تناول الناقد المسرحي السعودي سامي الجمعان في دراسته “حضور ألف ليلة وليلة في المسرح العربي” حضور كتاب ألف ليلة وليلة بحكاياته الشعبية الغنية وعديد عناصره الدرامية في المسرح العربي، حيث كانت مواكبة لمسيرته منذ نشأته الأولى، وحتى يومنا هذا، فشكلت هذه المواكبة لساحة الفكر والنقد ظاهرة جاذبة للنقاد، ملهمة للدراسات، ومما ساعد على هذا، تشكلها كحقل معرفي مفتوح، يحتمل القراءات الفكرية المتعددة.
درامية الليالي
يعتني الجمعان في دراسته، الصادرة عن الهيئة العربية للمسرح، بالحضور القصصي المذهل لكتاب “ألف ليلة وليلة” في مسرحنا العربي، مدفوعا بأسباب موضوعية. أول هذه الأسباب أن صهر التراث على اختلافه في الفن المسرحي عمل إبداعي خلاق، لقدرته على إحداث ذلك التماس المطلوب بين أصالة التراث، وأصالة فن المسرح، وهذا يعني حدوث تلاقح بين مجالين أصيلين في حياة البشرية، ذاكرتها الشعبية، وفنونها. وثانيا أن حركة التأليف المسرحي العربي، لم تنشأ عربية صرفة إلا بالاعتماد والاتكاء على الموروث السردي، وتحديدا على حكايات ألف ليلة وليلة، انطلاقا من التجربة المسرحية الرائدة لمارون النقاش في مسرحية “أبو الحسن المغفل”، وما تلاها من نصوص أخذت من غلالة التراث، واقتبست الحكايات الشعبية العالمية، والقصص الديني المتنوع.
ثالث دوافع البحث اتخاذ بعض المسرحيين العرب من التراث وسيلة، لتعويض الشكل المسرحي المأخوذ عن الغرب، بشكل عربي صميم، يولد من رحم تراث الأمة، ويتنفس أصالتها، عبر الاستفادة من أشكال التعبير الشعبي، وتوطين الصيغ الفنية من طقوس وتقاليد وفرجات اجتماعية قريبة من فن المسرح، وعلى رأس هؤلاء المسرحيين توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وعز الدين المدني، والطيب الصديقي، وعبدالكريم برشيد، وسعدالله ونوس، وروجيه عساف، وقاسم محمد.
رابعا يقر الجمعان بالدور السياسي الذي لعبته ظاهرة اللجوء إلى التراث العربي، حين كانت جحافل المستعمر ترزح على بعض الأوطان العربية، وتحكم القبضة الاستعمارية عليها، محاولة طمس هويتها، وتقويض أصالتها، وقد تمثل دور الظاهرة في تفاعل النص المسرحي مع ذلك الوضع، فظهرت المسرحيات التي قدمت الولاء لتاريخ الأمة، عبر استحضار الحوادث التاريخية، والشخصيات الرمز، ومن تراث الأمة الشعبي استقطبت السير والبطولات الشعبية، والحكايات، والأغاني الشعبية، وكأنه دفاع عملي عن هوية الأمة وتاريخها، ولتوخي تحقيق ذلك الأثر الإيجابي من استحضار النماذج التراثية العربية، بما عرف عنها من بطولات شعبية، وبما حققته من انتصارات قومية، عادت على الأمة بالنفع والرفعة، فأصبحت وسيلة لاستعادة الثقة للنفس العربية، ومنطلقا لحياة جديدة، بعيدة عن أسى الإحباط والانكسار.
خامسا يشدد الباحث على قدرة عناصر التراث على التحاور مع قضايا الحاضر، ومرونتها في التشكل، وقابليتها لجدلية الهدم والبناء، والإضافة والتغيير، الأمر الذي أعطى متسعا للكاتب المسرحي لبث همومه، وتفريغ قضاياه، وقضايا مجتمعه في ثنايا تلك العناصر. وكثيرة هي الأقلام العربية التي قامت على تطويع مضامين التراث ومنها ألف ليلة وليلة بغية “إضاءتها إضاءة عصرية، وتحسس مواضيعها وشخوصها بأبعاد ورموز جديدة تعبر عن هموم العصر وتناقضاته، وسعت لمعالجة وقائع التراث برؤية ثورية معاصرة وأسقطتها على أحداث الواقع المعاصر”.
يؤكد الجمعان أن كتاب “ألف ليلة وليلة” لا يتوقف عند كونه كتابا تراثيا عربيا، يشتمل على عدد من الحكايات، بل هو مادة درامية زاخرة بخصائص الفن الدرامي وتقنياته، فعنصرالحكاية كأحد عناصر الفن المسرحي، والذي عده النقاد عموداً فقرياً يقوم عليه بناء المسرحية ككل، وعنصر الحكاية كما هو معروف هو العنصر الرئيس الذي يتشكل منه بناء كتاب الليالي، ومن هنا تكتسب الحكايات فيه قيمتها وأهميتها في الحضور المسرحي.
ويرى أن ما حققته الليالي من حالة درامية ملهمة، أكسبتها شمولية وجدة، عبر توفرها على العناصر الميثيولوجية وبشكل لافت وجاذب، وحددتها الدراسة في موضوعاتها المتسمة بالجدة والشمولية، وفي طبيعة الصراع الدرامية، كونها تقوم على الفعل، والدراما ما هي إلا فعل أو محاكاة لفعل ما، ثم اشتمالها على الطقوس، أو الحالة الطقوسية، والدراما ماهي إلا حالة طقسية يشترك في صنعها الممثل والجمهور، يضاف إلى ذلك عنصر الشخصيات، فقد قدمت ميثيولوجيا الليالي شخصيات متعددة، أصبحت نماذج رئيسة، يعتمد عليها الفن المسرحي في رسم شخصياته، كنموذج البطل الخير، أو البطل الشرير، أو البطل المساعد وهكذا، وهي في الوقت نفسه صورة حية لرحابة الخيال وسعته، والخيال سمة يجب أن تكون من سمات الكاتب المسرحي، كما أنهاقدمت للدراما رموزا عديدة فيما حوته من ثيمات أو أشخاص أو أحداث، مما جعلها مستودعا فكريا للكاتب المسرحي، يبث فيها قضاياه وقضايا عصره.
ومن أهم التقنيات الدرامية التي قدمتها ميثيولوجيا الليالي للمسرح العربي تقنية التصوير البصري الدرامي، وقد أفاد منها الكاتب المسرحي بما حشدته من تفاصيل وصفية وإشارات صامتة وإحالات وتأويلات.
◄ الجمعان يؤكد أن كتاب “ألف ليلة وليلة” لا يتوقف عند كونه كتابا تراثيا عربيا، يشتمل على عدد من الحكايات، بل هو مادة درامية زاخرة بخصائص الفن الدرامي وتقنياته
ويقول الجمعان “اقتربت الليالي من الدراما في خاصية درامية لها أهمية قصوى في بناء حبكة العمل المسرحي، وفي تأثير مجريات حياة البطل إليها، بما يحدث في حياته من ‘انقلابات وتحولات‘ درامية جديرة بإحداث أثر بالغ في نفس المتلقي، ولنا في أبطال ألف ليلة وليلة العديد من النماذج التي انقلبت حياتها رأسا على عقب، إما في اتجاه السعادة أو في اتجاه الشقاء. ومما يزيد هذه الانقلابات قربا من الدراما أنها لم تتخل عن شروطها الدرامية، التي أقر بها نقاد الدراما، بل جاءت بصورتها المتكاملة، فوفرت للكاتب المسرحي شروط تحقق هذه الانقلابات، كشرط قانون الضرورة والاحتمال، وشرط التعرف أو الاكتشاف، وشرط قانون سرعة الانقلاب الدرامي”.
ويتابع “من هذه الشخصيات ما قدمته الليالي من أبطال البطولات الشعبية العربية، والتي نعتبرها خاصية موضوعية مهمة للغاية، أفاد كاتبنا المسرحي العربي منها، بالاتكاء على الشهرة الواسعة لأصحاب هذه البطولات بين أفراد مجتمعاتنا، ولكونهم أصبحوا رموزا في نظر الناس لإقامة العدل، كتبنيهم لقضايا المساواة في توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء، ونصرة المظلوم، وغوث المستغيث”.
ويشير المسرحي السعودي إلى أن تقنية تناسل الحكايات المتوافرة في ألف ليلة وليلة ساهمت في فتح فضاء النص المسرحي العربي وبشكل بائن على العديد من فضاءات النصوص الأخرى كنصوص الميثيولوجيا والتاريخ والتراث بشتى ضروبه، وجعلته نصا قابلا للتحاور مع ما تقدمه الأجناس الأدبية الأخرى، هذا من حيث المضمون، أما من حيث تأثيرها في الشكل المسرحي، فقد ثبت لنا ذلك من خلال تنوع الرؤى والاتجاهات التي قدمها المسرحي العربي، كمارون النقاش، وألفريد فرج، وسعدالله ونوس، ومن مثل توفيق الحكيم في مسرحية سليمان الحكيم، وعلي آل شلبي في مسرحية حكاية الحكايات، وعز الدين المدني، والطيب الصديقي، وصقر الرشود وغيرهم كثير.
ويوضح الجمعان أن التقاليد الخاصة التي اتبعها الراوي في ألف ليلة وليلة أثرت تأثيرا بالغا على نصوص المسرح العربي، حيث مثل الراوي من ناحية ظاهرة تمثيلية فطرية عرفها العرب منذ القدم، ومن ناحية ثانية هو أحد التقاليد المسرحية التي نشأ المسرح العالمي مرتبطا بها، كما أنه تقنية عبرت عن بعض النظريات المسرحية الحديثة، كالمسرح الملحمي عند الغرب، ومسرح الحكواتي عند العرب. ولذا فالدراسة تؤكد على أن الراوي كان أقرب ما يكون إلى الممثل المسرحي، لأنه يستخدم في الغالب أدوات الممثل كالتشخيص والأداء الحركي ودقة الوصف والتصوير والتعبير بملامح الوجه حسبما يرويه من مواقف، وبهذا يكتسب الراوي طاقته الدرامية اللامحدودة.
ويؤكد على اشتمال ألف ليلة وليلة على الخصائص الدرامية المتعددة الملهمة لكتاب المسرح، وأيضا اشتمالها على مخزون موضوعي/ فكري وافر، أفسح مجالا للكاتب المسرحي لالتقاط ثيماته المسرحية منه، وضخ نصوصه من معينه. وعلى رأس قائمة هذه الموضوعات جدلية الصراع الدائم بين الخير والشر، التي جعلتها الدراسة إطارا عاما تندرج تحته موضوعات درامية عديدة: مثل صراع السلطة والشعب، وصراع الأغنياء والفقراء، وصراع الإنسان ونفسه، وصراع الرجل والمرأة.
استلهام التراث
في الجانب التطبيقي الذي اختص به الباب الثاني من الدراسة، يعنى الجمعان بتحديد أشكال حضور الليالي في المسرح العربي، واستُهل بحثه بمدخل ثم فصول ثلاثة هي: الأول “مسرحية الليالي” وفيه اتخذت من مسرحية أبوالحسن المغفل للكاتب اللبناني مارون النقاش أنموذجا، الثاني “توظيف الليالي” وفيه اتخذ من مسرحية “علي جناح التبريزي وتابعه قفة” للكاتب المصري ألفريد فرج أنموذجا، والثالث “تأصيل الليالي” وفيه اتخذ من مسرحية “الملك هو الملك” للكاتب السوري سعدالله ونوس أنموذجا.
يخلص الجمعان من دراسته لهذه النماذج الثلاثة، إلى عدة نتائج منها، أولا أن ألف ليلة وليلة واكبت المسرح العربي منذ بواكيره الأولى، فكانت مصدرا تراثيا غنيا منذ البدايات حتى وقتنا الحاضر، وحققت هذه المواكبة تنوعا في الرؤى، وتعددا في الاتجاهات الفنية، فانتهت العينة التي اصطفتها الدراسة إلى اتجاهات ثلاثة: اتجاه مسرحة الليالي، واتجاه توظيف الليالي، واتجاه تأصيل الليالي.
واتضح الفارق بين الاتجاهات الثلاثة في قدرة الكاتب على نقل عناصر الحكاية إلى عالم المسرح في عناصر ثلاثة هي: عنصر الحكاية، وعنصر المضمون، وعنصر الشكل، ففي اتجاه المسرحة يفسح الكاتب المجال لهيمنة عنصر الحكاية، ويركز كل التركيز على نقل أحداثها إلى عالم المسرح، وبأمانة شديدة، بينما يسعى اتجاه التوظيف إلى خلق تصور جديد عبر ما يستقيه من الحكاية، ويجتهد كثيرا في تفجير دلالاته الجديدة عبر ما تقدمه له الحكاية الأصل، مما يعطي لعنصر المضمون سيادته في هذا الاتجاه، ومما يؤكد ذلك حرص الكاتب في اتجاه التوظيف على أخذ الحكاية إلى مضامين فلسفية تغطي كل جوانب العمل المسرحي وأحداثه، ومع ذلك نجد هذا الاتجاه يبذل جهده في محاولة خجولة لتجديد الشكل، لكنه لا يرتقي إلى جهده المبذول من أجل مضمون نصه الفكري، وهذا نقص يسده الاتجاه الثالث، اتجاه التأصيل، الذي أعطى اهتمامه الكبير للعناصر الثلاثة قاطبة، فجعل من الحكاية منطلقا لمضمون جديد، مع حرصه الشديد على أن يحاكي هذا المضمون واقعه وقضايا عصره، كما يحفل بخلق شكله المسرحي الخاصوالجديد، مع مراعاة التوازن بين مضمون المسرحية وشكلها، بحيث لا تطغى سيادة أحدهما على الآخر.
◄ الجمعان يعتني في دراسته بالحضور القصصي المذهل لكتاب “ألف ليلة وليلة” في مسرحنا العربي مدفوعا بأسباب موضوعية
ثانيا سجلت الدراسة في جانب الشكل أن جميع الحكايات التي مَسرحت أو وظفت أو أصلت الليالي اعتمدت على الإيهام واللعب المسرحي، وهذا يعني أن العنصر المسرحي تقنية اللعبة وعنصر كامن في الحكايات الأصلية، وأن الليالي هي التي ألهمت المؤلفين المعاصرين مثل هذه التقنية.
ثالثا يؤكد البحث قدرة حكايات ألف ليلة وليلة على التناغم مع توجهات المسرح الحديث ومدارسه المختلفة، وقدرتها على استقبال تقنيات المسرح قديمها وحديثها، كما أنها قادرة على التعبير عن تجارب التجريب المسرحي.
يختم الجمعان دراسته بقائمة تضم المسرحيات العربية التي أفادت من حكايات ألف ليلة وليلة، وقد تم إلحاقها بالدراسة لتكون دليلا يعود إليه الباحثون في هذا الحقل من البحث العلمي، مؤكدا: لقد لاحظنا قوة رفد الليالي للمسرحيين العرب، وإلى دورها الكبير في مسيرة المسرح العربي، ولذا ننتهي إلى التوصيات التالية: الأولى أن تكون هناك دراسات إحصائية مختصة بحصر هذه المسرحيات بشكل دوري، على امتداد الساحة المسرحية العربية.
الثانية وجوب التفاتة الكاتب المسرحي العربي إلى بعض العناصر الدرامية الملهمة في ألف ليلة وليلة، حيث لاحظت الدراسة غفلة الكتاب المسرحيين العرب عن بعض هذه العناصر الدرامية والموضوعية القابلة للاستثمار المسرحي، ومن هنا تأتي التوصية بوجوب التعمق في مخزونات هذا الكتاب المدهش.
التوصية الثالثة كما يقول الجمعان “نوصي بضرورة التعمق في دراسة راوي الليالي في ظل تلك الكثافة التي وقفنا عليها في حضور تقاليده، وتنوع أشكاله في مسرحنا العربي.
أما الرابعة فنظرا إلى التأثير الكبير الذي تركته ألف ليلة وليلة في مسرح الطفل العربي، نوصي بأهمية التفات الباحثين إلى ذلك الأمر، والقيام بإعداد البحوث العلمية في هذا الإطار.
بينما يوصي خامسا الكاتب المسرحي العربي بعدم التعاطي مع ألف ليلة وليلة بالمفهوم القائم على تبجيل التراث، والاستسلام لهيمنته، إنما عليه إخضاعها لرؤاه، واستثمارها لخدمة قضايا عصره”.