كما في الخرائط الجغرافية، فإنّ خريطة الإنسان تحتوي على تضاريسه من جبال وسهول ووديان، وجدب وخصب، وليس ذلك غريباً، إذ إنّ الطبيعة والإنسان معاً مخلوقا الله تعالى، وبصمات الخلق الرَّبّاني في كلّ الكائنات حاضرة بهذه الدرجة أو تلك، هناك (مشتركات) وهناك (مُفترَقات) أو (فوارق)، ولسنا هنا في صدد الحديث عن تضاريس الجسد أو المادّة، فذلك له بحثهُ المختصّ، ومساحتهُ المختلفة، وأبعاده الكثيرة.
وإنّما نتناول الإنسان ذا المواهب المتعدِّدة في عملية اكتشاف جديدة (لقارّته) الشاسعة، أو (مجاهيله)، أو تضاريسه المعنوية. إنّنا في محاولة البحث عن (جغرافيا) الإنسان المعنوية، وتتبع تضاريس خارطته الإنسانية، لا نعدو أكثر من مُزيحٍ للستار عن المسرح.. المسرحُ موجودٌ، والمُمثِّلون موجودون، والأدوار مُعدّة، والمُمثِّل في الخيار أيَّ دور يختار، والمسرحية الجادّةُ الهادفة كاملة.. إنّنا نعمل على إزاحة الستار فقط.
وربّما، نعمل عملَ النُقّاد أيضاً، الذين يُلفتون النظر إلى الأبعاد الجمالية للنصّ، وللأبطال، وللمخرج.. بمعنى إنّنا نحاولُ إزاحة (الستار الآخر) عن أعين بعض المشاهدين الذين اعتادوا النظر إلى المشاهد الظاهرية، من غير أن يُكلِّفوا أنفسهم البحث عن زوايا المشهد وأبعاده.
(خارطةُ الإنسان) ليست من نوع الخرائط الجغرافية، حدودٌ، وأنهارٌ، وبحار، وجبال، ومساحات خضراء، أو صحاري، وإن كان فيه من كلّ ذلك، كونه (ابنَ الأرض) صنيعَ ترابها.. هي أشبه بـ(الدليل) الذي يضمّ المحتويات، وسعينا – في هذه الأوراق – يتجه إلى تجلية ما في (المنجم الإنساني) من مواهب وكنوز ربّانية، قد نلتفت إليها متفرِّقة، وننظر إلى بعضها بمعزل عن بعض، أو قد ننجذب إلى الطافي الظاهر منها، وننسى الغاطس المستور، أو غير المُعلَن عنه بعد، هيّا بنا لا نقول (إلى هناك)، بل إلى (هنا).. حيث أنت وأنا والإنسان الآخر، إلى تلمُّس وتهجّي واستقراء بعض مكنوناتنا الثريّة، وربّما (المُندثِرة)!
إلى (نبش) كامل الإنسان، بدلاً من التطلُّع إليه من زجاج معرِضه الخارجيّ.
1- الإنسان.. كائنٌ حُرٌّ (اختياريّ):
الإنسانُ كائنٌ إراديّ، خلقهُ الله تعالى حُرّاً، مُختاراً، مُريداً، وهذا ما نلاحظه في قول الحق تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الإنسان/ 3)، وقال سبحانه: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البلد/ 10)، والنجدان طريقا (الخير) و(الشرّ).
ولا يكونُ الإنسان مُختاراً مُريداً إلّا إذا وُضع في الخيار بحسب ما يمتلك من قدرة عقلية واختبارية لأفضل الخيارين، أو السبيلين، أو النجدين، أو الطريقين، أو الحياتين.
حرِّيّة الإختيار، على ما فيها من تثمين لإرادة الإنسان وعقله، هي مسؤولية أيضاً، وهي عامّة شاملة لا تخصُّ إنساناً دون آخر، فكلّنا مُخيَّرين بين السير في طريق الخير، أو السير في طريق الشرّ، وعلى ضوء ونتيجة الاختيار، تتحدَّد (المكاسب) و(الخسائر).
وبمعنى آخر، يمكن للإنسان أن يربح جولته الحياتية بالفوز العظيم، ويمكنه أن يخسرها في المراهنة على الخيار السيِّئ، لاسيما وإنّ الله سبحانه وتعالى، أشار في محكم كتابه الكريم أنّ (الفلاح) و(الخيبة) نتيجتان حتميتان للاختيار الأوّل أو الثاني: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس/ 7-10)، الفلاحُ والنجاحُ والصلاح في التزكية والتنمية والترقية، والخيبة والخسران والخذلان في الإهمال والإغفال والإقفال!
ولقد شاءت حكمةُ الله تعالى أن يكون (التكليفُ) الشرعيُّ في الفترة الزمنية التي يبلغ فيها الإنسان رُشده، أي يمتلك القدرة على الفرز بين الخيارات الموضوعة بين يديه، ولو خُلّي الإنسان بينَهُ وبين فطرته لما اختار على (سبيل الشُّكر) سبيلاً، لأنّه (كائنٌ فطريّ) أي يحملُ بين جوانحه وفي ضميره، وفي وجدانه، وحنايا روحه عشقاً للذات العلّية (جلّ جلاله) مستشعراً نِعَمهُ، وفيوضاته، وقدرته، وعظمته، وربّانيته، وعنايته له في مطاوي رحلته الحياتية، بل يجنحُ إلى (التخلُّق بأخلاقه) ما وسعهُ الأمرُ ذلك.
الاختيارُ – عند مفترق الطريق – يأتي في زمن التفتُّح الذهنيّ، والترجيح العقليّ، والقابلية على (الرفض) و(الاختيار).. ولأنّ الإنسان أشبه بالتاجر في سوق الحياة، فإنّه سيدخل في حسابات الربح والخسارة في ما هو مُقدمٌ عليه، والعقل بطبيعته الحاكمة يؤثر الأرباح على الخسائر، إلّا إذا ركبه الغرور، والعناء، والتعصُّب للجهل، فيرى الخسائر أرباحاً!!
إنّ سعة حركة الإنسان في الحياة بسعة اختياراته، وكلُّ إنسان وما يختار.
2- الإنسان.. كائنٌ ازدواجيّ:
هو ازدواجيّ بمعنى (الثنائية) لا (النفاقية)، فهو (جسدٌ) و(روحٌ) وهو (عقلٌ) و(عاطفةٌ)، وهو (ذاتيٌّ) و(غيريٌّ)، وهو ميّال إلى الخير، ومنجذبٌ إلى الشرّ، إذا شُجِّع على الأوّل، ورُغِّب بالثاني، ولم يحكم عقله في الخيارات المطروحة عليه، هو (حيوان) إذا تجاهل أو أهمل مزاياه الرَّبّانية، وهو (ملائكيّ) يتفوَّق حتى على الملائكة في نُبله، وسجاياه، وعطاياه، وتخلُّقه بأخلاق الله؛ لكنّ هذه الإزدواجية التكوينية ليست حتمية إنسانية في معنى الإنتماء والفصل بين ولايتين: (ولاية الله) و(ولاية الشيطان)، يقول الحقّ سبحانه: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ (الأحزاب/ 4)، ويقول جلّ جلاله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (الأنفال/ 24).. هو قادرٌ – بوعيه الرشيد – على حسم أمره وخياره وقراره.
الإنسان مركب ازدواجيّ، أو ثنائيّ التركيب البيولوجي والنفسيّ؛ لكنّه في موقفه من المبادئ والعقائد والأفكار، ليس له ولاءان، وليس له انتماءان، وليس له انحيازان، بل حتى (المنافقُ)، وإن بدا في الظاهر ازدواجياً؛ لكنّه في حقيقة واقعه وفكره قد فصل موقفه بين مبدأين (صالح) و(غير صالح)، منحازاً للثاني، وإن أظهر بعض التعاطفات الشكلية أو الصورية إزاء المبدأ الأوّل.
ثمّ أنّ ازدواجية التركيب الإنساني ذات مردودات إيجابية على شخصيته، لأنّها تلبِّي احتياجات الجسد، وأشواق الروح، وتعكسُ قوّةَ هذه على عزيمة ذاك، ليس هناك إثنينية كيانية، وإنّما هو كيانٌ واحدٌ كلٌّ متكامل، ومتداخل، ومتفاعل، ولكلّ شقٍّ، أو جانب تأثيره الإيجابي أو السلبيّ على الشقِّ الآخر.
3- الإنسان.. كائنٌ عاقلٌ:
والمراد بعقلانيته توازنه واعتداله وتفكُّره في الأُمور وتقليبها على وجوهها، هو ليس كالحصان الملجّمُ لا يرى إلّا أمامه فقط، بل ينظر في الزوايا كلّها، كما ينظر إلى الخلف أيضاً، وعقله أثمنُ ما أُودع فيه من مواهب، وفكره أفضل ما أنتجه من نتاجات.
هو ليس حيواناً لا عقلَ له، وليس مَلاكاً كلّه عقل وطُهر، هو بين هذا وذاك، فيه من الحيوانية شيء، ومن الملائكية شيء.. وبموجب اختياره وإرادته، يمكنهُ أن يتسافل إلى أحطّ من درجة الحيوانية، ويمكنه أن يتعالى إلى أعلى من درجة الملائكية: ﴿يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ (الإنشقاق/ 6).
نتاجُ العقل الإنساني، هو تراثٌ لكلّ الإنسانية، وكلُّ إنسانٍ مدعو إلى الإسهام – بمقدار ما أُوتي من مواهب وقدرات ووعي للأهداف والغايات – في رفد هذا النتاج، وتنميته وتطويره.
عقلي ثَروتي، وعقلي ميزاني، وعقلي دليلي، وعقلي آخر قلاعي وحصوني التي يُمكن أن تُهدَم أو تُهزَم، ولذلك فإنّ النبيّ 6 عندما نُقلت له صورة عن إنسان مُتديِّن ومُتعبِّد وملتزم بالفرائض، سأل الناقلين: كم هو عقله؟!
قد يكون للكائنات الأُخرى شيءٌ من عقل؛ لكن عقل الإنسان أوفر وأقوم، وعلى مقدار عقولنا سيكون حسابنا، الأمر الذي يستدعي أن نولي عقولنا اهتماماً أكبر.
وأن نحرص على أن تكون (الحاكمة) في (ولايتنا) الحياتية، والمتصرِّفة في شؤوننا الدنيوية والأُخروية، ولهذا يتكرَّرُ في القرآن الخطاب لأُولي الألباب (العقول الصحيحة).
وإذا كان الإنسان – كما تقدَّم – مُركَّباً من (عقل) و(عاطفة)، فإنّ عقله بحاجة إلى جُرعة من عاطفة ليتعطَّف، كما إن عاطفته بحاجة إلى جرعة من عقل لتتعقَّلنّ، ذلك أنّ العقل المجرَّد والمحض، مجموعة فلسفات، وحشود تنظيرات، وحزمة أفكار وقرارات؛ لكنّ المشاعر تُرطِّب ذلك كلّه، وتُنعشه، وتُحرِّكه، وتُسلِّيه.
بهذا، نكون قد وظَّفنا ازدواجية التركيب في المنفعة الذاتية (العامّة)، إلّا أنّ الاطمئنان الكلّي والثقة المطلقة بالعقل، توقع الإنسان في المزالق، مالم يعمد إلى روافد تموينية تُغذِّي العقل، وعواصم تعصمه من الغرور والشرور، سواء بالعلم أو بالدِّين، أو بالمشورة، ذلك أنّ عقلاً واحداً لا يكفي، وهذا هو السبب في بعث الأنبياء، وإرسال الرسالات، والدعوة إلى المشاورة ومشاركة الناس في عقولها، وفي المحصلة قُل لي كم هو عقلك، وكيف تُفكِّر، أقل لك مَن أنت.
4- الإنسان.. كائنٌ خَلّاق:
طاقاتُ الإنسان الإبداعية المُدَخَرَة والمودعة في صميم تصميمه وكيانه كثيرة، وكثيرة جدّاً، وقد يموتُ أكثرنا من غير أن يستثمر سوى عُشرها، يزيد أو يقلّ، وإلّا فإنّ الذين أبدعوا، واخترعوا، واكتشفوا، واجترحوا الابتكارات العلمية، والفكرية والأدبية، والفنّية، هم أُناسٌ أمثالنا، وهم بشرٌ من الكوكب الأرضيّ؛ لكنّهم أدركوا قيمة ما يملكون، ولديهم وعي توظيفي في إثراء الحياة وتطوير وتوسيع آفاقها: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة/ 105).
إنّ التقليديين من الناس، هم نُسخ بشرية مُكرَّرة، هم عالة على مجتمعاتهم وأوطانهم وعلى الحياة عموماً، هم (إجتراريون) (إلتقاطيون)، يستهلكون أكثر مما يُنتجون، ويستوردون أكثر مما يُصدِّرون، لم يقفوا يوماً ليسألوا أنفسهم، جئنا إلى الحياة وهي على درجة من السعة فكم أوسعنا في دوائرها، وآفاقها، وحقولها، وميادينها، وكان بإمكاننا ذلك.
موهبةُ الإبداع كامنةٌ في كلّ مولود إنسانيّ وهي بحاجة إلى (تحرير) و(تفعيل) و(تنشيط)، وما لم تجد المحَضَن، والمربِّي، والمُعلِّم، والمَعالِم التي تسترشدُ بها في طريق الاستثمار والتفجُّر، تضمدُ، وتخملُ، وتهزلُ وتصابُ بالعقم!
إنّ (المناجمَ) مستودعاتُ (الذخائر)، وما لم تُستخرج كنوزُها تبقى راقدة هناك!
سؤالي، وسؤالك، لابدّ أنّ الله تعالى جعلني (بصمة حياتية) مُتميِّزة، لستُ (كمّاً) إنسانياً، بل أنا إضافة إنسانية نوعية للحياة، فأين موهبة الإبداعِ في شخصيتي، وماذا يمكنني أن أضيف على ما وصل إليه البناء من لبنات، فما من إنسان يخلو من قدرة إبداعية – في أي مجال من مجالات الإبداع – ومَن لم يجد من يرعاه ويأخذ بيده، فعليه أن يأخذ بيد نفسه!
هذا ليس وعظاً، هذه تجربة حياتية لها مصاديقها وأمثلتها ونماذجها الكثيرة، فبعض المبدعين انحدروا من أُسرٍ خلوٍ من الإبداع، وبعضهم تعالى على بيئته ليُغرِّد خارج السرب، وبعضهم اختطَّ له طريقاً أو نهجاً غير السائد والمألوف في اختصاصه وحرفته ومهنته، وبعضهم عثر على موهبته الخلّاقة في وقت متأخر؛ لكنّه أحدث فتحاً في فنّه، وبعضهم التقى بمن عرَّفه بما لديه من مواهب، واستخرجه بحنكته، وحسن توجيهه، وهكذا: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ (النجم/ 39-40).
5- الإنسان.. كائنٌ جماليّ:
ليس في الكائنات مُتذوِّقٌ للجمال، مُدرِكٌ لأبعاده وتجلّياته، مُسهِمٌ في وضع لمساته عليه كالانسان، حتى الطيور التي تبتهج بالربيع، وحتى الأغصان التي تتراقصُ مع النسيم، والأغنام التي يروق لها صوتُ الناي، والحشائشُ التي تستحمُ في ندى الصباح، والقِرَدةُ التي ترقص على وقع الدفوف، ليس لها من تذوُّق الجمال إلّا نسبة ضئيلة، هي (أُحاديّة الذوق الجمالي)، فيما الإنسانُ (متعدِّد الذوق الجماليّ).
إنّ الإنسانَ – مخلوقُ الله الأكمل – ذَوّاقٌ، رفيع الذوق، يَتحسَّس الجمال، ويَتذوَّقه، ويَشمَّه، ويَتلمَّسه، ويشعر به ويكتبه شعراً، ويُصوِّره لوحات، بل لديه القدرة على قراءة الجمال الباطني الذي ينطوي عليه الجمال الظاهري، والجمال الأكبر من خلال الجمال الأصغر: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ (آل عمران/ 191).
وكلّ الفنون الجميلة التي ابتدعها الإنسان، وأبدع فيها، هي من رشحات حسّه الجمالي، وتذوُّقه العالي لكلّ مِسحة جمالية، ورفّة جمالية، ولمسةٍ جمالية، ونغمةٍ جمالية، مما يدعو إلى اغتنام فرص التمتُّع بالجمال للارتقاء بالحس المرهف، وإضفاء لمسات جمالية حتى على ما هو غير جميل أو ناقص الجمال، والاستمتاع بالألوان، والصور، والأصوات، والمناظر الخلّابة، بل توفير خزين جيد لقرائح الشعراء، وأدب الأُدباء، وإبداع الرَّسّامين، وفنّ الفنّانين، والأهمُّ من ذلك الاستدلال بـ(البرهان الجماليّ) على مُبدع الألوان كلّها، بجماليتها كلِّها!
ويكاد الجمال اليوم يدخلُ في كلّ مفصل من مفاصل حياتنا اليومية، وصناعاتنا الإنتاجية، وديكوراتنا، ومعارضنا، وزينتنا، ونظامنا، حتى إن (الحسّ الجماليّ) لم يعد ذوقاً أو فنّاً فقط، بل هو جزء من (البناء) و(الهندسة) و(التصميم) و(الإدارة) و(العلاقة)! فسبحان (الجميل) المحبّ للجمال، والمضفي منه على الحياة زينتها، والمُعلِّمُ الإنسان كيف يكون جميلاً في ذاته، ومفيضاً منه على حياته، وعلى الآخرين من حوله.
6- الإنسانُ.. كائنٌ بيانيّ:
منذُ بدء خلق الإنسان أشارت القدرة الرَّبانية إلى تعليمه (البيان): ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرَّحمن/ 1-4).. والبيان ليس مجرَّد اللغة، بل كلّ القدرات البيانية واللغوية والتعبيرية والإشارية، وما تعليمُ أبينا آدم (الأسماءُ كلّها) إلّا إشارة إلى أن هذا الكائن الرَّباني المتميز له قدرة على (التعبير) عن كلّ الموجودات المادية والمعنوية، المرئية وغير المرئية، تعبيراً كاشفاً عن مدى فهمه واستيعابه وإدراكه لها، وأنّه في لغة تخاطبه مع الآخر، يستخدم ألواناً من البيان النثريّ، والشعريّ، والخطابيّ، وبطرق وأساليب متعدِّدة (مُحنّنة) تارة، و(مُجنّنة) تارة. (راجع مستويات القول في المصحف الشريف لترى سُلّم تباينات البيان الإنساني).
هذه الموهبة ليست تعبيرية عن المكنونات فقط، هي (إبداعية أيضاً) في فنونها البلاغية، وصورها المدهشة، واستعاراتها الرائعة، وقدرتها على إيصال الرسائل بطرق شتّى، ونظرةٌ في الموروث الأدبيّ، والتراث الشعريّ، والمكتبة النثرية، والمؤلفات في النصوص البليغة وتكشف عن هذا الثراء (اللغويّ) و(الصوريّ) و(الإبداعيّ) الذي لا تكاد تحدّ مساحته (المعلّقاتُ) ولا (الدواوين) ولا (المجموعات الشعرية) ولا (الروايات الأدبية) ولا (التراجم والسير) الفنيّة.
وبعد هذا، لن نعجب إذا قلنا أو قيل لنا إنّ لكلّ كائن إنساني لغته وطريقته في التعبير، وإنّه بمقدور كلّ منّا أن تكون له أبجديتُه، وقاموسه اللغوي أو منهجه البلاغي، الذي يصوغُ به أفكاره، وصدق مَن قال إن (الرجل هو الأسلوب)، والرجال كناية عن كلا الجنسين صغاراً وكبار، في إشارة إلى الأساليب التعبيرية المتعدِّدة.
7- الإنسانُ.. كائنٌ (مُتعلِّمٌ) و(مُعلِّمٌ):
يمتاز الإنسان بقُدرته على (التعلُّم) و(التلقِّي) و(الانتفاع) من علوم وتعاليم غيره، والتدرُّج في مراقي ومراتب التعليم من (الابتدائي) إلى (العالي)، وعلى (التعليم) أيضاً، فهو يبدأ (مُتعلِّماً) ثمّ يغدو (مُعلِّماً)؛ لكنّه يبقى في جميع مراحل حياته (مُتعلِّماً) يطلب العلم على مدرجات الحياة (أكبر الجامعات على الإطلاق)!
وقدرةُ أو موهبةُ (التعلُّم) لا تنفع الإنسان في إضافة معلومات جديدة لما كان يعلمه سابقاً، بل هي (تنموية)كذلك، إذ بوسع الإنسان – كائنِ الله الأرفع – أن يتعلَّم بنفسه، بعدما احتاج في مراحله الأُولى إلى التعليم من لدن غيره، ومخطئٌ مَن يتصوَّر أنّ التعلُّم يجري أو يتمّ على مقاعد الدراسة وحسب، فقد يَتعلَّم الإنسان في مدارج الحياة أكثر مما يَتعلَّم في المعاهد والمدارس والحوزات، إن هو وضع نفسه تلميذاً طوال حياته، بمعنى أن يستزيد في تحصيل العلم على يدِ أيّ مُعلِّم كان، حتى ولو كان (مُعوِّقاً) ومن ذوي الاحتياجات الخاصة؛ لكنّه استطاع أن يُكيِّف الحياة ويُطوِّعها وفقاً لعوقه أو عاهته! أي إنّه تمكّن أن يتعالى على ضعفه ونقصه، ويحوِّل من (عاهته) سبباً لرقية الإنسان، والأمثلة كثيرة.
(مُعلِّمونا) إذن، كثيرون، ليس في عالم الإنسان وحسب، بل في جميع العوالم الطبيعية والفيزيائية، والكيمياوية والرياضية، فالنباتات تُعلِّمنا، كما الحيوانات تُعلِّمنا دروساً، قد لا نجدها في كتاب ولا نعثر عليها في مكتبة.. وعلى ذلك، فالإنسان مشروعُ تعلُّم دائم: «اطلب العلم من المهدِ إلى اللحد»[1]! والعلم ضالّة الإنسان أينما وجده أخذه ولو في (الصين)، ولو في (مجمع البحرين) حيث طوى موسى (ع) المسافات الطويلة ليتعلَّم على يديّ الخضر 7: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه/ 114).
ومن مواهب – كائن الله الأرقى – إنّه يستطيع الجمع بين الإثنين، فهو في الوقت الذي يَتعلَّم ويطلب العلم، يستطيع أن يُعلِّمه وينفع بعلمه، لا بأن يُصبح مُعلِّماً أو مُدرِّساً في معهد تعليمي، بل إنّ الوالدين مُعلِّمان ومُربِّيان، والأصدقاءُ الفُضلاء الأخيارُ مُعلِّمون، وصاحب العمل ذوالخبرة والتجربة الذي أعمل لديه مُعلِّم، والناصحُ المُشفق الذي يُشيرُ عليَّ بمشورة صالحة مُعلِّم، وسِيَر وتجارب الشعوب والأُمم والشخصيات الصالحة المصلحة – وإن لم أُعاصرها – مُعلِّمون، والكتبُ والمؤلَّفات مُعلِّمون، وهكذا.
المهم أنّ هذا الإنسان الذي أُوتي هذه القدرة المزدوجة، يُفترض به أن يكون أو يعد نفسه لأحد إثنين: عالماً رَبّانياً، أو مُتعلِّماً على سبيل النجاة، وفي كلاهما نفعٌ وخيرٌ ومصلحة.
8- الإنسانُ.. كائنٌ اجتماعيّ:
اجتماعية الإنسان، بصفته مخلوقاً يحيا ضمن جماعات، ومجتمعات وشعوب وقبائل، تعني إنّه كائن (فاعلٌ) و(مُتفاعلٌ)، يأخذ ويُعطي، يَتعلَّم ويُعلِّم، وينمو ويُنمِّي، ويتواصل ويتعارف، ويتعاون ويتبادل، ويسعى في إعمار الأرض مع سائر البنّائين.
(فاعلٌ) لجهةٍ ما، بقدر ما يُقدِّم لأبناء مجتمعه من خيرات مواهبه، ومن مساعيه لتطوير حياتهم، وإنمائها، وإثرائها، وإصلاحها، وتحريرها من كلّ ما يفسدها أو يسيء إليها، لا بمجهود فرديّ أو شخصيّ فقط، بل من خلال عمله مع المجموع، أو الفريق، أو المنظمة، أو المؤسسة: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (الإسراء/ 84)، و(متفاعلٌ) لجهة أنّ الحياة تُعلِّم الإنسان أنّه يستقبلُ ويُرسلُ، ويَخدمُ ويُخدَم، و(يُحسِن) و(يُحسَن إليه).
بهاتين الميزتين المجتمعتين: (الفاعلية) و(التفاعلية) يكونُ الإنسان إنساناً مكتمل الإنسانية، وقد تتفاعل الحيوانات في محيط مجتمعها الصغير بما آتاها الله تعالى من موهبة التعاطف الحيواني؛ لكنّها لا تستطيع أن تتمدَّد في تفاعلاتها مع سائر الحيوانات أو باقي الكائنات.. أمّا الإنسان – مخلوقُ الله الأكبر – ، فهو على درجة عالية من الحسّ المجتمعيّ، حتى إنّه قادر على أن يتعاطف مع إنسان آخر في أقصى الأرض، وتلك هي ميزة (التعارف) القرآني الدالّة على الفاعلية والتفاعلية في الأخذ والعطاء: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/ 13).
موهبة الكينونة الاجتماعية، أو المجتمعية التي يمتاز بها الإنسان، تدعوه إلى أن لا يكون إنطوائياً، منعزلاً أو معتزلاً محيطه وشعبه وأهله وأبناء عمومته من الآدميين، بل يتعاطى مع إخوته في الإنسانية، فيفرح لفرحهم، ويتألم لآلامهم، ويُساعدهم بقدر ما يستطيع، ويُحسن إليهم بما يتاحُ له من قابليته على الإحسان، يقول الشاعر:
إذا كانَ أصلي من تُرابٍ*******فكلّها بلادي، وكلُّ العالمين أقاربي
بهذه الروحية الإنسانية يعمر الكون، لا بالطوب والطابوق والإسمنت والترسانات الحديدية، هذه (ملاجئ) و(ملاذات).. أمّا (بيتُ الإنسانية) فأُسرته كلّ الناس، وهو بيت من السعة بحيث يسع الجميع بلا استثناء، ولولا (الاحتكار) و(الاستئثار)، لما كانت هناك شكوى من أزمة سكنيّة في بيت الإنسانية!
9- الإنسانُ.. كائنٌ غيريّ:
على الرغم من أنانيته المُفرطة، فإنّ الإنسان إذا ما هذَّبت الأديانُ والشرائعُ والأخلاقُ المتعارف عليها، طباعهُ، غدا كائناً غيريّاً، مُحسِناً، يُفكِّر بالآخر، ويُسعفه ويتعارف معه، ويشارطه آلامه وأحزانه وآماله وتطلُّعاته، ويقف معه في المصائب والمحن وفي البناء والإعمار.
غيريّة الإنسان، نزوعٌ إنساني وفطري للإحسان؛ لكنّه (قوّة) مودعة في أصل تركيبة النفس، وتحتاج للخروج إلى (الفعل)، أو التفعيل، جهداً خاصّاً، تربوياً، وتثقيفياً، وإرشادياً، وعلمياً، ينقلُ الإنسان من درجة الذاتية (الأنانية) إلى درجة (الغيريّة) القصدية، ليس نقلاً كلّياً تامّاً، وإنّما هو انتقالٌ تدريجيّ، إذ على قدر ما يتعلَّم الإنسان من قيم ومعارف وخبرات، يمكنه أن ينتقل إلى صفة (الإنسان المُحسِن) أو (الإنسان المُشاطر) أو (الإنسان الأليف) أو (الإنسان المُعاشِر) أو (الإنسان المتكافل) مع غيره من (السائلين) و(المحرومين) لما لهم في ذمّته من حقوق عليهم.
إنّنا – في هذا الكتاب – نتحدَّث عن (المُمكِن) لا عن (السائد)، أي عن إمكانية تسخير قوى النفس الخيِّرة في إعمار الحياة الجميلة، ذلك أنّ الإنسان أشبه بالمنجَم، فيه (معادنُ) الفضيلة والعطاء والإبداع، وحتى تظهر كنوزه المنجمية إلى العلن، لابدّ من شرطين: إمّا أن يعمل غيرهُ على الدلالة على مكامن الخير فيه، وأن يسعى هو نفسه على استخراجها وتسخيرها في إثراء الحياة وتوسعتها وإصلاحها.
10- الإنسانُ.. كائنٌ أخلاقيّ:
الأخلاقية الإنسانية ليست مصفوفة من القيم والفضائل المنعزلة عن كيانية الإنسان، أو هي جزءٌ منها، بل إنّ (الأخلاق) هي مَعَلمُ الإنسانية الأكبر، وما من نبي بُعث إلى الناس إلّا وهو يحمل رسالة الأخلاق في العقيدة والشريعة وضوابط السلوك العام.
ووصف الإنسان بالأخلاقيّ ليس تجوُّزاً، هو بالفعل وبالفطرة كذلك، وإذا كنّا نتحدَّث عن (الحُسن العقلي) و(القُبح العقلي)، فإنّ الإنسان بما أتاه الله تعالى من قدرات الفرز والغربلة، قادرٌ على استحسان الحُسن واستقباح القبح حتى من غير رسالات سماوية.
نعم، الرسائل السماوية تلعب دور (المُرشد) و(المُوجِّه) و(الدليل) و(الصاقل) و(المُجلي) و(الهادي) إلى مواطن الأخلاق، ومساحاته، وآفاقها، ودور (الموصّل) للقيم الحيّة؛ لكنّ (الأخلاق) بما هي منظومة كلِّية متكاملة الإعداد وتأهيل (الإنسان الرشيد)، تبقى معلقة في الفضاء من غير أُناس يعشقوها، ويعتنقوها، ويتعاطوا بها في مسارب حياتهم.
إنّ الذي يُخلِّد الإنسان ليس أعماله المجيدة فقط، وإبداعاته الفريدة فقط، بل مواقفه الأخلاقية المشرَّفة أيضاً، والذين حملوا العلم مجرَّداً من الأخلاق أساءوا أكثر مما أحسنوا، والذين تمتَّعوا بالأخلاق مقرونة بالعلم أعطوا أكثر مما أخذوا، وتبقى معيارية الإنسان الأُولى أخلاقياته، مهما حاز على أوسمة تشريف أخرى، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم/ 4).
11- الإنسان.. كائنٌ دينيّ:
بقطع النظر عن أي هُوية دينية، فإنّ نزعة الإنسان الدينية، وشغفه في البحث عن أجوبة لأسئلة العقل المتعَلقة بالوجود، والفيض، والوفرة، والرحمة، والعدل، والنظام، والحكمة، وتطلُّعه إلى حياة أبقى وأنقى وأكمل من هذه الحياة الدنيوية التي يمضي فيها شطراً من عمره (لأنّ عمره يمتدّ إلى ما بعد هذه الحياة) إلى حيث ينشد الخلود في عالم أُخرويّ هو ضالّة كلّ إنسان يؤمن أنّ الخلق البشري لابدّ له يوماً من معاد، يرجع فيه إلى أحضان الرحمة المطلقة: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة/ 138).
وصادقٌ مَن قال إنّ الدِّين حاجة أساسية، لو لم يجده الإنسان في كتب الله وعلى يدي رُسُله، لكان اخترعه، بل إنّك تجد حتى غير المتدينين أو غير المؤمنين، يحملون من أشواق الروح ما يكابرون في تجاهل وصفه ديناً، وهو نزعة أصيلة في وجدان وضمير وعقل كلّ إنسان حُرّ، يبحثُ ويطرح أسئلته ويعثر على إجابات مُقنعة وشافية فيها.
والذين حصروا الدِّين في المسجد، وحصروا الإنسان المتديِّن بالقائم من الفرائض، كانوا قد قلَّصوا – إلى درجة مخيفة – مساحة الدِّين في حياة الإنسان، بل حبسوه أُطر ضيِّقة، وممارسات شكليّة، في حين أنّ رسالة الدِّين في الحياة هي تنظيم نشاطاتها وفق منهاج ربّاني متكامل، يرفع الإنسان من مستوى الحيوانية (البهيمية) إلى درجة الارتقاء بإنسانيته إلى مصاف الملائكة وأرقى.
وفرقٌ بين (الدِّين) الذي هو عند الله الإسلام، وبين القراءات الدينية المتعدِّدة، فتلك هي (الشرعيّة)، وهذه هي (المشروعيّة)، فمن حقّ كلّ إنسان عاقل حُرّ ومُفكِّر أن يقرأ الدِّين قراءة واعية، مُتفحِّصة، مُتعدِّدة، وضمن شروط وضوابط معيَّنة؛ لكن أصالة الدِّين تبقى هي الأساس، فما من مجتمع في تاريخ البشرية إلّا ودان بدين ما، وضعياً كان أم سماوياً، وستبقى سفينة البشرية في تلاطم الأمواج، مُتطلِّعة إلى (منار) ترسو عنده، طال الزمن أم قصر.
وكينونة الإنسان الدينية إلى التطلُّع إلى المثل الأعلى، والانشداد إليه، وحبّه، والتخلُّق بأخلاقه، هي التي تحفظ إنسانية الإنسان، وأخلاقية الإنسان، ومواقف الإنسان، وتُرشِّد سيره في شوارع ودروب وزوايا الحياة، وتقيه من الحوادث المؤسفة: ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الرُّوم/ 30).
ومن هذا المنطلق، فإنّ كون الإنسان كائناً دينياً يُملي عليه جملة من الالتزامات إزاء الحياة، إنْ في إنقاذها من القبائح والسفاسف والترهات والتشوُّهات والتمزُّقات، وإنْ في رفدها بأمصال العافية الفكرية والإنتاجية والإبداعية والإثرائية.
ولو تداعى الإنسان ابن الدِّين (الإنسانية) إلى العمل بشعار القرآن (تعالوا إلى كلمة سواء) لكانت الحياة غير الحياة، ومازال الشعارُ مطروحاً وقادراً على تثمير الفرص في إيجاد جوّ دينيّ متسامح، ومتعاون، ومتعارف (بكل معاني التعارف، والتقارب، والتكافل، والترافد، والتعاضد)، بل الإنسانية في سيرورتها الطويلة متجهةٌ بكلّها إليه.
ويبقى الحنين إلى (المثل الأعلى)، والتعلُّق بالمطلق، والحاجة إلى (المَدد)، والارتباط بالوفرة الفيّاضة، نزوعاً (فطرياً) مركوزاً في فطرة كلّ إنسان – مهما اقترب أو ابتعد عن الدِّين – وهذا هو فحوى الدِّين الذي لا تجد إنسانية الإنسان ملاذها وخلاصها وسعادتها، ولن تلقى بديلاً أصلح منها مهما سعت سعيها وناصبت جهدها.
12- الإنسانُ.. كائنٌ (تحليليّ) (تركيبيّ):
ليس بين الكائنات كائنٌ مُفكِّر وقادر على أن (يُحلِّل) ويُرجع الأسباب إلى مسبباتها، وإلى الاستنتاجات المنطقية، والرؤى المستقبلية، وعلى أن (يرُكِّب) أيضاً، من المتناظرات، والمتقابلات، تصورات جديدة يُثرى بها مجال عمله أو اختصاصه.
بهذا التلازم بين تحليل الإنسان المركبات إلى موادها الإنشائية الأُولى، أو عناصرها الأوّلية، وبين الموائمة بين هذه العناصر لتركيبها وفق صيغ وهيئات وبرامج متنوعة، تكمن واحدة من كبريات مهام الإنسان ومواهبه.
إنّ علوم العلماء ونتاج العباقرة، وإنجازات المبدعين تتوقَّف في أحد أسرارها على مدى توظيف قُدرتي (التحليل) و(التركيب)، وهي ليست حكراً عليهم، ولولا القراءات المتعدِّدة، والتفسيرات الكثيرة، والنظرات المختلفة التي تحلِّل وتركِّب، لما كانت مكتبةُ الإنسان بهذا الثراء والسعة العامرين، ولما وصل الإنسان بإيمانه وعلمه إلى هذا المستوى من الخلّاقية المُذهلة. (راجع طريقة استدلال إبراهيم 7 على وحدانية في نظرته إلى الكواكب والنجوم، وفي استدلال مؤمن آل فرعون على سلامة دين موسى 7، وفي استدلال مؤمن آل ياسين (حبيب النجّار) على سلامة ونزاهة دعوة الأنبياء إلى وحدانية الله تعالى).
13- الإنسان.. كائنٌ (سَؤول):
والسؤوُل كثيرُ الأسئلة، ولا يُعاب على الإنسان فضوله، وتطلُّعه إلى الماوراء، بل إن أسئلته الكثيرة والصعبة غالباً ما تقوده إلى الهداية إلى شيء من الحقيقة، وأحياناً إلى الحقيقة خاصّة في مسار البحث عن الخَلق والخالقية: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (النمل/ 62).
أسئلة الإنسان مفاتيحٌ يفتح بها كنوز المعرفة، ويستخرج بها مكنونات العلم ويوم يبقى الإنسان بلا أسئلة أو تنفدُ أسئلته، ينتهي كإنسان، وينضب كعاقل، ويتحجِّر كمُفكِّر، وكمُبدع.
أمثلةُ القادة الذين قادوا أُممهم إلى الحرِّيّة، وأسئلة الرياديين، والمصلحين، والتابعين لهم بإحسان لم تتوقف عند حدّ، هي إحدى ملازمات الإنسان كظلّه، وكلّما امتلات جعبة الإنسان بالأسئلة، وراح يُنقِّب ويُفتِّش عن أجوبتها، استطاع أن يصل إلى مراتب عُليا في إنسانيته، الأسئلةُ هي التي تفتح بوابات العلم والثقافة والرقيّ وبلوغ الحقائق.
إنّ خطاب القرآن للنبيّ (ص) بقوله (يسألونك) إشارة واضحة ومهمّة إلى قيمة الأسئلة في حياتنا، وفي نموّها، وفي تطوُّرنا وترقّينا، وفي تغيير مناهجنا الرتيبة التي لم تعد صالحة لزماننا، ذلك أنّ دور الأسئلة هو تحريك الواقع الراكد، وإحداث حراك عقليّ، وفكريّ، وإبداعيّ، وتغييريّ، أو إصلاحيّ، يجعل عملية الحياة دائرة بإنسيابية، وإلّا أصلبت حياتنا – من غير أسئلة جادّة وملحّة – كعجلة عربة عجوز غير مُزيَّتة، لا تكتفي بإصدار أصوات مزعجة، بل إنّها تدور بصعوبة بالغة، وقد (تحزنُ) فلا تقوى على نقل صاحبها إلى المكان الذي يُريدُ صَدَمات الأسئلة المُقلِقة، ووخزات الأسئلة المربِكة، والكبيرة، بل والمشكِّكة أيضاً، موجعة وأليمة؛ لكنّها كوخزات حُقن الأطباء تحملُ في داخلها الدواء والعافية، ومن جميل هذه الموهبة وبركتها، إنّها دائمة لا تتوقَّف، وأنّها تُطرح في كلّ عصرٍ بما يناسبه.
والكتاب الذي بين يديك، يحملُ دعوة صادقة لطرح مزيد من الأسئلة حتى على بعض ما تمّت الإجابة عنه سابقاً، فقد تكون إجابات الماضيين بحسب قدراتهم الإستيعابية والإدراكية والمتاح من أدوات المعرفة، وجزاهم الله خيراً، على ما نفعوا به من مراجعات ومعالجات وأجوبة؛ لكن ذلك لا يمنع من إعادة مسائلة (التاريخ) و(العلائق) و(البرامج) و(الأنظمة) و(الخُطط) والمستقبليات أيضاً! وكم لاحظنا، وقرأنا، وتداولنا أفكاراً معاصرة ناقشت ونقدت المتقدِّم وخرجت بأجوبة أكثر عُمقاً، وأدسم علماً، وأنفع واقعاً.
14- الإنسانُ.. كائنٌ مستقبليّ:
الكائناتُ الأوخز – سوى الإنسان – وقتية، وراهنة، ومُؤطَّرة زمانياً باللحظة التي تعيشها، لا تستطيع التكهُّن ولا التوقُّع ولا التنبُّؤ بما سيقع بعد تلك اللحظة.
الإنسانُ وحَدَه القادر على استشراف مستقبله، واستشعار أيّامه القادمة، ولو على نحو التخمين، والتوقُّعات، والربط بين النتائج والمقدَّمات، وبالتالي، فالإنسان كائنٌ استشرافيّ، وتنبُّؤيّ، يهتم بمستقبله اهتمامه بحاضره، بل إنّه كلّما ارتقى وعيه الإيمانيّ، أدرك أن مستقبله رهنٌ بحاضره، وأنّه أدوم من ساعات وأيام وشهور عمره، فهو يتطلَّع إلى مستقبل الخلود مما هو متاحٌ له بحسب عقيدته الدنيوية والعقلية.
ومستقبلية الإنسان – كموهبة أوتيها – تعني أيضاً أنّه كائنٌ (مُخطَّط)، وإلّا فهو لا ينظر إلى المستقبل نظرات التفاؤل المجرَّد، وإنّما يرسمُ أو يُشكِّل مستقبله على واقع راهنه، وعلى ضوء ما يُمكِّنه منه (طُموحهُ) و(تطلُّعاته) و(آماله) و(جهاده) المستثمر.. ومن هنا ارتباط كونه إنساناً مؤملاً وإنساناً مستقبلياً، فقد يعيش اختناقات الحاضر؛ لكنّه – بما لديه من قدرة استشرافية – يرى في التحدّيات المعاصرة (رافعات) إلى حيث يصبو ولو بعد حين، هو إنسان (النظرة إلى الأمام)، إذ حتى نظراته إلى الخلف، المرادُ منها تقدُّمه إلى الأمام، لأنّه يوازن بين (خُطاه) وبين (خطّ سيره)، ويحرص على الاستقامة على (الطريق) و(الطريقة) الرشيدة، ولو لم يعلم الفلاح أنّ (الحصاد) غداً سيكون وفيراً (يُعادل) أو (يفوق) أتعابه، فلن تجد فلّاحاً يُتعبُ نفسه في الحراثة والزراعة والحصاد! وهذا هو نفسه مُحرِّك ومُحرِّض الإنسان في عمله وسعيه وكدحه من أجل مستقبله الأخرويّ في نظرته إلى (المعاد)!
الإنسانُ إذن كالفلّاح، مستقبليّ، يرنو نحو زمن أو موسم الحصاد، وكلّما بذل من جهود مضنية في فترة ما قبل (الموسم)، استطاع أن يتوقَّع مردودات، ومدخلات موسمه، ولو على نحو الإجمال، إذ لا يغفل، وهو (يزرعُ) لمستقبله، ما قد يحيق به أو بمزرعته، لذلك فهو إنسانٌ (عامل) للمستقبل، ومتوكِّلٌ على الله بأن يأخذ بيده إلى خير ذلك المستقبل، ولذلك أيضاً تراه يدعو: «أللهم اجعل غدي وما بعده أفضل من ساعتي ويومي».
إنّ إدخالَ (المستقبل) في حساباتنا، ليس مسألة ترفيّة، هو في صميم اهتماماتنا، لأنّ من طبيعة الإنسان ورغبته الملحّة أن يكون (غده) أفضل من ساعته ويومه، وأن ترسو سفينته على برّ الأمان بعد رحلتها الحياتية العاصفة، وأن تكون داره الثانية والأخيرة محطّة الاستقرار ومنزل الراحة الأبدية، والإقامة الدائمة والخلود الذي لا يبيد.
15- الإنسان.. كائنٌ معنويٌّ (روحيّ):
منذ أن أودعت (نفخةَ الروح) في الجسد الطينيّ، والإنسانُ يحاولُ أن يصنع آدميته وفق مقامات الروح لا من خلال حدودِ الجسد، وإذا كان الجسدُ مؤطراً بإطار صارم، فإنّ مساحة الروح هي الكون كلّه، وإذا كان الجسدُ مثقلاً، مشدوداً إلى جاذبية الأرض يركن أو يخلد إليها، فإنّ أجنحة الروح تأبى إلّا أن تُحلِّق في الأعالي، وفي أجواء الصحو والشروق، وفي الفضاءات النقيّة.
الإنسانُ روحانيٌّ بما وهبه الله تعالى من قدرات الانطلاق من قفص الجسد، ومن أسوار الطبيعة الحيوانية، هو إنسانٌ بقدر ما هو روحانيّ، وهو إنسان بقدر ما هو (معراجيّ) يتسامى عروجاً في الآفاق العليا، وروحانيته لا تعني علاقته العبادية مع الله تعالى فقط، بل تعني أنّها ترفلُ في معاني المعنوية، والأخلاقية، والمروءة، والإحسان، والعلم، والإنصاف: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ (التحريم/ 11).
وكلّما ارتقى في مدارج العلم، أصبح إنساناً أكثر، وكلّما تحلّى بالأخلاق الحميدة أكثر، ازدادت روحانيته عمقاً، وكلّما جاهد نفسه جهاداً كبيراً، تجوهرت روحه لتطبع شخصيته بألق نورها الوَضّاح: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ (الأنفال/ 29).
والإنسانُ (كائنٌ غيبيٌ) أيضاً، لا يحبسُ نفسه في عالم الشهود والمادّة والاضمحلال، والانقراض، وإنّما هو متصلٌ اتصالاً حميماً بقوى الغيب يستمدّها العزم، ويستلهما الصبر، ويستنجد بها في الثبات، ويستقوي بها على الضعف ويستمطرها الرحمة في كلّ آنٍ ومكان.
وإذا كان الإنسانُ قد خُلقَ لعالمٍ آخر، عالم البقاء الأبديّ، والصفاء الدائم، والنعيم المقيم، فإنّ ما يليق به للعيش هناك بسلام، وبلا مُعكِّرات صفو، ولا مُنكِّدات عيش، هو أن يهب روحه طاقاتها الكامنة الكاملة في استحصال ما لا يحصل بكد يده، وسعي رجل، وحركة ونشاط بَدن، وغرور وتبجيح عقل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت/ 69).
الذين وَسَّعوا آفاق الحياة كانوا روحانيين قبل كلّ شيء، وأخلاقيين قبل كلّ شيء، وإنسانيين قبل كلّ شيء: «عظم الخالقُ في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم»[2].
16- الإنسانُ.. كائنٌ هادف:
الهدفية في حياة الإنسان قيمة عُليا، فهو لا يتحرَّك في الحياة حركة إلّا بهدف، سواء أكان الهدفُ رحمانياً أم شيطانياً، صغيراً أم كبيراً، وهو في سفره الحياتيّ، كمن يقصدُ جهةً ما، لابدّ من أن يُحدِّدها قبل الانطلاق، وإلّا فلا يضربُ الإنسانُ العاقلُ قدميه في الأرض سدى أو خبط عشواء كأعمى يرتطم بكلّ شيء.
والهدفُ رحمة الحركة، وعلى مقدار وحجم الهدف المتعين، تنشطُ الحركة أو تقتر، ويزداد السعيُ أو يقصر، وما من إنسان على وجه الأرض إلّا ولديه أهداف يريدُ تحقيقها أو الوصول إليها، وهذا ما يهب الحياة حيويتها ويفاعتها وعنفوانها، إذ لولا الأهداف التي نطمح بلوغها، لكّنا مجموعة من (مشلولي الإرادة) ومن (المُقعدين) ومن المصابين بالكُساح الذي يعني فقدان العزم وجمود الحركة.
والأهداف الدنيوية على أهميتها، وعلى الرغم من رسمها ورصدها من قبلنا كبشر، تبقى في إطار المحدود الذي تنتهي قوّة العزيمة ببلوغه.. أمّا عندما يكون الهدف الإنساني هو (الله)، أي السعي الدؤوب للوصول إلى رضوانه، ورضوانه درجات ومقامات ومراتب، فإنّ (المُقعِدات) عن العمل، والمصيبات الإرادة بالشلل، تتوارى في احتدام السباق نحو أوسمة الشرف الكبرى.
كلّنا في هذه الدُّنيا (عدّاءون)، نركضُ، أو نمشي، أو نسعى حثيثاً نحو أهدافنا، ولذلك كان الإنسان كائناً (غائياً).. له أهداف وغايات ومقاصد ذاتية، على خلاف الكائنات الأُخرى التي لها غايات تكوينية، وأهداف مرسومة ومعدّة سلفاً.. الإنسانُ وحده مَن (يضع هدفاً) ويرسم خطّة وخارطة للوصول إليه، ويتوفَّر على أدواته التي تمكنه منه.
والإنسانُ في قصّته مع (الهدف) كقصّة طيور (فريدالدين العطّار) في رحلة الثلاثين طيراً، حيث وهبت جموعُ الطيور للإنطلاق في الرحلة بحثاً عن الحقّ والحقيقة؛ لكنّ التي واصلت السعي والتحليق نحو الهدف، لم تكن سوى ثلاثين طيراً، والعدد رمزٌ (للقلّة) الصادقة، المخلصة، وإلّا فحتى الذين لا يؤمنون بالله سائرون نحو هدفٍ عام مشترك، وإن تعارضت مسارات حياتهم: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق/ 6).
17- الإنسان.. كائنٌ يقرأ (قارئٌ):
القراءةُ، أوّل دعوة قرآنية نزلت على النبيّ 6 (إقرأ)، وهي قرينة الكتابة، إذ لا قراءة بدون كتابة، ولذلك جاء التلازم بينهما في سورة (العَلَق): ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾ (العَلَق/ 3-4).
والإنسان بصفته كائناً عاقلاً ومُفكِّراً، يحتاج إلى القراءة في الكتابين: المخطوط أو المسطور، والمربيّ أو المنظور.. ولولا الكتب والرسالات لضاعت قيم كثيرة حفظتها الكتبُ من الضياع والاندثار، ولما تطوَّر العلم والمعرفة واتّسعا بهذا المستوى من الازدهار.
ومن هنا، فإنّ أُمّيّة الإنسان ليست في عدم قراءته وكتابته فقط، بل بعدم متابعته واطّلاعه لما يُكتب ويُنشر، وإطلاعه على أُمّهات الكتب والأفكار والآراء، ونقده أو موافقته لها، وزيادته هو عليها إن أمكنه ذلك، حيث إنّ التوقف على أبجديات اللغة، أو على المعارف الأوّلية يُشبه عملية توقف النموّ عند الطفل تزدادُ سنوات عمره، ويبدو في عقل صغير!
وسواء أكانت القراءة في الكتاب – أي كتاب – أو في المودعات من كتب وسائل التقنية الحديثة، أو في كلّ ما يصدر هنا وهناك، فإنّها تضيفُ عقولاً إلى عقولنا، ونوراً إلى بصائرنا، وثقافة إلى حياتنا، ووعياً إلى وعينا، وثراءً إلى ثرائنا.
الحاجةُ إلى القراءة بالنسبة لكائنٍ اختصّه الله تعالى بالقراءة والكتابة (حاجة أساسية) وليست ترفيّة، فحتى الذين لم يتعلَّموا القراءة والكتابة من الأُمّيين يحتاجون إلى مَن يقرأ أو يكتب لهم، وبعضُ العميان ممن دأبوا على حبّ القراءة والشغف بها، يُكلِّفون أُناساً يقومون بالقراءة نيابة عنهم ويُسمعونهم ما في الكتب من ثروات العلوم والمعارف والثقافات والآداب والفنون، أو يتعلَّمون طريقة اللمس لقراءة ما يمكن قراءته.
وقد يحفظ الإنسانُ بعض ما يتعلَّمه؛ لكنّ (المحفوظات) الذهنية لا يُعتَمدُ عليها كثيراً، إذ قد تضعف، أو تُنسى، أو تذهب مختلطة مع ما سواها.. أمّا الكتابة والتدوين، فإنّهما أحفظ للعلم والمعرفة والتجارب، ومن جمع الكتب في مكتبته ليقرأها ويتنفع بها، كمن تَعرَّف على عدد من العلماء، يجالسهم، ويؤنسونه ويسامرونه في وحدته، ويثرون عقله وعلمه ولغته، ويجدُ فيهم النصيحة، والإخلاص، والهداية إلى ما فيه خيره، وصلاحه.
ولن يأتي على الإنسان زمانٌ لا يشعرُ فيه بالحاجة إلى القراءة، مهما تعدَّدت أساليب النشر، وعروض الكتب والمنافسات من أجهزة التثقيف العام، ولذلك عُدّ الإنسانُ كائنَ القراءة بامتياز، وبقدر استثماره لهذه الموهبة يزدادُ أعماراً إلى عُمره!
18- الإنسانُ.. كائنٌ مكتَشِف:
الفضولية عند الإنسان، وحبُّ الاستطلاع، والبحث، والتنقيب، حالة إيجابية، بل هي موهبة إلهية؛ لكنّنا لا نتحدَّث عن (الفضول) بمعنى التفتيش عمّا لا فائدةَ فيه أو (التطفُّل) والسعي إلى التدخُّل في ما لا يعني، بل حديثنا عن (الاطلاع) و(الاستطلاع) وموهبة الكشف عن الأسرار والدفائن والخبايا، وقد أحسن المكتشفون والمخترعون من بني البشر استخدامَ هذه الموهبة ليُتحفونا بكل ما هو جديد ونافع وواسع.
وكما أنّ مهّمة (الغَوّاص) الغوص في أعماق البحر للبحث عن (اللؤلؤ)، فإنّ الإنسانَ بصفة عامّة، غواصٌّ، يعمل على اكتشاف ما في الدواخل والبواطن والماوراء!
إنّ الكائنات الأُخرى سطحيّة، بمعنى إنّها تنظرُ إلى السطح ولا تنظر إلى ما دونه، أو ما بعده وما وراءه، ولذلك يمكن اعتبار الإنسان – من هذه الجهة – كائناً تاريخياً، يهتم بالتاريخ ويبحثُ في أروقته، ومناجمه عن كنوز المعرفة وثمرات التجارب، والدروس والعِبر.
والإنسان مكتشفٌ منذُ أن يولد، فهو يسعى للتعرُّف على مَن حوله، ثمّ يكسر الأشياء ليرى ما في داخله، ثمّ يطرح أسئلته المعرفية ليكتشف ماوراء المادّة، ثمّ وفي تطوُّر لاحق، قد يكتشف آراء جديدة، ورؤى مُبتكرة، وأساليب حديثة لم تكن قيد التداول والاستعمال، وتلك هي حيوية الحياة، بمقدار ما يُحرِّكُ فيها أبناؤها من طاقات.
ومازال المرءُ على قيد الحياة فهو دائب البحث عن الاكتشافات والاختراعات غير المسبوقة، ولن يأتي يوم نقول فيه لقد انتهت اكتشافات الإنسان وأغلق مراكز بحوثه ودراساته ومختبراته، إذ من طبيعة الإنسان – بصفته موهوباً ربّانياً – السعي لاكتشاف الجديد حتى ولو بحث عنه في (القمر) أو (المريخ)، أو مجاهل أفريقيا أو سيبريا! ولماذا نذهب بعيداً، فمازال الإنسان إلى الآن لم يكتشف أسرار ذاته وإمكاناته المدخرةِ بعدُ!
19- الإنسانُ.. كائنٌ مُعارِض:
ولأنّ الإنسان أكثر شيء جدلاً، يحبّ أن يُخالف، ويُشاكس، ويُعارض، ويتمرَّد ويُعاند، وهذا بعض أسرار حيويته، وتلويناته للحياة، إذ لو كان الإنسانُ (حيواناً أليفاً) أو داجناً مُدجناً، لكانت البشريةُ نسخاً مكررة أشبه بنسخ جهاز الاستنساخ، واحدة أصلية والباقي (طبق الأصل)!
إنّ اختلاف الناس – من هذا اللحاظ – رحمة، إذ إنّ تعدُّدية الأذواق والمشارب، والآراء والرؤى، والأفكار والاتجاهات، تمنحُ الحياة حركيتها، واستمراريتها، ونبضها المتدفِّق، وقد شاءت حكمةُ الله تعالى أن يفتح للإنسان باب معارضته كربّ وكخالق ومهيمن على الوجود كلّه، ولولا ذلك، لما كان في الناس مشركون، وكافرون، ومنافقون، وجاحدون.
والإنسان السويّ – ليس الذي يُعارض ويُناكف ويُخالف – لأجل المعارضة وحبّاً في المخالفة المجردة، وإنّما يُعارض عندما يرى أنّ ما هو مطروح أو سائد أو متعارف عليه، ليس بالمستوى اللّائق للطرح والسيادة والمعرفة، فيسعى، من خلال موهبة المعارضة إلى تقديم البدائل، والحلول المغايرة، والبرامج المختلفة، وربما السياسات الأُخرى أيضاً.
والإنسانُ المُعارِض، مرحَّبٌ به، في ميدان الحياة، لأنّه ينطلق من مفهوم التنافس الخيِّر، والاختلاف الشريف، ولأنّه يرفض (النمطية) و(الألفة الفكرية أو السياسية) ويبحث عن الجديد، وعن التجديد، وعن المستجد مما يراه الأصلح لزمانه ومكانه وإنسانه ﴿وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا﴾ (الكهف/ 45).
20- الإنسانُ.. كائنٌ مصلحيّ:
الإنسانُ كائنٌ (نفعيّ) يبحث عن المنفعة، ويتبعها، ويلاحقها أينما كانت، وحيثما وجدت مصلحته في شيء بذل كلَّ ما يستطيع من أجل الوصول إليه.
والمنفعة، قد تأخذ بُعداً سلبياً يعني الانتهازية، والأنانية، والاستئثار؛ لكنّها – في بُعدها الإيجابي – موهبة ربّانية، إذ إن استواء العقل ورجاحته وحصافته يفرضُ البحث عن المصلحة في ما ينفع، ويُجدي، ويبلغُ به المدى المامول، ولولا بحثه عن المصلحة ونشدانها، لما فَكَّر في ما يُصلحُ له دُنياه وآخرته.
الإنسان كائنٌ ناظرٌ في سلالم الأولويات، له أسبقيات، فقد تتقدَّمُ عنده مصلحة على مصلحة، ومنفعة على منفعة، وأولوية على أولوية تبعاً لما يحملُ من فكر وعقيدة، وثقافة ورجاحة وعي.
وهذا هو الذي يجعل الإنسان في تغيُّر دائم، قد يُغيِّر اختصاصه، ومجال عمله الحقليّ، ومكان سكناه، وأسلوب حياته وعلاقاته، نظراً لما يرى أنّه المصلحة، ومتى بات المعيارُ واضحاً لديه في الفرز بين مصلحة وأُخرى، كان أثبت الناس رأياً، وأقدر على حسم خياراته وقراراته.
إنّ الذين انتقلوا – في التاريخ – من معسكر إلى معسكر، ومن مدرسة إلى مدرسة، ومن تيار إلى آخر، ومن خط منهجي إلى خط مغاير، لم يكونوا مزاجيين مُتقلِّبين فقط، بل كان بعضهم أُناساً (مصلحيين) – بالمعنى الإيجابي للمصطلح – يُقدِّرون أنّ المصلحة في هذا لا في ذاك من خلال جردة حساب في الأرباح والخسائر، والإيجابيات والسلبيات، والمنافع والآثام، ولقد كانت إحدى أدوات الأنبياء في إنهاض أُممهم هو تذكيرهم بمصالحهم: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ (نوح/ 10-12).
21- الإنسانُ.. كائنٌ مُتغيِّر:
للدقّة والموضوعية، هو كائنٌ (مُغيِّر) و(مُتغيِّر)، يُغيِّر غيره، وأوضاعه – وعاداته، وأفكاره ومعتقداته، وعلاقاته – ويتغيَّر إلى الأفضل والأحسن، إذا وجد الفرص السانحة لتغيير طباعه ومألوفاته ومُسلِّماته التي تصوّر لبعض الوقت أنّها مُسلَّمات: (بلقيس ملكة سبأ، مثلٌ قرآنيٌ ساطع).
هو كائنٌ مستعدٌ (لإعادة النظر) و(المراجعة) و(المحاكمة) و(النقد) والمسائلة) والانتقال من حال إلى حال، وليس هناك مرحلة يتوقَّف فيها هذا المسعى الجاد حتى ولو بلغ الإنسانُ من العمر عتياً، إذ أثبتت الدراسات الخاصة بالشيخوخة أن ليس هناك سنّ (التخشُّب) أو (التحجُّر) أو التوقف عن النموّ المعرفيّ.
ولو لم تكن تلك صفة إنسانية متميزة، وموهبة بشرية تخدمُ الإنسان في الخروج من النمطيات التقليدية، وكسر الرواتب الرتيبة، لما رهن القرآن تغيير الله للإنسان بتغيير الإنسان لذاته: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرَّعد/ 11).
وليس في عوالم الكائنات الأُخرى تغيير، ولذلك كان (الأسلافُ) والأجدادُ يعيشون ما يعيشهُ (الأخلاف) والأحفاد منذ ملايين السنين، وحتى الآن، ما عدا الإنسان الذي غَيَّرَ حياته مراراً وتكراراً، ومازال يُغيِّر، وسيبقى يُغيِّر مادامت الحياة.
إنّها موهبة – كما أشرنا – تعملُ بإتجاهين: (تغيير من الخارج) يأتي نتيجة نهضة فكرية، و(تغيير من الداخل) ينبع من استشعارات الذات لضرورة التغيير نحو الأفضل، وهذا ما دعا الأكفاء من الناس إلى ترويض أنفسهم، ومجاهدتها، وبناء عصاميتها، وسيادتها، من خلال سلسلة تغييراتٌ سطحية وجذرية لا تنتهي إلّا بموت الإنسان. وبالتالي، فالتغيير يجعل من الإنسان كائناً (توّاباً)، (نادماً)، (أواباً)، (لوّاماً لنفسه) ولو كان تبريرياً يلقي معاذيره!
22- الإنسانُ.. كائنٌ خياليّ:
(خَيالُ) الإنسان، ظِلُّ عقله، ورفيقه في رحلة البحث عن الجديد والبعيد، وإذا كانت مساحة العقل ومسرحه واسعين، فإنّ أجنحة الخيال تحلِّق في الفضاءات العالية، وليس للخيال الجموح من حدود، ولقد تَبيَّن بالتجربة أنّ بعض خيالاتنا تحوَّلت إلى برامج ومشاريع وإبداعات.
(الخيالُ) هو أشبه بالخطّة على الورقة، أو الخريطة قبل البناء، رسمٌ تصوُّري عمّا ينبغي أو يفترض أن يكون، وقد يبقى الخيالُ مراوحاً في (أحلام يقظته)، وقد ينطلق مع العزم إلى تجسيدات عملية، وترجمات حركية لينتج ويُبدع ما لم يكن في الحسبان.
ليس الشعراءُ والأُدباء والفنّانون هم فقط مَن يحتاجون إلى الخيال كواحد من أدوات إبداعهم، بل كلّ إنسان بحاجة إلى خيال خصب ليُضفي على الحياة ألواناً أجمل وظلالاً أكثر لطفاً وحنّوا، ومساحات أرحب، وآفاقاً أوسع.
(المهندسُ) بحاجة إلى خيال الفنّان، والطبيبُ الجَراح بحاجة إلى خَيال المُبدع، والمعلِّم المربِّي يحتاج إلى خيال المنمِّي لمواهب تلاميذه، والمُصنِّع للأدوات والأجهزة لا يستغني عن خياله في إبداعات أكثر إدهاشاً.. وهكذا.
(الخيالُ) ليس رحلة سياحية مجانية في السطوح والتلال وعلى القمم العالية، هو أحد عوامل الدفع والتحريض العقلي، وتحدّيه لتحويل المثال الخيالي إلى نموذج مجسَّم أو مُنتَج إبداعي، وعلى الطريقة التي يراها مناسبة!
إنّ رؤيا يوسف (ع) كانت مناماً، خيالاً؛ لكنّه جهد بمسلسلِ إحسانه، على إحالة المنام الخيال أو الحلم إلى واقع.
23- الإنسانُ.. كائنٌ عاشق للخلود:
في بحثه الدائم عمّا (يبقى) ولا يزول، ويخلدُ ولا يُفنى، الإنسانُ لا يتركُ الحياة من غير أن يترك بصمته أو بصماته عليها، فهو جاد في حفر ذاكرة خاصة به، ومدوّنة إنسانية تُشيرُ إلى مروره في الطريق من هنا، في أي مجال من مجالات العمل والعلم والتعليم والإبداع.
إنّ الفنّان الذي يكتب في أسفل لوحته اسمه وتاريخ إبداعه، يُفكِّر بالخلود والشاعر الذي يذكر اسمه وتاريخ قصيدته، يريدُ أن يُخلِّد إبداعه، والصنائعيّ الذي ينقشُ على الخشب أو الحديد أو البرونز اسمه واسم شركته وتاريخ إنتاجه، يحملُ رغبته في بقاء آثاره لأطول فترة زمنية ممكنة، بل بعض البنّائين يحفرون أسماءَهم على بعض أحجار البيوت ويؤرِّخون لبنائهم، وفكرة (الحجر الأساس) مأخوذة منها، إذ يبقى هذا الحجر مُذكّر بإنجاز تاريخي قام به من وضع أُسس المشروع في زمانه!
وتبقى نزعة الخلود دافعة وملازمة للإنسان في ما يكتب ويؤلف ويعمل، انطلاقاً من وعي ثقافي أصيل أنّه سيموت وينقطع إلّا في ثلاث: ولد صالح يدعو له، وكتاب ينتفع الناسُ به، وصدقة جارية.
وما إيمان الإنسان بالمعاد واليوم الآخر إلّا حلقة الاستكمال الكبرى في مسلسل نزعاته الخلودية، حيث يكتشف إنّ الدُّنيا – على سعتها – دارٌ ضيقة، وهو يبحث عن السعة والرحابة في أقصى مدياتها، ويلاحظ أنّ الأشياء تبلى وتفنى وتزول، وهو حريصٌ على بقائها على نحو الدوام، فلم يجد إجابة شافية عن شوقه إلى الخلود سوى أن يطمح ويجنح بنظره وعقله وإرادته إلى حيث (دار الخلود) والنعيم المقيم.