويرمي بما استطاع حمله بين أسنانه بعيداً في ساحة صغيرة قرب بيّارة على طرف الشارع. كان يواصل عمله بعزيمةٍ، وأعينُنا تحاول اختراق الغبار، بحثاً عمّا قد يلمع أو يقترح أن هناك جثمانا يرقد في انتظار من ينتشله.

قفز أحدهم، وقال إن هناك قطعة لحم تبدو جزءاً من جثّةٍ مدفونةٍ في مكانٍ آخر

أخيراً، صاح شابٌّ يطلّ على المشهد من بقايا البيت الغربي المجاور، مشيراً إلى موضعٍ يقول إن فيه جثمانا. هرولنا للأسف من فوق أكوام الرّكام التي نقف عليها، وبدا لنا أن ثمّة جثمانا لرجلٍ ضخمٍ بدت منه يده اليسرى، وهي تحيط بما كان لحظة الانفجار وجهه. الجثمان بدون رأس، واليد تلتف حول الرأس الذي كان، كأنها كان تتّقى قوة الانفجار أو اللهب الذي رافقه. كان صعباً سحب الجثمان. لم نعرف حتى اللحظة لمن يكون. افترضنا أنه إمّا لحاتم أو لنجله محمّد. نفى حازم، وقال صارخاً إن حاتم كان يلبس بلوزة بيضاء، وبلوزة صاحب الجثّة سوداء. ثم دار الحديث فيما انشغل الشبان في انتشال الجثمان. كانت عمليةً صعبةً ومعقّدة، فأي عملية سحبٍ وشدّ زائدةٍ يمكن لها أن تمزّق الجثمان الذي بدا رخْواً بعد تركه كل هذه الأيام تحت الركام.

نزل أخي محمّد ليساعد في عملية الحفر أسفل الجثمان، حتى تتم حلحلة الأرض والركام تحته وإضعافها، فتتساقط، فتترك فراغاً يمكّننا من سحب الجثمان. اقترحتُ أن يرمي “الباقر” مزيدا من الركام الموجود فوق الجثّة إلى الخلف. وضعنا بطانية فوقها، ثم بدأ “الباقر” عمله الجديد بروية، حتى لا يؤذي الجثّة. قال سائق “الباقر” إن هذا أقصى ما يمكن أن يقوم به، تاركاً لنا إكمال المهمّة وسحب الجثة. واصلنا رفع الركام بأيدينا، قطع الخشب وبعض القماش. وكلّما سحبنا شيئاً تداعى شيءٌ آخر وتحرّر جزءٌ من الجثة. اخيراً، قال حازم، وهو ينظر إلينا من فوق الركام، إن هذا ابنُه عوض، ابنُه البكر. ثم دخل في موجة بكاءٍ مؤلمة، مثل كل بكائنا على من نحبّ. نحيبٌ يقطع القلب. طلبتُ من محمود، ابن أخيه خالد، وهو أحد الناجين، وكان قد أصيب في ساقه، أن يقف إلى جوارِه، خشية أن يقع من شدّة البكاء.

أخرجنا الجثّة ووضعناها في كيسٍ بلاستيكي، ثم واصلنا البحث عن البقيّة. لعشرة دقائق، لم نجد شيئاً، ثم قفز أحدهم، وقال إن هناك قطعة لحم تبدو جزءاً من جثّةٍ مدفونةٍ في مكانٍ آخر. وضعنا كومة اللحم في كيسٍ آخر. وواصل “الباقر” مهمّته الصعبة. بدأت عملية ترتيب القبور مع عمّي والد هناء، من أجل تأمين القبور اللازمة للدفن. وعملية إيجاد قبور معقّدة، فلا يوجد إسمنت ولا حجارة لصنع القبور، ناهيك عن أن المقبرة امتلأت وصار صعباً إيجاد مساحة ملائمة لحفر قبر، فما بالك بمجموعة قبور. كنّا على أقلّ تقديرٍ بحاجةٍ لعشرة قبور، ثلاثة منها لحاتم وهدى وابنهما محمّد.

الصمت في مرّات أفضل من الحديث، وهو نوع من التضامن. إنه القهر الذي يصيبنا، فنعجز عن قول شيء

تتّصل هناء بي دقيقة، لتتأكّد من أننا وجدْنا جثمان هدى. تبكي وتبكي بحُرقةٍ كأن موتهما قد حدثَ قبل لحظة. هذا الشعور المكثف بالعجز يقهر أكثر من الألم والعذاب. قرّرتُ أن أذهب إلى بيت الصحافة لأغسل يدي، وأنظّف نفسي. شعورٌ مؤلمٌ ومفجع. كان ظهري يؤلمني بشكل كبير، وخفت أن أنزلق فوق الرّكام. أوصلني محمّد وذهب إلى مكان البيت المقصوف من أجل المساعدة في عملية البحث. تفوح رائحة الموت من ملابسي ومن يديّ ومن كل شيء فيّ. عملت القهوة وجلستُ لأكتب، حين رنّ محمّد، ليخبرني بأنهم وجدوا جثامين أولاد حازم، وبقيت جثث حاتم وهدى وابنهما محمّد. تُواصل هناء الاتصال والسؤال والأسئلة التي تعجز عن تقديم إجاباتٍ عليها تصير سهاماً تمزّق القلب.

بعد دقائق، رنّ محمّد وهو يلهث، ليخبرني بأن الطائرات أغارت على المكان، حيث قصفت الأرض الزراعية المجاورة للمبنى، وتساقطت عليهم الشظايا وقطع الحديد وبقايا الصواريخ. كان يلهث والخوف يبتلع الكلمات الخارجة من فمه. ثم هدأ فجأة، حين وجد مكمناً، وقال إن الجميع قد غادر المكان. سألت: و”الباقر”؟ قال و”الباقر” أيضاً، كدنا نموت، الكلّ هرب. هذا يعني أننا سنسعى، مرّة أخرى، إلى إحضار “الباقر”، وهذا قد يستغرق أياماً أخرى. بالنسبة لي، من المهم إيجاد جثامين حاتم وهدى وابنهما محمّد حتى ترتاح هناء ويرتاح عمّي وعمّتي وأنا أرتاح لراحتهم. أغلقت الموبايل، والحزن يعود بكثافةٍ إلى وجهي. لا أعرف ماذا أفعل أو كيف أتصرّف. لم أرغب بإبلاغ هناء بالخبر. قلت لتتمتّع ببعض الاستقرار. وحين تظن أننا في طريقنا لدفنهم. بعض الراحة أو عدم اليقين في مرّات أفضل حتى لو كان وهماً. يفيد الوهم أحياناً.

لا أعرف ماذا سيحدُث بجسدي حين أموت، ولا أعرف كيف سأموت، أو ما إذا كان جسدي سيظلّ سليماً أصلاً إذا وقع عليه سطح البناية، أو …

في الصباح، كان نبيل (أبو عطا) الذي ترقُد أغلب عائلته تحت الرّكام يجلس في الشارع، يندُب حظّه، ويندُب أولاده وبناته وأحفاده. جلستُ بجواره، لم أقل شيئا. الصمت في مرّات أفضل من الحديث، وهو نوع من التضامن. إنه القهر الذي يصيبنا، فنعجز عن قول شيء. كان من الصعب دخول “الباقر” للوصول إلى البيوت المدمّرة داخل الحارة. أحضر أولاد الحارة موتور كهرباء، وشغّلوه، وبدأوا عملية قصّ الحديد بالقواطع الكهربائية، وأخذوا يزيحون كتل الإسمنت والأعمدة الخرسانية بأيديهم، في محاولة لإنقاذ بعض الجثامين. مساء أمس، نجحت المهمّة حين انتشلنا جثمان يوسف ابن نبيل. نزلتُ تحت الرّكام مع أبناء العائلة في تلك الكوّة الضخمة التي أحدثها السطح الكبير الذي سندته حوافّ الأعمدة المكسّرة، وأخذنا نُزيل الحجارة، فيما انشغل شابٌّ يعمل في الدفاع المدني بقصّ الحديد، حتى نجحنا في إزاحة الرّكام عن الجثة الضخمة التي تعود ليوسف ابن نبيل. تواصل العمل في هذا الصباح، وقال أحدهم فرحاً، والفرح هنا أشدّ إيلاماً من الحزن، إن هناك أطرافا يبدو أنها لجثّة طفلة. لا بد أن هذه جثة لأحد أطفال يوسف. من داخل كوّة أخرى في الجهة الجنوبية، صرخوا بأنهم بدأوا بالكشف عن جثّة رجلٍ، يعتقد أنه زوج ابنة علي صاحب البيت. بدأت الأمور تتّضح، وبدأت عملية البحث عن قرابة 23 مفقوداً من العائلة في هذا البيت تؤتي ثمارها.

.

العربي الجديد

Exit mobile version