إجابة على السؤال الفلسفي الكبير: ما الفن؟

من بين الأسئلة الفلسفية التي لم تتم الإجابة عليها ولم تُحسَم قط سؤال: ما هو الفن؟ وهو سؤال تلقى العديد من الإجابات المختلفة التي تتباين بناء على عدة أسئلة مترابطة: هل الفن موضوعي أم ذاتي؟ هل هو جيد أو عديم القيمة؟ ما هي وظيفته؟ في هذه المقالة، سنحلّل ثلاثة تعاريف تقليدية وبديهية للفن كانت مؤثرة عبر التاريخ: الفن كجمال، الفن كشكل، والفن كمحاكاة.

1. الفن كجمال

أحد أقدم تعاريف الفن في علم الجمال هو تعريف الفن كجمال. فإذا نظرت في أي معجم أو موسوعة عن القرنين الماضيين وبحثت عن تعريف “علم الجمال”، ستجد التعريف الكلاسيكي القائل بأن “علم الجمال هو دراسة الجمال والفن”. والجمال هنا ليس الشيء الذي نعرفه جميعًا فحسب، كما أنه ليس مجرد تعبيرٍ استُخدِم باستمرار منذ العصور القديمة وحتى اليوم، بل هو أيضًا شيء يرغب الجميع به ويجلّه. وتاريخه معقد ومتعدّد الأوجه.

حتى في زمننا الحاضر، يتساءل الكثيرون ويبحثون عن أجوبة للأسئلة التالية: ما هو الجمال؟ ما الذي يجب أن يكون في الشيء لندعوه جميلًا؟ ممّ تتألف تجربة الجمال؟ هل يوجد الجمال في الأشياء (المواضيع) أو في الشخص الذي يلاحظ الجمال ويحكم عليه؟ هل يُحدَّد الجمال ذاتيًا أو موضوعيًا؟ هل على علم الجمال ألا يهتم سوى بالجمال في الفن أو بالجمال في الطبيعة كذلك؟ هل الارتباط بين الجمال والفن لا يزال في محلّه اليوم، أو أنه ليس سوى جزء من تاريخ الفن أو تاريخ الجمال؟

تشير كل هذه الأسئلة إلى تعقيد مسألة الجمال. فهو فئة عُرِّفت بطرق عديدة مختلفة عبر التاريخ. يقول أمبرتو إيكو إن الجمال لم يكن يومًا شيئًا مطلقًا أو ثابتًا، بل يعتمد على الفترة التاريخية والبلد، وقد جسّد سمات مختلفة. لذلك، طبيعة مفهوم الجمال هي شيء سائل ودائم التغير؛ شيء تغير تعريفُه باستمرار عبر السنوات. بالتالي، من الضروري تقديم تاريخ مختصر لمفهوم الجمال.

في اليونان وروما القديمتين، كانت فئة الجمال تُساوى دائمًا باتحاد الجمال مع الفضيلة؛ نظرية الكالوكاغاتيا (التي هي في الإغريقية مزيج من كلمتي جميل وجيد، وتعني مزيجًا من الفضائل الجسدية، الروحية، والأخلاقية). وفقًا لأفلاطون، ليست الأشياء وحدها، أو الأشكال، الألوان، أو الأصوات هي التي يمكن أن تكون جميلة، بل كذلك الأفكار، العادات، الصفات، وحتى القوانين. هكذا، انتقلت فكرة الجميل من حقل علم الجمال إلى حقل علم الأخلاق كذلك.

لكن، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، عارض السفسطائيون هذا التفسير للجمال واقترحوا فهمًا حسيًّا، أضيق بكثير، للجمال. فوفقًا لهم، ما يسرّ الرؤية والسمع يُعتبر جميلًا. وعلى هذا النحو، يُميَّز الجميل عن الجيد ويُفهَم حصرًا على نحو جمالي. في كتابه “الخلاصة اللاهوتية”، يقول توما الأكويني إن ما يكون مُسرًِّا عند رؤيته يكون جميلًا.

تم توحيد الجمال والفن بشكله الأوضح والأكثر قوة في عصر النهضة. وهذا مُثبت في كتاب “رسالة في الرسم” لليوناردو دافنشي الذي يفرّق بين الحِرَف والفنون، ويقرّب الفن من العلوم. استمر هذا التوحيد لوقت طويل في علم الجمال؛ منذ بداية إنشاء مفهوم “الفنون الجميلة” مقابل الحِرَف وحتى بداية القرن العشرين.

كلّ ما قيل عن الجمال إلى هنا هو في جزء منه توصيف للفن أيضًا، لأنه لزمن طويل كان الفن يُعرَّف على أنه “فن جميل” فحسب. لكنّ عبارة “فنون جميلة” boas artes استُخدمت لأول مرة في القرن السادس عشر من قبل البرتغالي فرانسيسكو دي هولاندا. مع هذا، لم تحظ بقبول واسع إلا في منتصف القرن الثامن عشر عندما نشر الفيلسوف الفرنسي الراهب تشارلز باتو عمله “اختزال الفنون الجميلة إلى مبدأ واحد” (Les Beaux Arts Reduits a un meme principe). ومنذ نشر هذا العمل، رسّخ اسم “فنون جميلة” نفسه وأصبح مقبولًا عمومًا، بانيًا بهذا فكرة الفن الحديثة. توجد الفنون الجميلة، كما يقول باتو، لأن “غايتها أن تمنحنا المسرّة”.

الارتباط بين الجمال والفن واضح، وحقيقة أن ثمة ارتباطًا معينًا بين الاثنين لا جدال فيها. ومن خلال هذا العرض، لاحظنا تعريف الفن كجمال. فالجمال هنا هو الخاصية المُعرِّفة والمُحدِّدة التي تجعل الفن ما هو عليه، وهذا أول تعريف لدينا عن الفن.

2. الفن كشكل

التعريف الآخر للفن، والذي قد يكون بقِدم التعريف الأول الذي ذكرناه سابقًا، هو الفن كشكل.

عبر تاريخ علم الجمال، اعتقد مجموعة من المفكرين أن السمات الشكلية لشيء ما هي ما يحدّد في المقام الأول فيما إذا كنا قادرين على تعريف ذلك الشيء بوصفه “جميلًا”. يدافع عن هذه الفكرة عادة الفلاسفة وعلماء الجمال الذين يعتبرون أن الجمال هو سمة للشيء، أي أنه ذو أساس موضوعي. وعند الإشارة إلى مثل تلك المقاربات، ينوّه عالم الجمال الألماني ماكس ديسوار إلى أن علماء الجمال الشكلانيين والموضوعانيين يختزلون الجمال إلى علاقات مجردة معينة ويعتبرون أن الشكل قيمة جمالية أساسية.

منذ زمن الفيثاغوريين، كان الفلاسفة يحاولون أن يبرهنوا أن الجمال فئة موضوعية، وأن جمال العالم (وجمال الكون) بالتالي هو شيء يعتمد في المقام الأول على علاقات عددية. يؤكد الفيثاغوريون باستمرار على التناغم بوصفه يتمتع بالقيمة الأعلى، وعندما يتحدثون عن التناغم، فإنهم في الواقع يعنون تفضيل التناغم على النظام، النظام على التناسب، التناسب على القياس، والقياس على العدد. وهذا هو السبب في أن فئات التناسب، التناظر، التناغم، والإيقاع ذات صلة بنظريات الفن هذه.

كذلك، يشير عالم الجمال البولندي تاتاركيفيتش إلى أنه، بتأثير الفيثاغوريين ووفقًا لنظريتهم، بدأ الإغريق بالإشارة إلى الجمال بكلمة “symmetria” (التناظر) أو بكلمة التناسب.

3. الفن كمحاكاة

تعود جذور نظرية الفن كتقليد (أو محاكاة أو في الإغريقية mimesis) إلى أزمنة ما قبل هوميروس. اعتُبر الفن محاكاة (تعبيرًا عن) المشاعر الداخلية خلال الممارسات الدينية، لا سيما أثناء الرقص، المحاكاة المسرحية، والغناء ضمن إطار العبادات والمهرجانات الأورفيوسيّة والديونيسية. لذلك، يمكننا القول إن نظرية المحاكاة بدأت كنوع من نظرية تعبير.

في القرن الخامس قبل الميلاد، انتقل تعبير “محاكاة” من لغة العبادة والدين إلى عالم الفلسفة والعلم مع فلسفة ديمقريطس. يقول ديمقريطس إننا نغني من خلال محاكاة غناء الطيور؛ ننسج من خلال محاكاة شبكة العنكبوت؛ نبني المنازل من خلال محاكاة بناء أعشاش الطيور، إلى آخره.

مع هذا، تشكيل هذه النظرية بشكل كامل في العصور القديمة حدث مع أفلاطون وأرسطو. تستمد فلسفة أفلاطون للفن على نحو أساسي من الميتافيزيقيا الخاصة به. وضع أفلاطون عالم الفن في المنزلة الأخيرة، تمامًا تحت عالم الأفكار والعالم المادي. بالنسبة إليه، عالم الأفكار هو العالم الوحيد الموجود بحق. إنه مثالي، أبدي، ومتفرد. أما العالم المادي، كما يقول أفلاطون، فهو نسخة أو ظل لعالم الأفكار. في النتيجة، عالم الفن هو نسخة عن العالم المادي أو ببساطة، نسخة عن نسخة. وبما أن الطبيعة هي نسخة عن الأفكار، فإن رسم المناظر الطبيعية سيكون نسخة عن نسخة. لذلك، لا يعطي أفلاطون في نظامه قيمة عالية لعالم الفن. فالمحاكاة، حسب قوله، ليست إلا تكرارًا سلبيًا للواقع، وهي نسخٌ أمين، وليست طريقة ملائمة للوصول إلى الحقيقة.

في حين اعتبر أفلاطون المحاكاة شيئًا سلبيًا تمامًا، اتخذ أرسطو وجهة نظر معاكسة. فوفقًا لأرسطو، الفن ليس مجرد نسخ صرف للواقع، بل هو دائمًا مقدمة لشيء جديد: إنه كذلك تأويل للعالم. بالنسبة إلى أرسطو، المحاكاة شيء إيجابي وتمثّل فعلًا حرًّا للفنان إزاء الواقع. كذلك، يوسّع أرسطو معنى المحاكاة من مجال الفنون البصرية إلى مجالات الموسيقى، الرقص، والأدب.

خضعت نظرية المحاكاة لتغيرات مهمة في العصور الوسطى، مع فلسفة القديس أوغسطين والقديس توما الأكويني. فَهِم القديسان المحاكاة على أنها محاكاة الإلهي في الطبيعة أو الله نفسه ضمن خطاب ديني وملغز، أي على أنها “Mimesis Theou” (محاكاة الله) أو “Imitatio Dei” (محاكاة المعبود). لذلك، يدعم القديس توما الأكويني، الأرسطي القروسطي العظيم، بلا أي تحفظ الفرضيةَ القائلة بأن “الفن يحاكي الطبيعة”(ars imitator naturum).

في عصر النهضة، أصبحت المحاكاة من جديد مفهومًا أساسيًا للفن ونظرية الفن. وما يؤكد هذا حقيقةُ أنه منذ القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر، أصبح تعبير imitatio  (محاكاة) التعبير الأكثر شيوعًا فيما يتعلق بالفنون البصرية وبالفن عمومًا. وقد شهدت نظرية المحاكاة ذروتها مع نشر كتاب تشارلز باتو “اختزال الفنون الجميلة إلى مبدأ واحد” عام 1747. ففي ذلك الكتاب، عُرِّفت المحاكاة على أنها المبدأ الأساسي في توحيد “الفنون الجميلة”.

هل ثمة طريقة مثلى لتعريف الفن وفقًا لعلم الجمال؟

من خلال هذا النص المختصر، يمكن لنا أن نرى بوضوح أن الفن، في حقل علم الجمال، لم يكن له يومًا تعريف ثابت، واضح، أو لا لبس فيه؛ إن له طبيعة سائلة، كما يتبين من التطور الذي مرّ به عبر السنوات.

ابتكر كل مفكر موقفه الخاص فيما يخص سؤال “ما هو الفن”، وخرج كلّ منهم بنظرية أصيلة، جاعلًا النقاش كلّه أكثر غنى وتعقيدًا. بالطبع، ثمة مقاربات أخرى معاصرة ونظريات أخرى حول موضوع تعريف الفن. فسؤال “ما هو الفن” لم يجد له إجابة حتى هذا اليوم، ومن المرجّح أن الكثير من النظريات الجديدة سوف تظهر في المستقبل أيضًا.  

(*) أنطونيو بانوفسكي: حاصل على إجازة في الفلسفة من جامعة SS. سيريل وميثوديوس في شمال مقدونيا. تشمل مجالات اهتمامه الرئيسية الفلسفة المعاصرة والفلسفة التحليلية، مع تركيز خاص على الجانب الإِبِستيمولوجِي منهما، بالرغم من أنه حاليًا يركّز بشكل معمق على فلسفة العلم.

ترجمة: سارة حبيب

Exit mobile version