حين نعود إلى بدايات أي أديب ناجح أو نقرأ مذكراته، سنجد أنه بدأ حياته قارئا نهما، يقرأ كل ما يقع عليه بصره، لأن المثقف أو المبدع يجد نفسه غريزيا مدفوعا منذ الصغر برغبة الاكتشاف ومعرفة ما حوله، وهذا لا يتحصّل من دون القراءة التي تفتح النوافذ أمام الأعين والعقول معا.. وبما أن صور الحياة متعددة فإن السعي لمعرفة ذلك يجعل القراءة متعددة أيضا ولن تتوقف على لون واحد، ومن بينها الأدب، الذي يجد الموهوب به نفسه راغبا في الانغماس بعوالمه كاتبا، بعد أن يكون قد ترك خلفه جهدا قرائيا كبيرا ومتنوعا، يضيء أمامه أشكال الحياة.
هناك أدباء اليوم، يقرأون باستمرار، لكن في الأدب وحده، وحين تقول لهم أن الأديب يجب أن يقرأ كل شيء.. فكر، فن، سياسة، دين، تاريخ، ميثولوجيا …إلخ .. يردون عليك بأنهم لا يجدون متعة خارج قراءة الأدب أو لا يستسيغون تلك الموضوعات.
قد يشكّل الإلحاح عليهم بهذا الطلب نوعا من القسوة كونهم باتوا منمطين، ليس في قراءاتهم فقط وإنما في تفكيرهم أيضا، لأن القراءة البانورامية توسع المعارف وتحفّز على قراءات أخرى وتجعل الإنسان يعي الحياة وما يدور حوله بشكل أفضل، والأعمال الأدبية الكبيرة والمهمة، روائية كانت أو قصصية، هي التي تكون فيها الشخصيات مركبة والأحداث ذات دلالات عميقة، تجعل القارئ يتلمس ثقافة المبدع منتج النص، ويؤمن أن كاتبه قرأ كثيرا وتعمق في فهم الإنسان ومشكلات الحياة، وإنه دخل إليها بنصه هذا بعدة ثقافية متكاملة، لذا جاء النص مكتنزا وعميقا ويشغل النقاد والقراء معا ويبقى في الذاكرة.
الأديب الذي لا يقرأ إلاّ الأدب وحده، يجد نفسه فيما بعد غير قادر على تفكيك النصوص التي يقرؤها وتغدو قراءته نفسها سطحية، لأنه يقرأ لأدباء هضموا معارف وعلوما حديثة لم يواكبها معهم، فمعطيات الحياة المتجددة تفرض علينا ذلك وإلاّ فعربة الزمن التي تسير بسرعة مذهلة ستتركنا خلفها وتمضي.
لاشك أن النص الأدبي اليوم اختلف عنه قبل ثلاثة أو أربعة عقود، نص اليوم يكتنز بمعطيات عصره، وهو عرضة لتحديات الستلايت والفيسبوك وتويتر واليوتيوب، أي نص يقرأه قارئ اليوم أيضا، الذي بات متسلحا بمعرفة لا بأس بها تضخها إليه بشكل مستمر هذه النوافذ ومهما قيل عن سطحية هذا القارئ فإنه يحمل من المعلومات أضعاف أضعاف ما كان يحمله قارئ الأمس أو قبل خمسة أو ستة عقود، وإن كانت ثقافة قارئ الأمس عمودية وقارئ اليوم أفقية، لكن هذا يبقى في الغالب وليس بالمطلق، فهناك كثير من قراء اليوم ممن يقرأون بشكل أفقي وعمودي معا .. أي يقرأون الكتاب مثلما يقرأون (البوست) ويتواصلون مع الأدب بعدة ثقافية تحتاج إلى أديب يماثلهم بحملها أو يزيد عليهم ليؤثر فيهم.
شخصية الأديب غير متعدد القراءات تأتي غالبا ذات بعد واحد، وباردة غير معبّرة بشكل جيد عن الموضوع أو المقولة التي يريد إيصالها لمتلقيه. فالأدب ليس عرضا لأحداث حصلت بل قراءة لخلفياتها وجوانيات الإنسان الذي صنعها أو كان ضحية لها، أو هذا ما ينبغي على الأديب الناجح أن يدركه ويعمل عليه بالتسلح بالثقافة المتنوعة والتأمل العميق.