ثقافة وفكر
أخر الأخبار

أبو البركات ابن ملكا البغدادي.. الفيلسوف العالم الذي سبق نيوتن وجاليليو

يقطان مصطفى

منذ منتصف القرن الحادي عشر وحتى منتصف القرن الثالث عشر، حافظ العرب والمسلمون على تفوقهم غير المتنازع عليه في العلوم، وفي الرياضيات خصوصاً؛ نشر حسن المراكشي في العام (1229م) في مراكش، جداول تشتمل على جيوب الزوايا لكل درجة من الدرجات، وجداول بجيوب التمام، وجيوب الأقواس.. وبعد جيل أصدر (نصيرالدين الطوسي)، أول رسالة بحث فيها حساب المثلثات، بوصفه علماً مستقلاً بذاته، لا بوصفه فرعاً من فروع علم الهيئة؛ حتى إن كتابه (شكل القطاع)، بقي لا ينافسه منافس في هذا الميدان، إلى أن نشر (رجيومونتانس) كتابه (المثلثات) بعد مئتي عام.

وقد تصدى للبحث في قوانين الحركة، التي نشرها (إسحاق نيوتن) في كتابه العبقري (الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية)، جماعة من علماء الطبيعة العرب المعاصرين، بدراسة ما جاء في المخطوطات الإسلامية، وتبيّن لهم أن (أبو البركات/ هبة الله بن ملكا البغدادي)، هو أحد ثلاثة، ومعه ابن سينا وفخرالدين الرازي، قد سبقوا (نيوتن) في اكتشاف قوانين الحركة والميكانيك.. وأن من أهم ما وقف علماء العرب والمسلمين على حقيقته، هو أن سقوط الجسم سقوطاً حراً (أي فقط تحت تأثير قوة جذب الأرض)، يتخذ أقصر الطرق/ الخط المستقيم مساراً في سعيه للوصول إلى موضعه الطبيعي.

يقول الباحث والفيزيائي الدكتور (سائر بصمه جي)، في كتابه (تطور مفهوم الحركة عند العلماء العرب): (ثمة أدلة قاطعة على معرفة علماء عرب ومسلمين، تحديداً أبو القاسم الكعبي، وأبو رشيد النيسابوري، وابن ملكا البغدادي، بتساوي سقوط الأجسام كلها في حقل الجاذبية الأرضي، بغض النظر عن ثقلها أو حجمها أو شكلها؛ وهذا كان تصحيحاً لأفكار أرسطو طاليس.. وسبقاً لأفكار غاليليو ونيوتن).

والدكتور (بصمه جي)، كشف عن آراء الفيلسوف وعالم الطب والصيدلة، والفيزيائي (أوحد الزمان)، أبو البركات (1164م)، الواردة في كتابه الموسوعي رفيع المستوى (المعتبر في الحكمة)، في جزئه الثالث المخصّص للطبيعيات (الصوت، والضوء، والحركة)، وعن اكتشافاته المهمة بخصوص قانون الجاذبية؛ مصحّحاً الخطأ الجسيم الذي وقع فيه (أرسطو)، عندما قال بسقوط الأجسام الثقيلة أسرع من الأجسام الخفيفة، وسابقاً لغاليليو في إثبات الحقيقة العلمية، التي تقضي بأن سرعة الجسم الساقط سقوطاً حراً، أي فقط تحت تأثير الجاذبية الأرضية، وبشرط انعدام أية معوقات، لا تتوقف إطلاقاً على كتلته.

و(هبة الله) هو أوّل من وجد أن الجسم الذي تفارقه القوة، التي سببت حركته، يبقى متحركاً إلى الأبد لولا مقاومة الوسط، مشيراً إلى وجود خاصية مدافعة الجسم عن بقائه على حاله، وهذا قانون (نيوتن) الأول للحركة (القصور الذاتي)، أو على وجه أصح، قانون (ابن سينا) في الحركة والسكون! وهو أيقن أنه لولا تعرض الأجسام الساقطة سقوطاً حراً لمقاومة الهواء، لتساقطت الأجسام المختلفة الثقل والهيئة بالسرعة نفسها، ليكون بذلك أول من نقض القول المأثور عن (أرسطو)، بتناسب سرعة سقوط الأجسام مع أثقالها، محققاً سبقاً أكيداً في مجال حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية الأرضية، قبل (غاليليو) بنحو خمسة قرون من الزمان. يقول: (.. وأيضاً لو تحركت الأجسام في الخلاء، لتساوت حركة الثقيل والخفيف والكبير والصغير، والمخروط المتحرك على رأسه الحاد، والمخروط المتحرك على قاعدته الواسعة، في السرعة والبطء….).

ولعل أقرب ما توصل إليه علماء العرب والمسلمين من معاني القانون الثاني للحركة، هو قول ابن ملكا: (وكل حركة في زمان لا محالة، فالقوة الأشدّية تحرّك أسرع، وفي زمان أقصر؛ فكلما اشتدت القوة، ازدادت السرعة فقصر الزمان، فإذا لم تتناهَ الشدة، لم تتناهَ السرعة، وفي ذلك أن تصير الحركة في غير زمان وأشد، لأن سلب الزمان في السرعة نهاية ما للشدة)؛ قاصداً بسلب الزمان في السرعة، التسارع/ العجلة؛ حيث التسارع يساوي السرعة مقسومة على الزمان، (أو هي بلغة اليوم؛ معدل تغير السرعة بالنسبة للزمن). ويتضح من هذه المعاني، أن (ابن ملكا) يشير إلى تناسب القوة، مع تغير السرعة بالنسبة إلى الزمن، وهذا معنى موافقٌ تماماً للقول بتناسب القوة مع التسارع.

ونفهم من قول (ابن ملكا) هذا؛ أن زيادة السرعة تحدث من زيادة القوة، وهي الانطلاقة التي بدأ منها (نيوتن)، صياغته القانون الثاني للحركة: (القوة المسببة للحركة تتناسب تناسباً طردياً مع تسارع الجسم)، ويقول ابن ملكا في غير موضع: (تزداد السرعة عند اشتداد القوة، فكلما زادت قوة الدفع، زادت سرعة الجسم المتحرك، وقَصُر الزمن لقطع المسافة المحددة). وهذا ما جاء به (نيوتن) دون أي اختلاف يُذكر. كما يقول ما مؤداه تماماً: (إن زيادة السرعة تحدث ما بين لحظتين متتاليتين من زيادة القوة أو اشتدادها).. بادئاً الخطوة الصحيحة نحو إيجاد العلاقة الصحيحة بين معدل تغير السرعة والقوة. وقد توصلت دراسة أكاديمية غربية رصينة، إلى مقارنة المفاهيم التي استخدمها (نيوتن)، وتلك التي استخدمها (ابن ملكا)، إلى أنه أول فيلسوف وأول فيزيائي، يفسر (ظاهرة التسارع) في حركة الجسم الساقط تحت تأثير الجاذبية الأرضية.

ولجهة القانون الثالث للحركة عند (نيوتن)، والذي ينص على أنه: (لكل فعل ردُّ فعل مساوٍ له في المقدار، ومضادٌ له في الاتجاه)، فيشير (ابن ملكا) إليه في قوله: (إن الحلقة المتجاذبة بين المصارعين، لكل واحد من المتجاذبَين في جذبهما قوة مقاومة لقوة الآخر، وليس إذا غلب أحدهما فجذبها نحوه يكون قد خلت من قوة جذب الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها ما احتاج الآخر إلى كل ذلك الجذب). وواضح هنا أن الحلقةَ جسمٌ في حالة اتزان، لوقوعه تحت تأثير قوتين متساويتين مقداراً، متعاكستين اتجاهاً.

وعن سبب تفضيل (ابن ملكا) مثال الحلقة على مثال شد الحبل، الذي كان مشتهراً بين فيزيائيي ذلك العصر، يجيب الدكتور
بصمه جي: (إن أبو البركات أراد تبسيط فكرته من خلال استعانته بفكرة الحلقة، التي تعد شكلاً هندسياً ودائرياً: مركزه في وسطه، وهو نفسه مركز ثقله الخارجي)، بينما في مراجع علم الميكانيك الحديث، يستخدم مثال شخصين يقومان بشد الحبل، ونلاحظ أنّ شرحه أوضح وأفضل من الشرح الحديث عندما اقترح وضع حلقةٍ في المنتصف بين شخصين.

وعندما كتب (ابن ملكا) عن حركة السقوط الحر للجسم تحت تأثير قوة جذب الأرض له، مهّد لقانون (كمية الحركة)؛ فلأن حركة هذا الجسم تتزايد سرعةً كلما أمعن في هبوطه الحر، يشتد تأثيره مع طول المسافة المقطوعة. يقول: (.. فإنك ترى أن مبدأ الغاية كلما كان أبعد، كان آخرُ حركته أسرع، وقوة ميله- يقصد كمية حركته- أشد، وبذلك يشج ويسحق، ولا يكون ذلك له إذا ألقي عن مسافة أقصر..)، و(إن سرعة الجسم الساقط سقوطاً حراً، تتزايد تبعاً للمسافة التي يهبطها، فتزيد كمية حركته، ويشتد تأثيرها…).

يقول آينشتاين: (الخيال أهم من المعرفة، فالمعرفة محدودة بما نعرفه الآن وما نفهمه.. بينما الخيال يحتوي العالم كله، وكل ما ستتم معرفته أو فهمه إلى الأبد). وربما تنطبق هذه المقولة تمام الانطباق على مقولات (هبة الله) في قوانين الميكانيك.

*عن مجلة الشارقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى