في السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، استيقظ الغزّيون والعالم أجمع، على وقع “أكبر صدمة” منذ النكبة الفلسطينية عام 1948. لقد دخلت كتائب المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها “القسام”، إلى مستوطنات “غلاف” غزة، ما تسبب بمقتل وأسر ضباط وجنود من جيش الاحتلال، معظمهم من فرقة غزة، وتهجّير عشرات الآلاف من المستوطنين، تماما كما فُعل بالفلسطينيين إبان النكبة.
لم يكن إعلان القائد العام لـ”كتائب القسام” الجناح المسلح لحركة “حماس” محمد الضيف، أن ما حدث كان بداية لمعركة سُميت “طوفان الأقصى”، مجرد خيال لأحد الفلسطينيين، بل لم يتصور أهالي قطاع غزة يوما، أن يعود أحد أبنائهم تاركا وراء ظهره الجدران الإسمنتية والأسلاك الشائكة، بعدما أخذ بثأر إخوانه الشهداء، أو أن يتصل “سراج” بوالدته ويقول لها: “ادعيلي يمّا أنا عند اليهود جوا، أنا اشتبكت معهم.. سامحيني يمّا”.
كانت غزة، على مدار أعوام ماضية، رأس الحربة في مواجهة المشروع الصهيوني لتهويد مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، ولطالما حملت على عاتقها هذا الحمل الثقيل، الذي تجلى في معارك وحروب قاسية خاضتها المقاومة في القطاع مع جيش الاحتلال، ليس آخرها -ربما-، معركة “طوفان الأقصى”.
في بيانه المنشور عبر مقطع صوتي، قال الضيف: “نعلن بدء عملية طوفان الأقصى ردا على جرائم الاحتلال، ونعلن أن الضربة الأولى التي استهدفت مواقع العدو ومطاراته وتحصيناته العسكرية، تجاوزت 5 آلاف صاروخ وقذيفة”.
وفي المقابل، أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال حالة التأهب “استعدادا للحرب”، التي ظهر فيما بعد أنها حرب إبادة جماعية، وليس أقل من ذلك.
غيرت معركة “طوفان الأقصى” كل مفاهيم العقيدة العسكرية “الإسرائيلية”، التي كانت تقوم على ركنين أساسيين: الردع والحسم، بحسب الخبير العسكري والاستراتيجي الأردني محمد المقابلة الذي قال إن هنالك محددات لهذين الركنين، أهمها عدم خوض حروب طويلة، وأن تكون خاطفة وخارج عمق (إسرائيل)، وألا يكون هنالك خسائر بشرية.
وأوضح الخبير العسكري المقابلة لـ”قدس برس”، أن “المقاومة في غزة استطاعت تدمير ركني النظرية الأمنية (الردع والحسم) في السابع من تشرين الأول/أكتوبر”.
مؤشر خطير.. “إسرائيل” تخوض حروبا طويلة
وأشار إلى أن الاحتلال “لم يتمكن من خلال شنه حروبا عدة على قطاع غزة، أن يردع المقاومة، أو يخيف الغزيين، ما دفعه إلى التخلي عن المحددات التي كان يضعها”.
وبعد تخلي “إسرائيل” عن تلك المحددات، أصبحت تخوض حروبا طويلة، وتتقبل الخسائر البشرية، وهذا “تطور خطير”، كما أكد المقابلة.
ولطالما كانت حكومة الاحتلال تقايض في سبيل إعادة جثث القتلى من الجيش، لكنها سرعان ما تخلت عن الأمر مع بدء “طوفان الأقصى”، وأصبحت تحتمل الخسائر، ولا تُبدي مرونة في التفاوض “من باب تجريد الطرف الآخر (المقاومة) من أوراق الضغط”، كما يرى المقابلة.
ووفقا للمقابلة، فإن “المحدد الثالث الذي لم نجربه، ولا تستطيع (إسرائيل) الاستغناء عنه، هو ألا تكون الحرب في عمقها، لأن الجيش يعلم أن المجتمع لا يستطيع تحمل القصف، وأن يبقى في الملاجئ، ويصبر مدة طويلة في مواجهة الصواريخ”.
وأوضح الخبير العسكري المقابلة، أن ذلك لا يحدث، لأن “المجتمع الإسرائيلي مجتمع مرتزق غير مرتبط بالأرض، ولهذا كان جيش الاحتلال يمنع وصول الصواريخ والحرب إلى العمق”.
صمود المقاومة وإعماء “إسرائيل” استخباريا
وشدد على أن “المقاومة في غزة أثبتت منذ بداية الحرب القدرة على إعماء العدو استخبارتيا، وهو إنجاز استراتيجي تعجز عنه الدول، حيث استغنت عن التقنية الحديثة، وخلقت حاضنة شعبية أقرب إلى النقاء”.
وقال المقابلة، إن “المقاومة في غزة أثبتت قدرتها على الصمود لمدة لم تكن متوقعة، ما يدل على تخطيط استراتيجي عميق، والاستعداد لوجستيا وعملياتيا لفترة لم تعهدها الخطط العسكرية التي تُبنى في أقصى حد لمدة ستة أشهر، ثم تحتاج إلى عمليات تزويد”.
وأضاف أن “المقاومة في غزة استمرت لمدة عام دون أي تزويد، واستطاعت الحفاظ على سلسلة القيادة والسيطرة والتواصل التي هي العمود الفقري في إدارة القتال والعمليات”.
وتابع المقابلة، أنه ثبت بأن “الأصل الذي يصنع النصر العسكري في غزة هو الحاضنة الشعبية، لأنها هي التي أنتجت قيادات المقاومة، وهذا سبب الصمود والاستمرار”.
واستمر الخبير العسكري قائلا: “لم نلحظ أي ضغط شعبي على المقاومة لوقف العمليات، أو عمليات هجرة لتُترك المقاومة وحدها في الساحة”.
اقتصاد بالنيران.. ولامركزية في القرار
تبنت المقاومة في قطاع غزة، استراتيجية “الاقتصاد بالجهد والنيران، وتنسيق الرمي رغم الهجوم المستمر على القطاع، التي عادة ما تحتاج إلى ضابط مركزي ينسق توزيع إطلاق النيران، إلا أن غزة خرقت القاعدة، وكانت مستقلة ولا مركزية، ما يدل على قدرة عالية على القيادة وصنع القرار واتخاذه”، بحسب الخبير العسكري والاستراتيجي المقابلة.
وحتى في حال اغتيال القيادة المركزية في قطاع غزة، تظل القيادات في كل محافظة قادرة على اتخاذ القرارات، في الوقت الذي لم تستخدم المقاومة كثافة نيرانية إلا بما يتناسب مع الهدف المراد تحقيقه.
وفاجأت المقاومة في غزة العدو بأسلحة لا يعرف عنها شيئا، ما ساهم في تعزيز الحرب النفسية ضد الجنود “الإسرائيليين” وأربك القيادة المركزية “الإسرائيلية”.
هذه المفاجآت جعلت “إسرائيل” تتكبد خسائر كبيرة، ولم تمكنها من التمركز على نحو دائم في القطاع، حيث كانت تتعرض لعمليات مستمرة تمنعها من الاستقرار، وفقا للمقابلة.
الأنفاق تجرد العدو من تفوقه الجوي
وعلى صعيد الأنفاق، وهي اللغز الأكثر غموضا في غزة، يقول المقابلة، إن “المقاومة استخدمت استراتيجية الأنفاق لتجريد العدو من تفوقه الجوي، حيث بُنيت الأنفاق على أعماق غير متوقعة، ولم تتمكن القنابل (الإسرائيلية) من اختراقها”.
كانت هذه الأنفاق، مجهزة بكل متطلبات الحياة لضمان استمرار العمل لفترات طويلة، رغم تدمير مصادر الطاقة في القطاع، ما يدل على أن إنشاء الأنفاق كان سريا للغاية، وفي ذلك معجزة بالتخطيط العسكري للمقاومة.
ويرى المقابلة، أن المقاومة في غزة، رغم قدرتها على استهداف العمق “الإسرائيلي”، “بدأت اتباع استراتيجية الهدوء لتخفيف الضغط على الحاضنة الشعبية، وإيهام العدو بأن جبهة غزة هدأت”.
سيناريوهات مستقبلية
وفي السياق ذاته، يرى الخبير العسكري المقابلة، أن “إسرائيل تتجه إلى إعادة صياغة جنوب لبنان جغرافيا وديمغرافيا، لإضعاف بيئة المقاومة هناك، حيث تسعى إلى تهجير سكان الجنوب اللبناني وتدمير البنية التحتية في الضاحية الجنوبية لبيروت، من أجل إعادة بنائها بشكل يمنع وجود بيئة داعمة للمقاومة. كما تخطط لقطع الإمدادات الإيرانية إلى حزب الله وسوريا، بهدف إنهاء الوجود الإيراني في المنطقة، وإنشاء دولة درزية في الجولان”.
وفي المرحلة التي تلي ذلك، وفقا لرؤية الخبير العسكري المقابلة، “تسعى إسرائيل إلى فرض سيطرتها الكاملة على القدس وغور الأردن، في محاولة لدفع السكان الفلسطينيين نحو التهجير”.
وتدخل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، عامها الثاني على التوالي، يوم غد، حيث يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، عدوانه على القطاع بمساندة أمريكية وأوروبية، وتقصف طائراته محيط المستشفيات والبنايات والأبراج ومنازل المدنيين الفلسطينيين وتدمرها فوق رؤوس ساكنيها، ويمنع دخول الماء والغذاء والدواء والوقود.
وأدى العدوان المستمر للاحتلال على غزة إلى استشهاد أكثر من 41 ألفا و825 شهيدا، وإصابة أكثر من 96 ألفا و910 آخرين، ونزوح 90% من سكان القطاع، بحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة.
قدس برس