تصاعدت معدّلات حالات الاعتقال السياسي في الضفة الغربية من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وذلك على خلفية نشاطات مؤيدة ومناصرة للمقاومة في قطاع غزة ومستنكرة في هذا السياق سلوك السلطة الفلسطينية في تعاملها مع العدوان الإسرائيلي على غزة وعدم اتخاذها مواقف صارمة حيال ذلك، لكن اللافت في حالات الاعتقال الأخيرة، والتي وقعت يوم الجمعة الماضي، أنها طاولت خطباء الجمعة، في سياق انتقاد سياسة قيادة السلطة الفلسطينية.
ووثّقت مقاطع مصورة اعتقال الأجهزة الأمنية، يوم السبت الماضي، الشيخ محمد سكّر من بلدة واد فوكين، أثناء مروره من مدينة بيت لحم، جنوبي الضفة الغربية، كما اعتقلت الشيخ سليمان الحنتولي بعد صلاة الجمعة من حيّ الجابريات في مدينة جنين، شمالي الضفة.
ويقول أحمد أبو عبيد، وهو أحد أقارب المعتقل سليمان الحنتولي، خلال حديث مع “العربي الجديد”، إنّ “العائلة حتى اللحظة لا تعرف سبب الاعتقال، ولم يتم عبر مسوّغ قانوني، ولم تقدم أي جهة رسمية أو أمنية أي توضيح عن دواعي اعتقاله الذي جرى من خلال استخدام مركبة مدنية كانت في محيط مسجد الرحمة بمدينة جنين، ما يوحي بأنّ الاعتقال مدبّر قبل موعد خطبة الجمعة”. ويتابع أبو عبيد: “سمحت الأجهزة الأمنية للعائلة بزيارته بعد اعتقاله وتزويده ببعض المقتنيات الشخصية، ثم فوجئنا بنقله من مقرّ جهاز المخابرات العامة في جنين إلى سجن أريحا المركزي، وسط تكتم عن أسباب وظروف الاعتقال، رغم أنه خطيب معتمد بشكل رسمي من قبل وزارة الأوقاف الفلسطينية”.
أما في محافظة بيت لحم، فقد جرى اعتقال الشيخ محمد سكّر، يوم السبت الماضي، من وسط المدينة بعدما نصبت الأجهزة الأمنية حاجزاً لاعتقاله على خلفية خطبة الجمعة التي ألقاها بمسجد مصعب في بلدة حوسان، غربي بيت لحم، والتي انتقد فيها سياسة التنسيق الأمني للأجهزة الأمنية وتصريحات الرئيس محمود عباس التي جاءت خلال كلمته في البرلمان التركي، وفق ما يقول رياض مناصرة، أحد أقارب المعتقل محمد سكّر.
ويلفت مناصرة، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أنّ الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعقّبت حركة الشيخ محمد سكّر خلال انتقاله من واد فوكين إلى مدينة بيت لحم، حيث إنها مناطق لا تصلها الأجهزة الأمنية باعتبارها مصنفة “ج” وغير خاضعة للسيطرة الأمنية الفلسطينية، وفور دخوله مدينة بيت لحم، تم اعتقاله بشكل وحشي، لمجرد قوله كلمات حقٍ في خطبة الجمعة، بحسب وصفه.
وجاء في خطبة الجمعة التي ألقاها سكّر: “قيادة السلطة شرعت بتحركاتها واتصالاتها، للتحضير لتوجه رئيس السلطة وأعضاء القيادة إلى قطاع غزة، وهي تبدي استعدادها الكامل لتسلّم القطاع، بعد القضاء على البنية التحتية للمجاهدين والحركة المسلحة، لتعيد تكرار تجربتها في الضفة الغربية بكفاءة وقدرة أعلى بعد الخبرة التي اكتسبتها بالتنسيق الأمني وخدمة الاحتلال وملاحقة المجاهدين وتسليم المطلوبين (…) ولا يخجلون من أنفسهم عندما يعرضون خدماتهم في تسوية الأمور بعد الحرب، وهم يسمون هذا الدور بأنه دور بطولي، وكأنهم ذاهبون إلى تحرير غزة”.
ويشير مناصرة إلى أنّ كلام الشيخ سكّر “يعبّر عن عامة الناس، ولا يستحق أن يواجه بالاعتقال وانتهاك الحقوق والملاحقة، وهذا موقف يتفق عليه معظم أهالي بلدة واد فوكين التي ينتمي إليها الشيخ سكّر، حيث يعمل أهلها حالياً على التواصل مع الجهات المعنية ومطالبتها بالإفراج عنه لعدم أحقية اعتقاله بشكل يخالف القانون، ولا سيما أنه يخطب في المساجد التي لا تديرها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كونه غير متفرغ لبرنامج الخطباء التابع للوزارة”.
وعلمت العائلة من مصادر في السلطة الفلسطينية أنّ سبب الاعتقال بشكل مباشر هو الخطبة التي ألقاها في صلاة الجمعة، وردّ مناصرة متسائلاً: “في يوم الجمعة قبل الأخير خطب في مسجد البلدة خطيب من الموالين للسلطة، ومدح خلالها الرئيس عباس وزيارته لتركيا وتصريحاته بالتوجه إلى غزة، ولذا لماذا لا يحق لغيره انتقاد الزيارة”. ويوضح مناصرة أن الشيخ سكّر خرج على خطيب الجمعة واحتج على تأييده للرئيس عباس، لكن خطيب الجمعة قدّم شكوى ضده لدى الأجهزة الأمنية، علماً أنّ الشيخ سكّر لم يوجه إساءة للخطيب.
انتهاكات بحق عشرات خطباء الجمعة في الضفة الغربية منذ بدء الحرب
ولم تكن حالة الاعتقال هذه الأولى من نوعها لاعتراض مواطنٍ على خطيب صلاة الجمعة لعدم حديثه عن مجازر الاحتلال في قطاع غزة، أو تأييده السلطة الفلسطينية، حيث اعتقل جهاز المخابرات العامة في رام الله، في مارس/ آذار الماضي، الناشط والأسير المحرر عبد الله أبو شلبك على خلفية اعتراضه على خطيب صلاة جمعة لم يتحدث عن غزة، وفق مدير مجموعة “محامون من أجل العدالة” مهند كراجة، الذي يوضح لـ”العربي الجديد”، أن خطيب الجمعة شخصية عامة ويحقّ وفق حرية الرأي والتعبير انتقاده.
وبحسب كراجة، بدا لافتاً بعد الحرب على غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الفائت أنّ الأجهزة الأمنية مارست انتهاكاتها بحقّ عشرات خطباء الجمعة، تنوعت إما بالاعتقال على خلفية انتقاد السلطة وسياستها حيال العدوان على غزة والإشادة بالمقاومة، أو عن طريق إبعاد خطباء الجمعة عن المساجد التي يخطبون فيها بشكل معتاد إلى مساجد في مناطق بعيدة عن أماكن سكنهم، في سياق تطبيق عقوبات بحقهم، بالإضافة لاستدعاء خطباء إلى مقابلات تحقيق وتهديد.
ويشير كراجة إلى أنّ الاعتقالات السياسية تراجعت في الأسابيع الأولى بعد الحرب على غزة نظراً لعدة أسباب، أبرزها أنّ “الدائرة التي كانت معرضة للانتهاك والاعتقال من قبل الأمن الفلسطيني باتت في سجون الاحتلال الإسرائيلي”، ثم في أعقاب ذلك عادت حدّة الاعتقال للواجهة بعد مجزرة الاحتلال بحق مستشفى المعمداني في غزة في 17 أكتوبر الماضي، والتي في أعقابها خرجت عشرات المسيرات الاحتجاجية، واعتقلت السلطة أكثر من 150 فلسطينياً على أثرها. لاحقاً تنامت حالات الاعتقال لتطاول المشاركين في المسيرات الأسبوعية لنصرة غزة. ويقول كراجة: “أصبحت السلطة تستغل فرصة الحرب لتحاسب معارضيها وتلاحق من ينتقدها، سواء كانوا خطباء وأئمة مساجد، أو حتى نشطاء على خلفية فعاليات حدثت قبل اندلاع الحرب”.
ولم تتوقف انتهاكات السلطة عند هذا الحدّ، حيث سجّلت المؤسسات الحقوقية عشرات حالات الاعتقال بحقّ فلسطينيين على خلفية تنظيم حملات جمع تبرعات نقدية وتحويلها عبر الحسابات البنكية إلى أشخاص أو جهات إغاثية في غزة، وذلك طاول الأشخاص العاديين وليس فقط القائمين على الحملات، ووجهت لهم بالمحصّلة تهم تحت عنوان “حيازة سلاح”.
وكانت اعتقالات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، خلال العامين الماضيين، تتجاوز ألف حالة في كل عام، وتتنوع في التهم الموجّهة أو خلفية الاعتقال، ما بين العمل الطلابي الجامعي، أو المشاركة في فعاليات نقابية احتجاجية، أو النشاط السياسي، أو الانضمام للكتائب المسلّحة، أو قضايا حرية الرأي والتعبير بمختلف أشكالها، لكن اللافت في حالات الاعتقال منذ نحو عشرة أشهر أنها استهدفت ما هو مرتبط بقطاع غزة وتأييد المقاومة، إما بالمسيرات والتظاهرات وفعاليات التضامن ومنشورات “فيسبوك”، أو أخيراً خطب المساجد وحملات المساعدة والتبرع.
كلّ ما ذكر أعلاه، بحسب كراجة، يعتبر مخالفاً لمعاهدات حقوق الإنسان ونص القانون الفلسطيني الذي كفل حق الحرية بالتعبير، حتى لو طاول ذلك انتقاد خطيب الجمعة، أو التعبير في القضايا العامة عبر الخطبة، كما يخالف ما أقرّته السلطة الفلسطينية في أغسطس/ آب 2023، عبر إصدار قرار بقانون حول العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة لمخالفتها اتفاقية مناهضة التعذيب باعتبارها انضمت إليها في وقت سابق.
المصدر: العربي الجديد