أطفال غزة.. براءة بين الخيام والأحلام المسروقة
حين فقدت غزة طفولتها

الوعل اليمني -غزة – أزهار الكحلوت
في خيمةٍ تتسلل إليها رياح تشرين الباردة، يجلس طفل يحدق في فراغٍ طويل، بينما يكتب بقطعة فحمٍ على كرتونة مهترئة: “بابا راجع؟”
هكذا يبدو المشهد في غزة بعد الحرب، حيث لم يعد الأطفال يرسمون الشمس أو البحر، بل يرسمون الفقد والخوف والدمار.
على مدى شهور الحرب الطويلة، تحوّلت براءة الأطفال إلى وجعٍ ناطق. تقول التقارير الحقوقية إن ثلثي أطفال القطاع فقدوا أحد أفراد أسرهم أو جميعهم، بينما تشير منظمات الأمم المتحدة إلى أنّ أكثر من مليون طفل في غزة بحاجةٍ إلى دعمٍ نفسي عاجل.
لكن خلف كل رقمٍ طفلٌ له اسمٌ ووجهٌ حكاية لم تكتمل.
طفولة بلا حقوق
لكل طفل وطفلة في هذه الحرب حكاية ستدوم طويلاً في الذاكرة. وكيف لعمر الجندي (11عاماً)، أن ينسى وداعه لوالده شريف الذي فقده في 21 يونيو/ حزيران 2024، أثناء عمله في غزة، ليفقد عمر معه الأمان والدفء اللذين كانا يملآن قلبه.
ويروي عمر قصته لـ ” الوعل اليمني “، قائلاً: “عندما ودعت والدي، أخذت من دمه ودهنته على وجهي وقلت: بدي ريحته تظل فيّي، عشان ما أنساه.”
تعرض عمر لصدمات متتالية ليجد نفسه قد اعتاد على طرق أبواب ثلاجات الشهداء، فالحرب خطفت منه بعد والده جده وجدته وعمه وصديقه المقرب.
وعن معاناة الأطفال تقول والدة عمر: أُجبر عمر على تحمل مسؤوليات تفوق عمره، فبدلاً من أن يعيش طفولة طبيعية مليئة باللعب والتعلم، وجد نفسه يحمل عبء أسرة كاملة وسط النزوح والبؤس وفقدان البيت.
يقول عمر بصوتٍ خافت: “كنت أحلم أن أكون طبيباً، والآن أحلم فقط أن أجد الطعام والماء لوالدتي وإخوتي، وأتمنى أن نحصل على خيمة خاصة بنا.”
هذه ليست قصة عمر فقط، بل واقع عشرات الآلاف من أطفال غزة الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى أرباب أسر، بعد أن فقدوا آباءهم أو أمهاتهم في الحرب .
مأساة ديمة
في خيمة نزوح بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، تجلس الطفلة بيان (9 أعوام) وتحاول ببراءة طفولية أن تعلم أختها ديمة (5 أعوام) حروف الهجاء، في مشهد يعكس مأساة جيل كامل من أطفال غزة، ممن حرموا من التعليم وأصبحوا معيلين لأشقائهم بعد أن سلبتهم الحرب حقوقهم .
فقدت الطفلة ديمة سالم، والدها ووالدتها وأربعاً من شقيقاتها في قصف استهدف منزلهم في مشروع بيت لاهيا شمال غزة في 14 مايو/ آيار 2024، ونجا معها شقيقاها عبد الرحمن (16عاماً) وبيان ( 9 أعوام)، ليصبحوا آخر من تبقى من عائلتهم وسط حزن وألم لا يحتمل .
تقول عمة ديمة: “بعد استشهاد العائلة كانت صدمة الفقدان شديدة على الأطفال، وخصوصًا ديمة، التي لم تستوعب وفاة أسرتها بعد، وعانت صدمات متتالية وتعرضت لاضطرابات في النوم وتبول لا إرادي وعزلةٍ اجتماعيةٍ شديدة”.
بحسب منظمة “Save the Children“، فإن أكثر من 90 في المئة من أيتام غزة يعانون من اضطرابات نفسية حادة، تتراوح بين الصمت المطلق، والتبول اللاإرادي، ونوبات الهلع.
وتضيف العمة: “تعبر ديمة عن ألمها بطرق طفولية، مثل رغبتها في أن أنجب بنتًا وأسميها (سارة) على اسم شقيقتها التي فقدتها.”
رغم الصدمة، تحاول ديمة وإخوتها أن يجدوا بصيص أمل وسط آثار الحرب والفقدان، في رحلة طويلة نحو التعافي.
اليوم، تعيش ديمة وإخوتها مع عمهم وزوجته التي تعمل أخصائية نفسية وتحاول توظيف خبرتها لدعم الأطفال نفسياً وحماية حالتهم العاطفية، في محاولة للتكيف مع حياة جديدة مليئة بالغياب والفقد.
أرقام مفزعة
بينما يداوي أطفال العالم جراحاتهم باقترابهم من والديهم خلال فتراتهم الحرجة، فإن عشرات الآلاف من أطفال غزة باتوا أيتاماً، وفق ما تؤكده تقارير إحصائية وحقوقية .
وبحسب وزارة الإعلام بغزة ، ارتفع عدد الأطفال الأيتام في قطاع غزة الى 57 الفاً، بعدما فقد 40 ألف طفل أحد والديهم أو كليهما في هذه الحرب، هذا عدا عن 700 طفل فقدوا أسرهم بالكامل وأصبحوا في خانة الناجين الوحيدين.
وقتل الاحتلال الإسرائيلي منذ اندلاع الحرب بغزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ما يزيد عن 20 ألف طفل، من بينهم 19 ألفًا و424 وصلوا إلى المستشفيات. كما استُشهد 1009 أطفال لم يتجاوزوا عامهم الأول، و450 رضيعًا وُلدوا خلال الحرب ولم يُكتب لهم النجاة، إضافةً إلى 134 طفلًا فقدوا حياتهم جوعًا أو نتيجة سوء التغذية، وفقاً لمكتب الاعلام الحكومي بغزة .
آثار عميقة وتدوم طويلاً
تقول الأخصائية النفسية والاجتماعية لطيفة شتات لـ ” الوعل اليمني”، وهي تعمل في مؤسسات المجتمع المدني بقطاع غزة معالجةً نفسية، إن أطفال غزة يعيشون حالة نفسية هي الأصعب منذ سنوات، بعد تعرضهم لصدمات مباشرة من قصف ونزوح وفقدان. وتشير إلى أن الحرب سلبت الأطفال إحساسهم بالأمان، وجعلتهم يحاولون التأقلم مع الخوف والجوع والحرمان من أبسط حقوقهم.
وتحذر شتات من الأخطاء التي يرتكبها بعض الأهالي في التعامل مع أطفالهم، مثل التقليل من مشاعرهم أو مطالبتهم بالتأقلم مع الحرب، مؤكدة أن الكلمة الموجهة للطفل يجب أن تكون حانية ومطمئنة، لا تزيد من توتره وألمه.
وترى أن التعافي النفسي للأطفال يحتاج إلى وقت طويل بسبب تعدد الصدمات التي مروا بها، داعية إلى استمرار برامج الدعم النفسي لجميع الفئات في غزة دون توقف، لأن أثر الحرب النفسي لا يقل قسوة عن جراحها الجسدية.
تترك الحرب في نفوس الأطفال ندوباً لا تُرى، لكنها تكبر معهم بصمت. فكل خوفٍ عاشوه وكل ليلةٍ قضوها في العتمة ستظل تلاحقهم في مستقبلهم، تشكل ملامح جيل عرف الألم قبل الأمان، وكبر قبل أن تكتمل طفولته.
إن تقديم الدعم إليهم، هو واجب أخلاقي وإنساني. ويجب أن تكون معاناتهم بمثابة جرس إنذار يذكر العالم بأن الإنسانية لا تزال في خطر، وأن حماية الطفولة ضرورة لضمان مستقبلٍ مشرقٍ لأجيالٍ قادمة في هذا العالم.






