ثقافة وفكر
أخر الأخبار

الأدباء حين يختارون العزلة حصنا منيعا

أول من كتب عن هذا الموضوع، هو الروائي الإسباني: غابريل غارثيا ماركيث، حين وضع عمله الأخاذ: «مائة عام من العزلة»، روى فيه سيرة حياة عائلة بوينديا، خلال ستة أجيال، في قرية خيالية أسماها ماكوندو. وقد صدرت في العام 1967. فهو بذلك، أول من أسّس لمفهوم العزلة وعلاقة الإنسان بها.

ألفت إلى ذلك لأقول: إن هذا الموضوع شيّق، وقد ورده الكتّاب وذاقوه، وألّفوا فيه، وامتحنوا أنفسهم بأنفسهم، إذا ما كان لديهم طاقة على العيش في العزلة، بعيدا عن مجتمعهم الذي عاشوا في أكنافه لوقت طويل.

ضمن مفهوم وحدة النفس، قلّما نجد من يفكر باعتزال مجتمعه، حيث الجذور وحيث الجسور، وحيث المنبت والمناخ والبيئة، وحيث المرتع والموئل، وحيث العلاقات والصداقات، وحيث الأخوة التي تؤاخي بين الناس، بعيدا عن الأرحام، من خلال المشرب الواحد، ومن خلال طلب الحاجات. ولهذا نجد الناس يلتصقون ببيئاتهم ولا يهجرونها، إناؤهم شركة بينهم، وغالبا ما يصنعون وحدتهم، ويلتفون على بعضهم، حتى لا يفت فيهم، ولا تتضعضع علاقاتهم، خشية التفرّق والتشتت، والإحساس بالعزلة، من خلال الإبتعاد عن الناس.

ليست العزلة أبدا، مطلب الناس، بل على العكس من ذلك، تراهم يدعون دائما إلى الإجتماع. غير أنها تقع لهم، ويقعون فيها، لحادث يحدث لهم. فيفضّلون العزلة على ما يؤرق وقتهم، من مناكفات، ومن مخاصمات، ومن غرضيات، تقود إلى التوتر والتغضن والإكتئاب والطاقة السلبية.

طلب العزلة إذا في كثير من الأحيان، حاجة نفسية، وتذوّقها على مهل هو الترياق الموصوف لها، وساعتئذ تكون علاقة الإنسان بالعزلة علاقة إيجابية، يستبدل بها المرء طاقته السلبية التي وقعت له، وهو في بيئته، بين الأهل والخلّان، ولهذا تراه يطلبها ويتمسّك بها، ويعيشها ويحياها، حتى يحين له موعد البراء والشفاء.

وأكثر ما تقع العزلة، للكتّاب والشعراء والمتأدبين، وللطبقة المتقدمة من المجتمعات، فهؤلاء عادة، من الفئات المرهفة الشديدة الإحساس، ولهذا نراهم إذا ما تعرّضوا لأدنى إنتكاسة في علاقاتهم الإجتماعية، أو في علاقاتهم الأهلية، يطلبون العزلة والخلوة، فيقصدون الأماكن القصيّة، ويوقفون الإتصال والتواصل مع الغير، ويطلبون الهدوء والسكينة لفترة طويلة، بحسب ما تستدعيه حاجاتهم النفسية للشفاء من غلوائهم والبرء مما يشعرون به من حالة مرضية، ومن إكتئاب داهمهم على حين غرّة.

علاقة الإنسان بالعزلة، متعددة المشارب، ومختلفة الاتجاهات. وهي مثلما تدعو المجتمعات، للابتعاد وللاعتزال عن محيطها العام، كما وقع لعائلة بوينديا، في قرية ماكوندو الخيالية، التي أنشأها غابريل غارثيا ماركيث لستة أجيال، نراها تشدّ الأفراد إليها، وتغريهم بالراحة والسكينة والهدوء، وتعلّمهم الصبر وطول الأناة.

كثيرون من الكتّاب والأدباء والشعراء، كان يرحلون إلى المصائف، وإلى البوادي، وإلى السواحل، وإلى النجعات.. هناك كانوا يضعون المؤلفات الضخمة، مثل المؤرخ البغدادي، الذي رحل إلى مدينة صور، ولم يغادرها، إلّا بعد أن وضع إرثه النفيس: تاريخ بغداد، في ثلاثين مجلدا. صاغها هناك في عزلته على بحر صور، بعدما أتى إليها بمكتبة على ظهر قافلة من الجمال. وأما الشاعر الفرزدق، فكان يخرج إلى البادية، يمضي الحول بعد الحول، ولا يعود إلّا بقصيدة عظيمة، يقول عن نفسه: «إن قلع ضرس، كان أهون عليه من بيت شعر». وأما الأديب المصري محمد عباس العقاد، فكان يخرج إلى عزبته، وينقطع عن الناس، حتى يضع المؤلف الذي قرر أن يؤلفه.

وفي تاريخ الأدباء والشعراء والعلماء الأوروبيين، آلاف الشواهد على علاقتهم الإنتاجية بالعزلة، من تولستوي إلى تشيخوف، إلى فيكتور هوغو، إلى جان جاك روسو، إلى بودلير، إلى ملارميه.. ناهيك عن مدام كوري وعن أديسون ولويس باستور.. فهؤلاء جميعا، كانت علاقتهم بالعزلة، علاقة إنتاجية. وقد تسنّى للإنسانية أن تفيد من عزلتهم، أدبا وشعرا ونقدا وعلوما حديثة، كانت سببا لرقيّ الإنسانية وتقدّمها.

كان الرسامون والفنانون التشكيليون في فرنسا وهولندا وألمانيا والنمسا، يتخذون محترفاتهم، في منقطع من ضواحي المدن، يظلون فيها ليلهم ونهارهم، وينقطعون عن مجتمعاتهم وعن عوائلهم، ويرفضون الزيارات الأهلية وزيارات الأصدقاء، ولا يأذنون بذلك، إلّا بعد إنجاز ما إختطوا وما خططوا، وما وضعوا له خارطة طريق لإنجازه. وكذلك كان يفعل الموسيقيون، فيظلون في معتزلاتهم، وفي عرازيلهم وفي نجعاتهم، حتى يفيضوا، بما كانوا يفيضون به من قطع موسيقية خالدة.

وليس بعيدا من ذلك، ما حَوَته القصة الخيالية لـ «دانيال ديفو: روبنسون كروزو، – 1719»، التي تتحدث وقائعها عن عزلة بحار، عاش وحده على أرض جزيرة نائية، بعدما هلك جميع من كانوا معه، على ظهر السفينة التي أقلته إلى هناك. وكيف أستطاع وحده في عزلته، أن يكدّ ويجتهد، فيبرع في أطر البنيان الحضاري. ليعود بعد ذلك إلى أوروبا، ويزيدها حضارة ومدنية، ويرمم ما ينقصها، ويجعلها لؤلؤة مشعّة.

ليس غريبا، أن يقرن أحدنا بين حياة العظماء في عزلتهم، وأن يقارن الظروف بالظروف، والعزلة بالعزلة. والإنتاج بالإنتاج. وحقا القول علينا، أننا رأينا، جميع من انقادوا للعزلة، وأمضوا شطرا من حياتهم ومن سويعاتهم، أنهم عادوا مظفرين بالأعمال الضخام التي اعتدت بها الإنسانية من بعدهم، من القرية الخيالية ماكوندو لعائلة بوينديا، والجزيرة المهجورة لروبنسون كروزو… إلى جبل الطور وغار حراء.. ذلك أن المكان قد يضيق على الرسالات، علمية كانت أم أدبية أو دينية، فيخرج أصحابها إلى معازلهم، ينفحون هناك ما تضيق به صدورهم، يبنون عوالمهم، ويعودون بها، إرثا للإنسانية جمعاء.

اللواء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى