أطفال بلا ملاذ.. “ذاكرة الحرب” تقتل ما تبقى من الأمان

تقريرخاص
في اليمن المُنهك أطفال يحملون في عيونهم ذكرياتٍ لا تليق ببراءتهم وأعمارهم، وقصص مؤلمة ليست مجرد إحصاءات بل شهادات حية على آلام لا تعبر عنها الدموع وحدها، أطفال شاهدوا آباءهم يُضربون ويُهانون ويُذلّون أمام أعينهم لذلك فقدوا الثقة بالعالم وبأنفسهم كذلك، ويروون حكاياتهم للتذكير أن الحروب بإمكانها قتل كل شيء حتى الطفولة.
أُجبر على الصمت
كان عمر يبلغ 8 سنوات حين دخل الحوثيين المنزل فجراً حين همس له أبوه: “لا تخاف” لكن الخوف كان أكبر من أن يُخفى، اجتاح المسلحون ب”اشكالهم البشعة” كما وصفهم، الغرفة وبدأوا بصفع والده أمام عينيه، ثم بطحوه ارضا وقيدوه واخذوه أمام عينيه، يقول عمر “يومها كنت أريد أن أصرخ لكن أمي غطّت فمي بيدها وشعرتُ أنني خنت أبي لأنني لم أستطع إنقاذه”، بعد ذلك اليوم توقف عن الكلام لأشهر”.
بحسب الخبير النفسي “راضي الحوباني” فان ظاهرة “الصمت المفاجئ” عند الأطفال هي بمثابة صرخة استغاثة لطفل يشعر بالعجز، لذلك فهو يعاقب نفسه لاشعوريا بإسكات صوته، وكأنه يحاول حذف ذلك المشهد من ذاكرته”.
وفي المدرسة، أصبح عمر يختبئ في الزاوية بآخر الصف تحديداً وتدنى مستواه الدراسي كثيرا، المعلمة التربوية استاذة “منى الزريقي” تقول لموقع الوعل اليمني”الأطفال الذين يشهدون العنف يطورون خوفاً مرضياً من الاشخاص الكبار حتى لو كان مجرد معلم أو شرطي مرور في الشارع”.
كرامة أبي
ولم تكن ليلى تتجاوز العاشرة من عمرها عندما جاء عاقل الحي ومعه بعض الجنود الحوثيين لاعتقال والدها، ولم يكتفوا بجرّه أمام ابنته بل كانوا يضربونه بقسوة أمام الجيران بينما كانت ليلى تختنق من البكاء وتصرخ بكلمة واحدة “بابا”، اليوم بعد 3 سنوات لا تزال ليلى تستحضر صورة والدها الذي كان يمثل لها رمز القوة والأمان، وهو يهان امامها ويجر على قارعة الطريق.
لا اخاف الظلام
“لم أعد أخاف من شيء الا منهم.. من وجوههم”كان “يوسف” ذو السبعة أعوام يختبئ تحت سريره حين سمع دوي الاقتحام، وعندما خرج وجد والده مُلقى على الأرض ورجلٌ بزي عسكري يضربه بحذائه العسكري الغليظ على وجهه، يقول يوسف:” “كنت أرى دم أبي على حذاء ذلك الرجل وكلما رفع قدمه كان الدم يلتصق به”.
وبعد مرور عامين من الحادثة لايزال ابوه في عداد المخفيين، اما يوسف فأصبح يخاف حد تعبيره، من ثلاث أشياء: الرجال بالزي العسكري، صوت الأحذية الثقيلة، ومنظر الدم، ويقول: “كنت أخاف من الظلام لكن الان بطلت اخاف منه، الظلام ارحم منهم، في الظلام لا أرى وجوههم”.
انهيار الملاذ
الاختصاصية النفسية “علوية المهدي” توضح لموقع الوعل اليمني بأن ” الإذلال الجسدي أمام الأطفال يفقدهم الثقة بكل رموز الحماية”.
وتحذر قائلة : “بعض الضحايا يتحوّلون إلى جناة في المستقبل عندما يقتنع الطفل أن العنف هو السبيل الوحيد للبقاء”، وتشير إلى أن 40% من الأطفال المجنّدين في النزاعات بمحض إرادتهم (وفق بياناتها ) شهدوا إذلال ذويهم.
اما الأستاذ “عصام علوان” الخبير التربوي في قطاع التوجيه بوزارة التربية والتعليم بمأرب، فيقول “لو عالجنا هؤلاء اليوم، فقد نمنع جيلاً من الأمراض الاجتماعية غداً، لكن الكثيرين مثل عمر وليلى ويوسف يكبرون مع جراحهم ولا يتكلمون، ربما يكون الأقسى أن الذكريات لا تٌزَال بالوقت بل تتحول إلى كوابيس تطاردهم، كوابيس عن يوم كانوا فيه شهوداً على انهيار ملاذهم وحصنهم القوي”.