على مدى ما يقارب سبعة عقود، منذ إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني في مايو ١٩٤٨م، يبدو هذا الكيان المسمى بإسرائيل عاجزاً كل العجز عن تحقيق أي اختراق في وجدان الشعوب العربية، وظلّ مجرد دولة كيان احتلالي مغضوب عليها، ما جعلها تبدو منبوذة وحبيسه رغم موقعها في قلب العالم العربي.
لقد فشلت إسرائيل وكل من يقف وراءها فشلاً ذريعاً في إحداث أي اختراق لجدار العزلة والكراهية المضروب حولها من قبل الشعوب العربية، رغم تمكنها في بعض المحطات من اختراق أنظمة عربية حاكمة مبكراً، كنظام الرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي ذهب بنفسه لإلقاء خطاب سلام في الكنيست الإسرائيلي في نوفمبر ١٩٧٧م، ورغم ذلك ظل الشعب المصري- ولا يزال حتى اللحظة- رافضاً لفكرة التطبيع رفضاً قاطعاً، رغم تطبيع النظام المصري الحاكم حتى اليوم.
ورغم بعض حالات التطبيع الأخرى، والسلام المزعوم الذي دشنوه بمؤتمر مدريد للسلام، الذي انعقد حينها بين ٣٠ أكتوبر و١ نوفمبر، والذي أبرمته دولة الكيان الصهيوني برعاية غربية- أمريكية تحديدا- مع عدد من الأنظمة العربية، وفي مقدمتها منظمة التحرير الفلسطينية، التي اعترفت هي الأخرى بدولة الكيان، وقبلت العودة كسلطة حكم فلسطيني منقوص الكرامة والسيادة.
ومع ذلك، لم تتمكن دولة الكيان وعرابوها من تسويق كيانهم على أنه جزء طبيعي من مكونات المنطقة ثقافياً وسياسياً، بل ظلت الشعوب العربية قاطبة ترى في إسرائيل دولة احتلال، وكياناً غريباً وشاذاً لا يمكن أن يكون ضمن نسيج هذه المنطقة وتشكلاتها الثقافية، أي هو مجرد كيان احتلالي لقيط، لا يمكن القبول به وتصوره كياناً دولتياً قانونياً وطبيعياً، ما أطال أمد عزلة دولة الكيان الصهيوني، وأفشل كل المحاولات والعمليات القيصرية لإعادة دمجه ضمن شعوب المنطقة.
وعلى مدى أكثر من نصف قرن، ظلت إسرائيل ومعها كل القوى الغربية، وبكل الوسائل والسبل، تسعى لدمج هذا الكيان الاستعماري الوظيفي، ولكنهم باؤوا بالفشل الذريع، وفي كل مرحلة من مراحل الضغط تلك. وكانت تنفجر في وجوههم قضايا مختلفة، كتأسيس حركات المقاومة الإسلامية، وقبلها الحركات الثورية اليسارية، التي كان نشوءها يعبر عن فشل مشروع شرعنة الكيان الصهيوني.. فتأسست حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في منتصف الثمانينيات، كعقبة كبيرة أمام محاولات إسرائيل إنهاء للقضية الفلسطينية.
وقبل ذلك أيضاً كانت الحركات الثورية الفلسطينية- بكل توجهاتها اليسارية والقومية- واحدة من العوامل المعيقة لخطط الدمج الاستعماري لدولة الكيان الصهيوني ضمن دول المنطقة، التي تمثلها جامعة الدول العربية، أو منظمة المؤتمر الإسلامي، أو أي منظمة أو منظومة أمنية أو سياسية أو اقتصادية، تضم دول المنطقة ومحيطها الإقليمي والدولي، ما أبقى إسرائيل دولة محاصرة ومعزولة عن محيطها، وهدفا مشروعا لكل المناوئين لها، وهم كثر كأفراد وجماعات.
ومع تفجر ثورات الربيع العربي مع بداية العقد الأول من القرن الراهن، وهبوب رياح التغيير الديمقراطي، خرج الملايين من الشباب العربي المتعطش للحرية والكرامة في عموم المدن والعواصم العربية، من تونس وصولاً إلى صنعاء، مروراً بطرابلس والقاهرة ودمشق وغيرها؛ حيث كان هؤلاء الشباب يرون أن بقاء الأنظمة الحاكمة دون أي تغيير ديمقراطي، يشكل أهم عوامل بقاء إسرائيل، ومصدر حماية لها، باعتبار بقاء هذه الأنظمة الفاشلة على كل المستويات كان ثمنه حمايتها لإسرائيل، وعدم الدخول معها في حروب وصراعات مهما كانت المبررات.
تعرقلت ثورات الربيع العربي سريعاً، وتعرض بعض أنظمتها المنتخبة ديمقراطياً- ولأول مرة- للانقلابات عسكرية مباشرة، ودخلت المنطقة في سلسلة حروب أهلية طاحنة، وصراعات دامية كان أكثرها قذارة الحروب الطائفية، وخاصة في كل من سوريا واليمن تالياً، وقبلهما العراق الذي أسقطته مبكراً الآلة العسكرية الغربية، وسلمته على طبق من ذهب للجماعات الشيعية الموالية لإيران، والتي للمفارقة جاءت- أي النخب الشيعية- على ظهر الدبابات الأمريكية عقب سقوط بغداد عام ٢٠٠٤م، وشكل بها الحاكم العسكري الأمريكي بول بريمر مجلساً لحكم العراق.
أما عقب فشل ثورات الربيع العربي وإجهاضها، فقد شكلت الحالة السورية مختبراً واضحاً لمدى التوافق الغربي الإيراني على ضرب ثورات الربيع العربي، وخاصة الثورة السورية؛ فقد كان النظام السوري على وشك السقوط بيد الثوار، ولم يكن قد بقي لديه من سوريا سوى بعض أحياء دمشق، ولكن الغرب سارع لإطلاق أيدي المليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً في دماء الشعب السوري، الذي تعرض لأبشع المجازر (في تاريخ المنطقة على الأقل)؛ حيث ساهمت كل المليشيات التابعة لإيران- وفي مقدمتها حزب الله اللبناني- في قمع الثورة والاحتجاجات السورية بكل قسوة ووحشية وهمجية، تفوق التصور والخيال.
تورطت مليشيات حزب الله تحديداً، وبقية المليشيات الشيعية الأخرى، في دماء الشعب السوري قتلاً وتشريداً وتجويعاً، بصورة لم يسبق لها مثيل؛ حيث قُتل ما يقارب مليون سوري، وشُرّد الملايين، وزُجّ مئات الآلاف في السجون والمعتقلات، ومن نجى منهم خرج مشوهاً ومدمراً نفسياً، فاقداً القدرة على استئناف حياته من جديد، بفعل حجم الإجرام والتعذيب الذي تعرض له في زنازين هذه المليشيات الطائفية، التي ارتكبت أقذر الجرائم غير المتوقعة في حق الشعب السوري، وفعلت مثل ذلك تماماً مليشيات الحشد الشعبي في العراق مع انتفاضته الأولى التي نزل فيها للساحات، وبعدها انتفاضة تشرين الأخيرة.
أما اليمن، فقد حل به وبأهله ما لا يقل إجراماً وفظاعة وتنكيلاً عما حل بالسوريين؛ حيث تمكنت مليشيات جماعة الحوثي المدعومة إيرانياً من الانقلاب على السلطة الشرعية اليمنية، والدفع باليمن إلى حرب أهلية طاحنة، سقط جراءها مئات الآلاف، وشُرد الملايين أيضا، وكل ذلك بفعل المخطط الإيراني الغربي لإيقاف عجلة الانتقال الديمقراطي العربي، وإبقاء الشعوب العربية التي ثارت من أجل تغيير المعادلات السياسية المختلة خارج التأثير الذي تسعى إليه، لصالح نخب سياسية حاكمة انتهازية وعميلة.
أُجهضت ثورات الربيع العربي، و”العبري” بحسب بعض توصيفات عرابي الثورة المضادة المدعومة غربياً واسرائيلياً، وكانت إيران ومليشياتها- وخاصة حزب الله- هم الرابح الأكبر من تداعيات هذه الثورات؛ حيث وقفت إيران بكل ثقلها ومليشياتها في طريق هذه الثورات، بل التقت إيران وأمريكا والغرب كله، ضد هذه الثورات، واتحدوا في مناطق عديدة، وخاصة في سوريا واليمن، وعاثوا خراباً ودماراً وقتلاً، حيث تم إطلاق يد المليشيات الشيعية التي تحولت إلى قطعان متوحشة عاثت في سوريا إجرامأً وتدميراً باستخدام كل أنواع الأسلحة، بما فيها المحرمة دولياً كالأسلحة الكيماوية وغيرها.
إن ما تعرض له السوريون واليمنيون والعراقيون على يد هذه المليشيات ترك ندوباً غائرةً في نفوس هذه الشعوب، التي أُجهضت ثوراتها وقُتل أبناؤها وشُرّدوا في أصقاع الأرض، وقد استخدمت هذه المليشيات الطائفية خطاباً طائفياً قذراً مع هذه الشعوب، وحولت المعركة من ثورة وطنية تطالب بالتغيير السلمي المدني إلى معارك طائفية واقتتال طائفي، استحلت به الدماء وانتهكت به الكرامات.
كل ذلك، ساهم في خلق شرخ كبير وجراح غائرة في نفوس هذه الشعوب تجاه إيران ومليشياتها، التي بذلت هي الأخرى جهوداً كبيرة في البحث عن قضايا تغسل من خلالها جرائمها الطائفية في حق هذه الشعوب العربية المقموعة في سوريا واليمن والعراق ولبنان، فلم تجد هذه المليشيات- ومن ورائها إيران- غير القضية الفلسطينية لتحتمي بها، وتغسل بها جرائمها، فحاولت احتكار فكرة المقاومة ضد المشروع الصهيوني، وتمكنت من التحالف مع بعض فصائل المقاومة الفلسطينية، كحماس والجهاد الإسلامي، وما ذلك لشيء سوى غسل جرائمها، واستخدام القضية الفلسطينية كغطاء لمشروعها الطائفي التدميري والتوسعي.
ما يجري في المنطقة منذ فجر الـ٧ من أكتوبر ٢٠٢٣م، بفعل ما قامت به حركة المقاومة الإسلامية حماس، لا شك أنه حدث مفصلي في تاريخ المنطقة، نسف كل ما بنته إسرائيل على مدى عقود من نظرية الردع والجيش الذي لا يقهر، وهو ما دفعها لارتكاب كل ما ارتكبته من جرائم إبادة جماعية في حق سكان غزة، وبعد فشلها في تحقيق كامل أهدافها، وجدت إسرائيل نفسها واقعه في فخ كبير لأول مرة في تاريخها.
هذا ما جعل إيران ومليشياتها تتخيل أنها على وشك أن تحصد نصراً كبيراً من غير ثمن رغم تحالفها مع حماس، وهو ما دفع بإسرائيل بعد بروز ملامح فشلها الكبير في تحقيق أهداف حرب غزة أن تعيد تقييم استراتيجيتها السابقة، لتستبدل بها أخرى، تهدف من خلالها إلى تحقيق نصر حاسم وسريع، يحفظ تماسك الجبهة الإسرائيلية الداخلية، ويحقق نصراً كبيراً يسهم في استعادة الجيش المنهزم في غزة معنوياته المنهارة.
ولهذا كان خيار ضرب حزب الله هو الخيار الأنسب للتغطية على فشلها في غزة، خاصة وأن إسرائيل تمكنت من اختراق الحزب وأجهزته بشكل كبير ولافت، ظهر في حركة الاغتيالات الكبيرة التي نفذتها إسرائيل لقيادات حزب الله وحماس في بيروت وطهران، كالعاروري وهنية وغيرهما، عدا عن تمكنها من الوصول إلى أكبر قادة الحزب في اجتماع الحزب الأخير، بعد اختراقها لشبكة اتصالات الحزب وتفجيرات البيجر.
إن ما تقوم به إسرائيل اليوم في لبنان خطير، وقد لا يتوقف هناك، لكنه أيضاً تعبير مكثف عن مدى عجز وفشل إسرائيل على مدى عقود في ضرب الإرادة الجمعية العربية، وأنه لولا السياسات الإيرانية في المنطقة العربية، كسياسة تصدير الثورة، أي تصدير الطائفية السياسية التي ساهمت في تمزيق المجتمعات العربية وتفكيكها وضرب بعضها ببعض، لَما دُمرت روح الإخاء والتضامن والنجدة العربية، ولَما ساهمت الطائفية السياسية في ضرب النسيج الاجتماعي العربي بمقتل.. وهذا ما مكن إسرائيل اليوم من حصد مكاسب كبيرة ومُرة معاً، عجزت على مدى عقود عن تحقيق أي شيء منها.