تقاريرمقالات
أخر الأخبار

الأعصاب الفولاذية.. لماذا لا يعرف المقاومون الاكتئاب؟

مريم ناجي،
محمود أبو عادي

“مَن يثور لا يكتئب، ومَن يكتئب فهو عاجز عن الثورة أو محروم منها، والابتلاع المتواصل للغضب والحنق يتحول بعد فترة إلى اكتئاب”، كما أشار إلى ذلك الأستاذ في علم النفس مصطفى حجازي.

في الحرب الإسرائيلية على غزة، وفي سياق الصراع الإعلامي بين الأطراف المتحاربة، كان أحد مرتكزات الدعاية الإسرائيلية قائما على توصيف الفلسطينيين بأبناء الظلام، في مقابل أبناء النور، وغيرها من الأوصاف التي تدور في ذات الفلك، وتلك شيطنة معتادة في إطار الحروب.

لكن دلالات هذه التوصيفات تتجاوز معناها المباشر، فيصبح “أبناء الظلام” هم الهمج، وأبناء النور هم أبناء الحضارة، ثم نترك لك فهم أبعاد ما يعنيه ذلك من نزع لأنسنة الشعب الواقع تحت الاحتلال، والمقاومة التي تدافع عن أرضها وشعبها أمام المحتل. بالتأكيد لم تخترع آلة الدعاية الإسرائيلية هذه المفاهيم، ولا تلك التوصيفات، بل لها جذور ضاربة في التاريخ، تُبعث في سياقات وحروب وأزمنة مختلفة.

على جانب آخر من ثنائية النور والظلام، يشير حقل علم النفس التحرري إلى مفاهيم معاكسة تماما لتلك المعاني التي تبعثها آلة الدعاية الإسرائيلية، فالتأقلم مع واقع مأزوم ومريض بالأساس وعدم الشعور بالتوتر حياله قد يكون مؤشرا على وضع ليس سَويًّا وغير صحي للذات.

ومن ناحية أخرى وبحسب ما يقول الطبيب النفسي الجزائري فرانز فانون، فإن إقبال الأفراد على تصرفات وسلوكيات عنيفة وثائرة في ظل الاستعمار ينبغي ألا يُفسَّر بوصفه نتيجة لجنون عقلي أو بوصفه استثارة حادة لنظامهم العصبي، بل بوصفه نتاجا مباشرا للوضع الاستعماري نفسه، ورد فعل على القمع.

يرى عدد من خبراء الطب النفسي أن ردود أفعال المقاومين والمقاتلين في ميادين الحرب ونقاط الاشتباك تعطي ملمحا مهما حول الشعور الطبيعي الذي يتمتع به هؤلاء الأسوياء في اتجاه تحقيق الذات، وكونهم فاعلين في رد الإهانة والعنف لمُسببيه الرئيسيين.

تماما كما فعل عدنان أبو ستة الذي قفز فرحا وهو يصرخ “ولعت” عقب نجاحه باستهداف إحدى الآليات العسكرية التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي التي أكلت في طريقها عشرات الأبرياء من المدنيين العزّل.

الاستعمار هو المرض، والمقاومة هي الشفاء
يُوصَف الاكتئاب بحسب مدرسة فرويد في التحليل النفسي بأنه عنف مُوجَّه نحو الذات، فحين يتعرض الإنسان لقهر وتسلط من مصدر خارجي، وعند عجزه عن رد هذا القهر والعنف المُوجهين إليه ومنع نفسه عن المقاومة الفورية، يقوم المقهور باستدخال طاقة القهر هذه إلى داخله.

وجريًا على مبدأ حفظ الطاقة الفيزيائي القائل إن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم ولكن تتحول من شكل إلى آخر، فإن الإنسان يقوم بتحويل طاقة القهر الخارجية إلى طاقة توتر داخلية يستهلكها بتدمير ذاته عبر لوم نفسه والحط من شأنه والشعور بالذنب وفقدان القيمة، بل وحتى تشكيل صورة مُشوهة عن الذات مما يؤدي إلى انخفاض المزاج الانفعالي للفرد وتراجع حافزيته وفاعليته، الأمر الذي يؤول في نهاية المطاف إلى عجزه عن أداء وظائفه اليومية وعدم مقدرته على التلذذ بالحياة اليومية، وهذا أول طريق الاكتئاب.

لكن ما الذي سيحدث إذا لَم نكتئب؟ تقول النظرية إن العنف المُحتجز في الذات سيُصرَف باتجاهات مختلفة، أحدها كبت مشاعر القهر وتخزينها كطاقة، ومن ثم الانفجار في لحظة ضاغطة ما، غالبا ما يكون هذا الانفجار في وجه الأشخاص الخطأ، أو تتحول الطاقة المحتجزة إلى عنف نحو الذات، وقد تودي به في النهاية إلى ظلمة الانتحار.

وهذا ما يحدث في هذا السياق، فحين لا تُسعفنا اللغة ولا تُسعفنا قنوات التعبير المتاحة، وحين نشعر بالإحباط وانعدام جدوى الكلمات، وحين نشعر بانسداد ممكنات الواقع، فإننا نجد أنفسنا في لحظة انفجار عنفي مادي وسلوكي عشوائية، لأنها الطريقة الأخيرة التي نملكها لفرض ما نُريد قوله على الواقع المأزوم، والوسيلة المتاحة لجذب انتباه أولئك الذين تجاهلوا كلماتنا لوقت طويل.

لكن تحويل القهر إلى عنف مُوجه للخارج هو الشيء الوحيد الذي لا يرغب المُستَعمِر أو الظالم في رؤيته. من هنا تأتي تدخلات الطب النفسي الغربي لعقلنة شعور المرء بالتناقضات والمظالم والإحباط، وهنا تحديدا يجري العمل على فتح مسارات لتفريغ المكبوت وتحرير طاقة القهر عبر قنوات مسالمة وممكنة، وإيهام المظلوم بضرورة التسامي على مشاعر الغضب وتحويلها إلى طاقة لرفع الإنتاجية في العمل أو تحسين الأداء العلمي والتعليمي. وهذا بُعد آخر يجدر التنويه إليه، إذ إن العلاج النفسي في كثير من الأحيان لا يخدم سوى غاية واحدة هي إعادة الذات لعجلة الإنتاج الرأسمالي واسترجاع كفاءتها الإنتاجية، بدلا من التعطل بفعل الاكتئاب أو القلق الحاد.

رسالة الغرب المبتذلة: يا شعوب العالم.. مشكلاتكم نفسية!
“تكتسب مفاهيم علم النفس طابعا ساخرا حين تتحدث عن المعاناة النفسية للأشخاص الذين يعيشون في مناطق خاضعة لنهب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي”.

– يوجينيا تساو، كتاب الإمبريالية الصيدلانية والتجارة العالمية للعلاج النفسي

في عام 2008، مرت منطقة فيداربا الهندية الريفية بصدمة نفسية هائلة، فقد كانت تسجل حالة انتحار كل 8 ساعات، والضحية دائما ما يكون أحد المزارعين.

عاشت منطقة فيداربا التي تقع في وسط ومركز شبه القارة الهندية قرونا طويلة حياة ريفية مستقرة، وكانت تشتهر بزراعة القطن وفول الصويا، ولم تعرف المرض النفسي بصيغته المفاهيمية السائدة اليوم.

حتى سبعينيات القرن الماضي، كانت الحياة الزراعية تعتمد على البذور المحلية، قبل أن تدخل في زمن الانفتاح الرأسمالي، وتسمح الحكومة الهندية بدخول استثمارات غربية كبرى إلى السوق المحلي تُعنى بالصناعات الزراعية الحديثة والمعدلة وراثيا لتواكب العرض والطلب للسوق العالمي.

اجتاحت الشركات الأجنبية السوق، وارتفعت أسعار البذور، فاندفع المزارعون للاقتراض، لترتهن حياتهم للائتمانات والقروض، ثم تعمقت حاجتهم إلى المبيدات لزيادة فرص النجاح وتغطية سبل العيش الكريم، ومع تقلبات الأسواق، وغياب شبكات الأمان الاجتماعي، والتعثر في السداد، وإثر كل ذلك دخل الكثير من أبناء هذه المنطقة في تلك الأجواء الانتحارية.

لم تكن فيداربا المنطقة الانتحارية الزراعية الوحيدة في الهند، إذ يُقدر عدد المنتحرين بين المزارعين بفعل أسباب العجز الاقتصادي بـ 200,000 حالة انتحار خلال السنوات العشر الواقعة بين الأعوام 1997-2007. وهذه الظاهرة الانتحارية ليست خاصة أو محصورة في الهند وحدها، وإنما تشمل منطقة آسيا والمحيط الهادئ، إذ وبحسب الدراسات التي فحصت حالات شبيهة، ترتبط 87% من حالات الانتحار بين المزارعين في هذه المناطق بأسباب متعلقة بالديون والعجز عن تغطية تكاليف الزراعة بالممارسات الحديثة.

أرسل رئيس ولاية “أندرا براديش” فِرقا من الأطباء النفسيين لزيارة المزارعين وتقديم جلسات علاج نفسي للتقليل من تلك الظاهرة، المدهش أن الحكومة الهندية بمعونة التفسيرات النفسية توصلت إلى العلاج الناجع، وتساءلت: لماذا لا يكون هناك خلل جيني دفع هؤلاء الفلاحين إلى الانتحار؟

انتحار مزارع هندي (فليكر)

لاحِظ! خلل جيني لا خلل اقتصادي وسياسي، وأطلقت على إثر ذلك دراسة بحثية في عام 2007 عنوانها “التحقيق في الارتباط الجيني بموجة انتحار المزارعين في فيداربا”. وهكذا، وبقرار سياسي، تم تجاهل المعاناة الناجمة عن استباحة سياسات البنك الدولي للمجتمع الهادئ، وذهبت إلى التحقيق في السجل الجيني للفلاحين والبحث عن سر العطب الذاتي الكامن في ذواتهم وفي أصلاب أجدادهم من منظورَيْ الطب النفسي وعلم الوراثة.

من المثير للاهتمام أيضا أن تعرف موقف المنظمات الدولية والهيئات العالمية من هذه “الجريمة” الممنهجة الموصوفة بالانتحار، فقد ناشدت حركة الصحة النفسية العالمية (MGMH) وطالبت البنك الدولي لزيادة التمويل لتدخلات الصحة النفسية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.

يا لها من مفارقة ساخرة! أن تناشد الجهة نفسها التي شكلت أوضاع الهيمنة والاستعمار الاقتصادي على الشعوب بأن تُسعف ضحايا القهر الاقتصادي والسياسات النيوليبرالية للدولة، وبدلا من أن تكون المطالبة بإيقاف جذور المشكلة، تذهب نحو ضخ المزيد من الترطيبات النفسية والروحية، حتى تتكيف مع المعاناة الاقتصادية، لأن مشهد الانتحار مزعج للسادة في الغرب محتكر الثروة والطب النفسي.

الالتفاتة المهمة هنا هي أن فلاحي فيداربا لم يُطوروا نموذجا مُقاوِما لسياسات الشركات الكبرى والرأسمالية المتوحشة. كان وما زال أمام المزارعين خيارات عدة لتشكيل حالة نضالية خاصة بفلاحي المناطق الهندية، بدءا من استدعاء الموروث المقاوِم الذي خلقه زعيم “ثورة المنبوذين” في الهند، المهاتما غاندي، ومرورا بالمقاطعة والإضرابات العامة، بالإضافة إلى سلسلة من الحراكات المدنية التي تؤول عادة إلى تغيير شروط الشركات الكبرى وتحسين أوضاع الفلاحين وأحوالهم الاقتصادية.

ثمة شواهد عدة للفرضية الأساسية هنا بأن مَن يكتئب لا يثور، ومَن يثور لا يكتئب، إذ تُعطينا دراسات الانخراط المدني والمشاركة السياسية علاقة واضحة حول أثر النضال السياسي والمدني في زيادة الكفاءة الذاتية للأفراد وشعورهم بأنهم مُؤثرون في واقعهم وظروفهم، ومن ثم تقليص معدلات الاكتئاب لدى الناشطين منهم. وهكذا، فأمام أي واقع قهري ثمة نموذجان يُمكن تخليقهما: نموذج المُتلقي السلبي للقهر والمستسلم له الذي ينتهي بالاكتئاب والانتحار، ونموذج إيجابي نشط، يجابه القهر ويناور مرتكبيه ويسعى جاهدا لتغيير الشروط المفروضة عليه، فيعزز من مناعته النفسية ويشعره بالفاعلية الذاتية ويقيه الوقوع في شراك الاكتئاب.

منحنى يوضح ارتفاع معدلات انتحار المزارعين في منطقة فيداربا الهندية (الجزيرة)

تسطيح معاناة الشعوب: لا تأخذوا الأمور بمحمل شخصي، كونوا أكثر إيجابية!
“في حياتنا شيء يُجنِّن.. وحين لا يُجَنُّ أحد، فهذا يعني أن أحاسيسنا مُتبلدة وأن فجائعنا لا تَهزُّنا، فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب مُعافى لا يتحمل إهانة، ودلالة على أن الأصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يحسون، بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون، على غسل الإهانة”.

– ممدوح عدوان، مُقدمات: دفاعًا عن الجنون

قد لا نستطيع فهم المرض العقلي دون الأنثروبولوجيا والدراية باختلاف الثقافات، وكذلك دون فهم حياة التهميش والمعاناة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها الدول النامية والفقيرة، لن تفلح الحبوب والمهدئات في حل المشكلة، فالأمر يحتاج إلى حل أعمق.

تبدأ المشكلة مع تسطيح المعاناة النفسية للأفراد من خلال نزع الأعراض المَرَضية للإنسان عن السياق الذي تنتج فيه هذه الأعراض، فحين يُغلَق باب النقاش حول الأوضاع السياسية للبلاد، وحين يُتجاهَل التحليل النقدي للسياق السياسي والاقتصادي الذي تحدث فيه حالات الانتحار والاكتئاب، يؤدي هذا كله إلى تشويه التشخيص السريري التقليدي، الذي يجعل الأفراد المصابين بالاضطرابات النفسية ينظرون إلى أنفسهم كما لو أنهم السبب الوحيد والأوحد في العِلل الاجتماعية التي يواجهونها. تُختَزَل أسباب المعاناة النفسية للأفراد بوصفها اختلالا كيميائيا للدماغ، أو بوصفها تشوهات إدراكية لدى المريض ينجم عنها قراءة سلبية للواقع، وتحتاج إلى تصحيح وتوجيه علاجي كي يكون الفرد أكثر إيجابية ومعافى من أمراضه النفسية. لكن وراء هذا التشخيص الخاطئ استعمار ذهني ونفسي لأخصائيي الصحة النفسية، لكنه استعمار مخدر نائم، بوهم الحيادية، حيث يُنتَزع السياق السياسي للاضطهاد والعنف من بيئة المريض لدواعي المهنية الطبية، بحجة الالتزام بالتعليمات والإرشادات المهنية، التعليمات ذاتها التي صاغتها الأُمم نفسها التي فرضت الأوضاع الاستعمارية وغير الإنسانية على باقي الشعوب حول العالم.

لكن من المهم في هذا السياق التمييز بين الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية نتيجة خلل جوهري على المستوى العصبي والنفسي ويحتاجون إلى علاج نفسي مُتخصِّص مفيد وفعال، وبين ردود الفعل الطبيعية للأفراد على الانتهاكات السياسية التي تحدث يوميا بسبب الاحتلال الإسرائيلي مثلا، التي ينبغي ألا تُفهَم إلا بوصفها معاناة جماعية نتيجة اضطهاد ممنهج مُوجه نحو الذات.

على سبيل المثال، تتبنى المنظمات الدولية التي تقدم خدمات الصحة النفسية في الحالة الفلسطينية وفي حالة الإغاثة الإنسانية لضحايا النظام السوري نهجا يرتكز على عدم التسييس، وإبعاد أي طابع سياسي تفسيري، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى إيذاء الضحايا أكثر من نفعهم، وأحيانا يقود ذلك إلى رفضهم الاستمرار بالعملية العلاجية.

لو تخيلنا ضحية من حلب عاشت التدمير ويوميات البراميل المتفجرة، فطبيعي أن تدفع تلك الأهوال الشخص المقهور نحو تبني قناعة جذرية تجاه النظام السياسي القاهر. عند هذه النقطة تحديدا، إذا حاول الأخصائي النفسي استدعاء مفهوم “التشوهات الإدراكية”، وتصوير الأمر للضحية بأنه يتبنى قناعات غير واقعية تحت وطأة الاكتئاب أو الصدمة النفسية، حينها سينحرف النقاش العلاجي عن المبررات الواقعية لهذه المواقف النفسية، وسيكون من المُسيء أخلاقيا أن يُطمئن المريض مع نظرات تملؤها الشفقة قائلا: “أنتِ تعتقدين خذلانك لأنكِ مُكتئبة فحسب، بعد العلاج سيكون لكِ رأي مختلف”. هنا تحديدا تتجاوز الحيادية حدود المهنية الباردة إلى التوطؤ الطبي مع المستعمر أو الحاكم المُستبد، حتى لو لم يُدرك المعالج ذلك، فنحن نتحدث هنا عن الأثر القائم من اتجاه الخطاب.

رجل بجوار منزله المهدم في حلب (رويترز)

كذلك بالمثل حين تُفصِح ضحية خلال جلسة علاجية عن حقدها وتحاملها على النظام الإسرائيلي الذي دمر منزل عائلتها ودفعها نحو التهجير، فإن النموذج العلاجي يُوصِي بأن يُركز المُعالِج النفسي على تصحيح التشوهات التصورية بعدم “شخصنة” مصادر المعاناة وعدم أخذها بمحمل شخصي، وعدم التفكير فيها بمنطق ثنائي محض يحصر ما يجري من حوادث على أرض الواقع ضمن منطق “إما/أو” أو ما يُسمونه أحيانا التفكير المحصور بلونين “الأبيض والأسود”.

وقد تصح هذه التوصية العلاجية لمواطِن غربي يعيش في دولة ديمقراطية وتعرض أثناء ذهابه للعمل لاعتداء عشوائي من أحد السائقين المتهورين، حينها يجب أن يُوصي المعالج النفسي بعدم شخصنة الأمور، وأن ما جرى لَم يكن سوى اعتداء عشوائي يُعبِّر عن تهور السائق نفسه.

لكن “عدم الشخصنة” تفقد مبرراتها حين تكون الذات هي موضوع الاضطهاد في حالة الاحتلال أو في حالة التطهير العرقي أو الاضطهاد السياسي لجماعة ما، حيث تكون الذات مُستهدفة بشكل مُتعمد ومقصود فقط لمجرد كونها ذاتًا تنتمي إلى جماعة بعينها.

وإذا تحركنا من مستوى قهر إلى آخر فسنجد أن القهر الفلسطيني قهر مُركب، وأن صدمة الفلسطينيين النفسية ليست كأي صدمة، بحسب ما تقول دكتورة سماح جبر، رئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية والأستاذة المساعدة لـلطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة جورج واشنطن، في حوار أجرته مع موقع عرب 48. ترى الدكتورة سماح أن الضربات النفسية التي تبطش الفلسطيني المحتل متعددة الطبقات، فهناك الصدمات الفردية التي تتسبب بها الإصابات الجسدية أو السجن أو التعذيب، والصدمات الجماعية التي تولد شعورا مجتمعيا بالخوف مثل حروب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة، أو مشهد قتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة.

وتشرح كيف تعجز النماذج الطبية الغربية عن فهمنا تماما، فبعض السلوكيات التي قد تُصوَّر في سياقات أخرى بوصفها سلوكيات هيستيرية أو مَرَضية، تجدها في سياق الفلسطينيين تتحول إلى سلوكيات صحية وقائية، مثل قناعة الفتيات بأن عليهن ارتداء حجابهن قبل النوم تحسبا لأي اقتحام قد يحدث في أي لحظة، هذا ليس جنونا ارتيابيا، بل هو قائم على أساس واقعي بعد أن رأين -على سبيل المثال- والدتهن تُعتَقلُ من قلب دارها ليلا.

إن وجود الصدمة النفسية بجميع أشكالها لدى جماعة ما وانتشارها بينهم بالجُملة لا يدل على إشكال نفسي لدى الذوات، بقدر ما يدل على وجود واقع يفتقر إلى مقومات العَيش أساسا. وحين يكون هذا هو واقع الحال، فإن العلاج النفسي للأفراد ينبغي ألا يكون تدخلا سريريا لكل فرد على حِدَة، ولكن ينبغي أن تُضاف إليه طبقات من التحليل الاجتماعي والسياسي يدفع نحو تحقيق واقع مَعيش للأفراد تُحقق فيه كرامة الناس وحرياتهم ولا يتعرض فيها الأفراد لتجارب الاضطهاد أو الإذلال أو الإساءة أو العدوان والعنف. فالنموذج العلاجي المطلوب هو النموذج الذي يأخذ السياق الاجتماعي والسياسي للمرضى على محمل الجد دون أن يتجاهل المشكلة النفسية الفردية، وهو النموذج الذي ينشد ربط الانقسام بين المقاربات النفسية والاجتماعية السياسية الفردية، وهي السبيل لترجمة المعاناة الخاصة إلى معاناة عامة تحت الأوضاع الاستعمارية.

شفاء الفلسطيني في سرديته لا في طبيبه:

“نحن نروي لأنفسنا القصص كي نعيش، إن وضع الصعوبات التي نمر فيها ضمن سياق أكبر عبر أذهاننا وخيالنا، يحولها من آلام ومعاناة إلى مَرْهَم فعال كي نتعافى من جراحنا”.

– مارك مارياني، ما لا يقتلنا.. يصنعنا: مَا نُصبِح عليه بعد المأساة والصدمة

خلال التعرُّض لحدث مؤلم وصادم، يركز جسد الإنسان على البقاء على قيد الحياة فحسب، هذه هي أولويته الوحيدة. نتيجة لذلك، يؤجِّل أداء بقية الوظائف غير العاجلة، مثل الهضم أو تكوين الذكريات وتثبيتها. يعتقد العلماء أن اضطراب ما بعد الصدمة يتطور حين يُكوِّنُ الدماغ ذكريات منقوصة لحدث أليم مر الإنسان به؛ لأن تفاصيل جسدية وعاطفية مثل الذعر والخوف من السهل أن يتذكرها. لكن التفاصيل الأخرى، الأهم، مثل سياق الحدث ومكانه وزمانه، سيحيط بها الغموض. وبدون هذا السياق، لا يعرف الدماغ ما عليه فعله بهذه الذكرى، أين يضعها؟ وبسبب هذا الارتباك قد يربط ذكريات الحوادث الأليمة بتفاصيل حسية عشوائية مثل أغنية أو رائحة ما. يشعر المصاب بأن الذاكرة عائمة في رأسه، وفي حالة تأهب دائمة، حذرا من أي شرارة تُشعل فتيل صدمته. هنا يأتي دور العلاج السردي، إذ يُساعد بشكل أساسي على تنظيم الذهن.

بدلا من تذكر الحدث ثم محاولة تذكر التفاصيل والمُصاب في حالة ارتباك وضغط، العلاج السردي يبدأ من بناء السياق أولا. يحكي المصاب قصته من البداية، وبعدها تُوضَعُ الأحداث الأليمة في الفجوات الفارغة، كأن المصاب مع معالجه يُكملان رقعة بازل هائلة.

تساعد هذه الطريقة العقل على تثبيت الذكريات الأليمة في أوقات وأماكن محددة، فتتحول إلى شيء يخص الماضي فحسب، وليست مأساة دائمة الحضور في أفق الذهن. فيمَ ستفيد هذه الطريقة مقاومة أهل غزة؟ ربما بعد انتهاء الحرب، حين يتمكنون من سرد ذواتهم بهذه الطريقة، فإن ذكرياتهم ستحاصر في سردية واحدة وسياق واحد، ما يُجرد الحرب من قوتها، ويظل الصمود فكرةً ومبدأً ومنطلقًا هو الأساس لهذه الصدمات. ليست سردية الأشخاص بالضرورة سرديات صحيحة، وفهم سرديات الأشخاص لا يعني تبريرها بالضرورة، لكن يعني أن نفهم السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تنشأ في ظلها السرديات.

ربما لا يُدرك الفلسطينيون هذا، لكنهم يؤسِّسون سردا خاصا بهم مع كل عدوان يتعرضون له، ليس سردا علاجيا ممنهجا بالضرورة، لكنه يحافظ على تماسك مجتمعهم كله، مثل مبادرة “نحن لسنا أرقاما”، إذ تقوم المبادرة على الطمس الذي يتعرض له الفلسطينيون الذين يعيشون تحت الاحتلال وفي مخيمات اللاجئين، لأنه حين يتحدث العالم عنهم فإنه لا يذكرهم سوى بوصفهم أرقاما، عدد القتلى والجرحى أو الذين يعتمدون على المساعدات. لكن، كما يُذكر على موقع المبادرة، الأرقام مجردة من الإنسانية، ولا تؤدي إلى شيء سوى تخدير المتلقي ورؤيته للفلسطينيين أرقاما، تحديدا مع تكرارها وارتفاعها بوتيرة سريعة.

وُلِدت فكرة هذه المبادرة عام 2014 على يد الصحفية الأميركية بام بيلي، استوحت بام فكرتها خلال عملها مع الحقوقي الفلسطيني أحمد الناعوق. خلال العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في صيف عام 2014، قُتل أيمن، شقيق أحمد البالغ من العمر 23 عاما، بصاروخ إسرائيلي. غرق أحمد في اكتئاب حاد، ظن أنه لا شيء سينقذه منه أبدا. التقى بام في هذه الفترة من حياته، وشجعته على الاحتفاء بذكرى أخيه من خلال كتابة قصة عنه. درس أحمد الأدب الإنجليزي، لذا كانت فكرة بام منطقية ومتقاطعة مع اختصاصه، وربما تساعده فعلا. كُتِبت القصة على مدار ثلاثة أشهر، ونُشرت في النهاية، وتحقق أمل بام؛ تحسن أحمد وبدأ يخرج من اكتئابه. أرادت بام أن تعمَّ الفائدة، وهذه هي طريقة العلاج السردي، إيجاد قصة، إيجاد معنى، إيجاد صوت مسموع، إكمال الرواية الشخصية حتى وإن انهارت كل لحظة.

إن كان من صمود للشعب الفلسطيني والمقاومة، فهو لا شك يكمن في التفاصيل الحميمية لثقافة الفلسطينيين أنفسهم، في حكايا جداتهم، وفي إرثهم وقصصهم عن ذواتهم، وفي إنتاجهم لأبطالهم واحتفائهم بالمقاومين من أبنائهم، إذ تُشير دراسات عدة إلى أن المجتمعات والأفراد الذين يحظَون بصورة ذهنية عن أبطالهم هُم أقدر على تجاوز الأزمات والتعافي من الكوارث والحروب، وكذلك كل رأس المال الاجتماعي الذي تحمله الشعوب الصامدة من نسيج مجتمعي متكافل يحرص على رواية قصصه وبطولاته ويعتني أفراده بعضهم ببعض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى