في السنوات الأخيرة، يمكن القول إن التطورات التقنية أحدثت ثورة في ممارسة الطب. ومع تطور استخدامات الذكاء الاصطناعي في هذا المجال، ازداد الاتجاه نحو استخدام الروبوت الطبي في عمليات الجراحة عن بعد.
ففي فبراير/شباط 2023، أجرى كبير الجراحين، في مستشفى مدينة هانغتشو الساحلية، عملية جراحية لاستئصال المرارة من جسم امرأة صينية، كانت موجودة في أحد مستشفيات مدينة شينغ يانغ. وتبعد المدينتان عن بعض، مسافة تزيد على 4500 كيلومتر.
لم تكن تلك عملية استعراضية أو تجريبية، بل كانت الخطوة التنفيذية الأولى من خطة الحكومة الصينية، لنشر ثقافة الجراحة عن بعد القائمة على استخدام الروبوت الطبي وشبكات اتصالات الجيل الخامس (5G)، من أجل النهوض بالخدمات الطبية في البلاد.
لكن كيف تطورت آلية الجراحة عن بعد؟
الجراحة عن بعد هي الجراحة التي يُجريها أحد الأطباء من مكانٍ بعيد تماماً عن مكان المريض، وقد تم اكتشاف هذا المفهوم من قِبل وكالة الفضاء الأمريكية (Nasa).
كانت “ناسا” مهتمة بتطبيق الجراحة عن بعد على رواد الفضاء، فعملت أولاً على آلاتٍ مجهّزة بأدوات جراحية يمكن وضعها داخل محطة فضائية، على أن يتحكم بها جراحٌ من مكان وجوده على الأرض.
فيما بعد حاولت وحدة الأبحاث في الجيش الأمريكي تنفيذ خطة مماثلة، عبر إنشاء وحدة جراحية يتمّ إدارتها عن بعد بنسبة 100%، ومن شأنها معالجة الجرحى المُصابين داخل ساحة المعركة؛ لكن أياً من تلك الخطط لم ينجح في نهاية المطاف.
شهد العام 2001 أول عملية ناجحة في عالم الجراحة عن بعد، حين استخدم الدكتور جاك ماريسكو -وهو في مدينة نيويورك- الروبوت الطبي لإجراء جراحة استئصال المرارة من مريضٍ كان يُقيم في ستراسبورغ، شرقي فرنسا.
كانت العملية ناجحة، وتمّت خلال ساعتين فقط، كما تماثل المريض بعدها للشفاء تماماً. لكن مع ذلك، فشلت الجراحة عن بعد لفترة طويلة في اكتساب شعبية كبيرة النطاق، لأسباب تقنية متعددة.
أتاحت التطورات التكنولوجية المتلاحقة إمكانية التغلب على المعوقات التي شهدها هذا المجال في البداية.
فإلى جانب تطور تقنيات الجراحة الروبوتية -الأساس الذي يقوم عليه مفهوم الجراحة عن بعد كما سنذكر لاحقاً- أتاحت تقنيات التواجد التفاعلي (VIP) والواقع المعزز (AR) للجراحين تقديم مساعدة افتراضية عن بُعد لزملائهم، طالما كان الاتصال بالإنترنت متاحاً.
فالإنترنت يسمح للأطباء من مواقع متباينة عرض صورة مركبة لتغذية الفيديو في كل محطة، مما يتيح التعاون عن بُعد أثناء تنفيذ العملية. كما أتاح التقدم الكبير الذي شهدته تقنيات الاتصال عن بعد، ومجال شبكات الـ5G، التغلب على المعوقات السابقة.
فمن قبل، كانت تأخذ الجراحة عن بعد وقتاً أطول، ما بين إصدار الأوامر من وحدة التحكم من قِبل الجراح، وتنفيذها من قِبل الروبوت الطبي في موقع العملية. وفي الواقع، تلعب شركات الاتصالات الكبرى، مثل “هواوي”، دوراً رئيسياً في هذا المجال.
كيف ينفذ الروبوت الطبي عملية جراحية عن بعد؟
تعتمد الجراحة عن بُعد بشكلٍ رئيسي على استخدام الروبوت الطبي لإجراء العمليات الجراحية. يتحكم الجرّاح في الروبوت والمهام عبر عصا وشاشة ثلاثية الأبعاد، ليعطي الأوامر إلى الروبوت الذي ينفذ المهام المطلوبة منه بواسطة 4 أذرع مرنة، تشبه الذراع البشرية.
نظام الروبوت يمتلك ذراعاً مزوّدة بكاميرا، وأذرعاً آلية مزوّدة بأدوات جراحية. يتحكم الجرّاح في الأذرع، بينما يجلس أمام لوحة تحكُّم متصلة بجهاز كمبيوتر، بالقرب من طاولة العمليات. وتوفر وحدة التحكم للجرّاح عرضاً مكبراً، ثلاثي الأبعاد وعالي الوضوح، لموقع الجراحة.
ويقود الجرّاح أعضاء الفريق الآخرين، الذين يقدمون المساعدة خلال العملية الجراحية.
كما يمكن أن نحدد بعض المكونات الرئيسية لأنظمة الجراحة عن بعد:
- نظام رؤية عالي الدقة: يكون عادةً في شكل منظار داخلي، مع معدات معالجة صور عالية الدقة، لإنتاج صور ثلاثية الأبعاد لمسرح العملية الجراحية.
- أجهزة الاستشعار عن بُعد: والتي يمكن أن نشبهها بـ”القفازات الإلكترونية”، وتحتوي على تقنية عالية الحساسية موضوعة في نقاط حرجة لالتقاط وقياس وضعية اليدين، وتعمل عن طريق قياس التغيرات في مقاومة التيار الكهربائي، بينما يحرك الجراح يديه.
- تقنية “ردود الفعل اللمسية”: وهي امتداد للمهارات الجراحية الدقيقة للطبيب، حيث تمكن الأخير من أن يشعر بقوة الشد، والملمس، وعمق الأنسجة عن بعد.
ومن أبرز المجالات الجراحية التي تُستخدم فيها الجراحة عن بعد، جراحات البروستاتا، وخاصةً لعلاج سرطان البروستاتا؛ وذلك لأن النظام الآلي، المستخدم في الجراحة عن بُعد، يسمح بإزالة الأنسجة السرطانية بدقة أكبر.
بالإضافة إلى جراحات أمراض النساء، مثل: استئصال الرحم، واستئصال الورم العضلي، فضلاً عن جراحات القلب المفتوح، وجراحات استئصال القولون، وسرطان المستقيم، كما تُستخدم في جراحات المخ والأعصاب، مثل إزالة أورام المخ.
ثورة الجراحة عن بعد المرتقبة.. الفوائد والأخطار
تتحدث الدوائر الطبية والعلمية عن الفوائد الكثيرة التي سيجنيها كل من الطبيب والمريض في حال تبني تقنيات الجراحة عن بعد على نطاقٍ واسع.
ستتمكن المواقع التي لا تتوافر فيها منشآت طبية مجهزة (مثل: المناطق الريفية البعيدة، وساحات المعارك الحربية، والمركبات الفضائية) من تلقي خدمة جراحية عالية الجودة، إضافة إلى أن المرضى من مناطق مختلفة من العالم سيكون بمقدورهم الخضوع لعمليات جراحية يجريها أمهر الأطباء، من دون الحاجة إلى تحمل عبء السفر لمسافاتٍ طويلة.
أضف إلى ذلك أن الاعتماد على التكنولوجيا الروبوتية من شأنه أن يزيد من كفاءة العمليات الجراحية، حيث سيتمكن الجراحون من إجراء العمليات بسرعةٍ أكبر ودقة أكثر، كما قد تساعد الجراحة عن بعد في تقليل مخاطر العدوى البكتيرية ومسببات الأمراض الأخرى في المستشفى.
ستسمح هذه التكنولوجيا كذلك بالتعاون وتبادل الآراء العملية بين الجراحين في مراكز طبية مختلفة على بعد آلاف الأميال، وسيوفر نظام العرض ثلاثي الأبعاد إمكانية مشاركة تفاصيل طبية وتلقي ردود فعل مشتركة مرئية واضحة من أطباء متعددين، كما توفر التكنولوجيا إمكانية تلافي بعض الأخطاء البشرية. فاستخدام الأذرع التكنولوجية للروبوت قد يلافي مشكلة الرعشة الفيزيولوجية، التي قد تصيب الجراح.
لكن على الجانب الآخر، فإن تقنيات الجراحة عن بعد تحمل بعض المخاطر والاعتبارات الفنية التي قد تعيق انتشارها، مثل احتمالات الأعطال الفنية. تعتمد الجراحة عن بعد على الأنظمة الروبوتية المتقدمة، وتقنيات الاتصالات السلكية واللاسلكية، والتي يمكن أن تتعرض لأعطالٍ فنية.
وقد يتسبب فقدان الاتصال بالشبكة، أو انقطاع التيار الكهربائي، أو تعطل المعدات مثلاً في حدوث تأخيرات أو حتى منع إكمال العمليات بنجاح، كما قد يؤدي أي قطع في الاتصال إلى حدوث ارتباك أو أخطاء أو مضاعفات أثناء العملية.
هذا بالإضافة إلى المخاطر المتعلقة بأمن البيانات وسريتها؛ فنقل البيانات والصور الطبية الحساسة عبر الإنترنت يمكن أن يجعلها عرضة للهجمات الإلكترونية، ما قد يعرّض خصوصية المريض -وأحياناً حياته- للخطر.
وأخيراً، فإن الجراحة عن بعد تعتمد على كاميرات وأجهزة استشعار لتزويد الجراح برؤية موقع الجراحة، مما قد يحدّ من قدرة الجراح على الفحص البدني للمريض، واكتشاف المضاعفات المحتملة.