خير المطالع تلك التي تفتح على عتبة ترابية، فيشهق عطر التراب ليوقظ مشاعرك على أرض مفتوحة على الجمالات والبطولات.من العنوان نقتفي أثر الكاتب الجنوبي الهوى، المجاهج المناضل، الوطني الشريف، فنعرف انتماءه وهويته والتزامه، ومن اللوحة الفنية بألوان تختلط فيها الأرض بالسماء تعرف أن الكاتب ولى وجهه شطر جبل عامل ليكاشف الطير والخيل والأشجار والهواء والزهر والأعشاب والأنهار، ويُحمّلها الرمز والحكمة والعبر وينقل تراث الضيعة من جيل إلى جيل. يندرج هذا النوع الأدبي القصصي في باب أدب القيم، بقالب المثل الحكائي الذي يترك أثرا اجتماعيا انسانيا اخلاقيا عبر التعلّم، فيه جيلان يتناوبان السرد والحوار، الجد الرجل الحكيم، ومن يمثله والأحفاد للدلالة على كيفية نقل التراث والارث الانساني عبر الأجيال.
وإذا قال بشار بن برد أن الأذن تعشق قبل العين أحيانا فد. علي يقول والأنف يعشق قبل الأذن أحيانا.
وإذا تساءلنا لماذا اختار الكاتب حاسة الشم لتكون عنوانا لمجموعته القصصية”ومنح التراب عطرا خاصا به، علما أن ليس للتراب رائحة إلا إذا امتزج به سائل ما،
فما هو هذا السائل، أهو حبر قلمهأم دم الشهداء أم كلاهما دم، فالكاتب يناضل بالقلم والبطل يناضل بالسلاح فكيف لا والكاتب جندي (كان رائدا في الجيش اللبناني ثم أديبا ألمعيا حمل همّ الجنوب ومعاناة أهله وصمودهم وتحدياتهم ومواقفهم الوطنية ؟
عناوين مجموعته القصصية ومضامينها التي تدور كلها في فلك التراب ، أربع عشرة قصة قصيرة انطلقت من تراب الأرض صال الكاتب فيها وجال ، باذرا نتاجه الفكري والثقافي والأدبي والتراثي وتجربته العميقة المترامية في أديمه، واستنبته عزة وكرامة وتضحية، انعكست على تلك القصص وما فيها من عبر لتكون مدرسة للصغار ومرجعا للكبار، وتسلية جميلة مفيدة، ولوحات فنية للرسامين، وقصائد للشعراء، وأفكارا فلسفية للفلاسة.
لماذا تحمل المجموعة عنوان عطر التراب؟
ألأن االكاتب يعتقد بأن الانسان من التراب، وهو يتوق إلى أصله، ذلك الرحم الأبدي، الذي يسلم فيه الجسد بعد رحلة بحث وتنقيب عن سر وجوده؟ أم لأنه يشتاق العودة إلى الجذور حيث الطهارة والبراءة والتضحية والعطاء. أم لعله تاه في غياهب الحياة وتشرذمت ذاته بين هنا وهناك، وحاول أن يجمع تلك الذات ويعيدها إلى صورتها الأولى . أم لأن التراب الذي لا رائحة له حمله رائحة الدم الزاكي فارتوى به ليترفع عن دلالته المألوفة المنتشرة بين العامة والخاصة وهي ” الضعة” إذ يقولون “سأمرغ جبهته بالتراب” دليل على النيل منه وإذلاله واهانته. فالكاتب رفع التراب إلى الأنف بانفة وعزّة، ليكون مصدر فخر واعتزاز وكبرياء إذ جعل للتراب جبينا عاليا بعد أن اختلط بدماء الشهداء، وانتشر عطره لنتنشق معنى النضال من أديمه، ونحذو حذوهم، ويكون الحبر معبرا عن تلك البطولة الخالدة.
وفي جولة سريعة على مجموعة”عطر التراب” نعرف أن التراب هو الكلمة الموضوع ومحور المجموعة كلها، هو مفتتح النصوص ومفتتح الشبكات المعجمية التي تتحلق حوله لتشكل لوحة من الطبيعة أصلها التراب. لعل الكاتب بذلك يقول الطبيعة مدرسة دائمة. فكيف إذا كانت طبيعة الجنوب ؟
في القصة الأولى “جاء الصياد” انتشار كبير لحقل معجمي عائد إلى الطبيعة. فالصياد والطبيعة توأمان كون الأول لا يصيد إلا في الثانية، حيث الأنهار والوديان والجبال والظلال والأزاهير والبساتين والطيور والخضار. ومن شجرة العطاء إلى نخلة الوطن ومن زنبقة الدار إلى دروك الدالية ومن اللوزة الحريصة يتضوع عطر التراب وتشتبك خيطان الحكمة لتكون الطبيعة مدرسة. يعلم فيها الكاتب أبناءه وأحفاده معنى الصمود والتصدي ومعنى النضال والتضحية ومعنى الانتماء والدفاع عن كيانهم ووجودهم ومعنى القيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية عبر التناص والرمز والمثال ويحملها قيما نبيلة. فتكشف عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للكاتب ومن منظور الكاتب الايديولوجي يحتم عليه تحمّل مسؤولية الانتماء إلى الطبيعة للدفاع عنها، فيحاول تصويب الاعوجاج هنا ويدفع الجيل الجديد الى التضامن والصمود.
في القصص القصيرة لهذه المجموعة يتضوع عطر التراب، فتتبرعم الطبيعة وتلقي بخيراتها على الانسان على من يريد الخير ولتكون لوحة فنية وألوانا بيد رسام فيبدع لوحاته الطبيعية، أو تكون ريشىة في يد موسيقار، فيتعلم من القصب وحفيف الأشجار وخرير الانهار وزقزقة العصافير سوناتات أبدية. أو تكون مصدر وحي لفنان او شاعر او أديب، وقد تكون مختبرا لعالم الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات، وقد تكون فكرة فلسفية لفيلسوف يتامل في هذا الوجود.
فكيف إذا كانت الطبيعة مادة الكاتب الأولى يستقي منها الجمال والخيال والفكرة والهدوء والراحة يلوذ إليها طالبا المعرفة في شتى الميادين، باحثا عن سرّ وجوده في عالمها الرحب، ناقلا رسالتها المحملة بالزهر والثمر والحب والجنى؟
وفي الأهداء ما يؤكد ما ذهبنا إليه يقول: أبصرتني الطبيعة ابتسمت وشرعت أحضانها مرحبة
وقالت: “جميل أن تنقل رسائلي”
لماذا اختارت الطبيعة د. علي ليكون رسولها فيحمل رسالتها وينشرها. ألأن هناك علاقة وجودية بينه وبين الأرض، تلك الأرض الذي شهدها وهي تُسبى، وينتهك العدو جسدها، ويعيث فيها فسادا، فتستنبت الأبطال، وتطيب لهم الشهادة من أجل تحريرها من ذلك العدو الصهيوني الغاشم، ويكون الد. علي بطلا من أبطالها، صامدا معاندا مناضلا مقاوما.
بين الأرض والدكتور علي حكايات من الجد والكفاح، والتضحية . رحلة طويلة عبرها فلاحا مزارعا جنديا مضحيا، معلما وأديبا، وهبها وجدانه وعقله وقلمه عرفانا للجميل ليكون رسولا مرشدا موجها.
د. علي حجازي عاشق الأرض عاشق الطبيعة هو روحها السابحة في هذا الكون الرحب، أخلص لها، فوهبته جمالها، وعلمته أسرارها، فأتقن دروسها ليكون رسولا لها للأجيال القادمة. وكان على شاكلتها معطاءا محبا جميلا سبر اغوار أسرارها ففهم مخلوقاتها، ومنتوجاتها ولغتها وفهم منها معنى الكرامة والشرف وحب البقاء.
ولأنه قدّم د. علي للارض حبه وانتماءه، فاتمنته وعلمته دروسها، وأطلقت ليده العنان، ولخياله الشرود ثم اتمنته على سرها لأنه أخلص لها. وكان خير طالب وخير متعلم، وخير ناقل وخير رسول، تعلم منها دروسا في الحياة، فامتلك حكمتها، ومعرفتها ومثلها وقيمها . وكان رسولا لها عليه واجب إبلاغ الرسالة فكان خير أمين في نقل الرسالة.
الراوي موقعه علاقته بالشخصيات
رؤية المؤلف بتشكل البناء الروائي أو ما عرف بزاوية الرؤية أو بوجهة النظر
والراوي هنا هو الكاتب الذي يبتكر الأحداثـ يمارس وظيفة فنية يملك تقنيات كثيرة لايصال المعلومات إلى القارئ، ظهر الراوي في الكثير من القصص وكان الراوي والروائي نفسه نحو فضمير المتكلم المنتشر في جاء الصياد ، عطر التراب، شجرة التسامح والعطاء.نخلة الوطن, الراضوع، زنبقة الدار، دروك الدالية، العورنين زهرية الحب، أباء الأسر يعود إلى الكاتب.
ومرة أخرى يلبس قناع مختلف الشخصيات:، ويكون الصوت الخفي الذي لا يتجسد إلا من خلال ملفوظه. نحو اللوزة الحريصة (لسان الجدة) وحيد القرن(الأم) وابنتيها ليا وسيرين.
وفي كلتا الحالتين كان الراوي يساوي الشخصية وما يعرف بالرؤية الداخلية يعرف على قدر ما تعرفه الشخصية لا يقدم أي تفسير إلا أن يكون مشاركا في القصة أو شاهدا على ما يجري.
وفي الغالب كان الراوي يقع داخل الأحداث هو شخصية فيها العامل الذات الشخصية المحورية (الجد) يمثل فئة الراوي = الشخصية يعرف ما تعرفه الشخصية اعتمد سرد الحد الأقصى ممثل بضمير المتكلم حضوره يجعل من المؤلف شخصية رئيسة تنجز القص
باستثاء اللوزة الحريصة ووحيد القرن، فالراوي هنا الجدة والأم، غير أنهما لبستا قناع الصوت السردي حيث أوكل الروائي الكلام لرواة أخرين يعرضون وجهات نظرهم التي تحمل عبر صندوق الصوت صوت الروائي. وبالتالي حملت وجهة نظره .
المستوى التعبيري
تتنوع أساليب المؤلف في هذه المجموعة بين مباشر وغير مباشر ومباشر حر وسرد خبري ووصفي.
لجأ الكاتب إلى الخطاب المسرود وفيه يتساوى كلامه بكلام الشخصية. فالشخصية الرئيسة التي تنقل الأقوال والأفكار هو الراوي نفسه معتمدا الكلام المباشر الحرّ في الغالب ثم يقطع الحكي ليبين واقعية الأحداث فينتقل إلى الكلام غير المباشر عبر المشهد، وغالبا ما تكون هذه الشخصية من الجيل الصاعد.
ويقوم بالسرد الخبري والوصفي في مواضع كثيرة وكأن الراوي يحمل عدسة تصوير، ويجول فيها على الأماكن، كاشفا صورتها وكأنه يرصد الدلالات القيمية لها.
أ.د. رائدة علي أحمد – غرفة 19