داخل غرفة على سطح منزل الأسير زكريا الزبيدي، بدأت رحلة «مسرح الحرية» في عام 1989 في مخيم جنين. تأسّس الفضاء بمبادرة من الناشطة اليهودية آرنا مير خميس، زوجة المناضل الفلسطيني صليبا خميس. سمّي يومها بـ «بيت الطفولة» بهدف الترفيه عن أطفال المخيم، ليتحوّل لاحقاً إلى «مسرح الحجر» تيمّناً بانتفاضة الحجارة. شهد المكان على أعمال مسرحية عديدة، من بينها «القنديل الصغير» عن قصة الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني. هدمه جيش الاحتلال في عملية «السور الواقي» في أيار (مايو) عام 2000، ليُعيد نجل آرنا، جوليانو خميس تأسيس المسرح في عام 2006، تحت اسم «مسرح الحرية»، وأداره حتى اغتياله عام 2011 أمام المسرح. قبل وفاته، قدّم خميس الفيلم الوثائقي «أولاد آرنا» وكان من بطولة قادة المقاومة وشهداء اجتياح جنين عام 2002.
صباح الأربعاء 13 كانون الأول (ديسمبر)، داهمت قوات الاحتلال، «مسرح الحرية»، واعتقلت مدير عام المسرح مصطفى شتى. عصبت عينيه، سجنته وضربته وحرمته من الطعام والماء. الأب لأربعة أولاد، اقتيد من منزله، بعدما سألت قوات الاحتلال جيرانه عن عنوان سكنه. وقالت زوجته إنّه «تم تقييد يديه وأخذه أمام أطفالنا من دون رحمة أو أي مراعاة لمشاعرنا». وأضافت: «أطفالي قضوا ليلتهم في البكاء، شعرنا بالخوف الشديد لغيابه عنا. نشعر بحزن شديد لغيابه، وخصوصاً أننا لا نعرف سبب اعتقاله. ندعو كل من يستطيع مساعدتنا إلى الوقوف مع زوجي وإطلاق سراحه من سجن هذا الاحتلال».
اعتقل الاحتلال أيضاً المدير الإبداعي لـ «مسرح الحرية» أحمد الطوباسي، الذي حاول الاستفسار عن سبب مداهمة المسرح، فقاموا بضربه وداهموا منزله، وحطموا جهاز الكمبيوتر الخاص به، و«الآيباد» الخاص به، والنباتات، قبل إلقاء القبض عليه. اعتقل الطوباسي سابقاً عندما كان شاباً. وبعد تحريره، قدم جوليانو مير خميس فرصة عمل لطوباسي في المسرح، وهو ما سمح له بالسفر إلى النرويج، حيث عاش وعمل وحصل على الجنسية النرويجية، قبل أن يقرر العودة إلى جنين. واعتقل الاحتلال أحد مدرّبي المسرح للأعضاء الصغار جمال أبو جوس، وتعرّض له بالضرب المبرح، وسرق كاميرته وهاتفه.
بعد إطلاق سراحه، قال الطوباسي في بيان: «لقد عاملونا مثل الحيوانات، إنهم يحاولون إيذاءنا بأي طريقة ممكنة، لكن من المهم أن نبقى أقوياء». في اليوم التالي للمداهمة، أصدر «مسرح الحرية» بياناً قال فيه: «على مدى عقود، احتجزت إسرائيل فنانين فلسطينيين تعسّفياً، وأحياناً لسنوات، وتقوم إسرائيل أيضاً باستهداف وتدمير المباني الثقافية، وهي جريمة حرب بموجب القانون الدولي، وفي الأسابيع القليلة الماضية في غزة، قُتل عدد غير مسبوق من الكتاب والشعراء والمخرجين المسرحيين والصحافيين، ومن بينهم الدكتور رفعت العرير، الذي استُهدف وقُتل عمداً.»
ولفتت مديرة وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية حنين أمين إلى أنّه «تمت مداهمة العديد من المنازل في المخيم، بما في ذلك منازل أفراد يعملون في المجال الثقافي»، مضيفةً «أن هذه الاعتداءات الوحشية تستهدف بشكل مباشر كل ما يعزز الوعي الوطني والثقافي، عبر الدور الإبداعي الذي تلعبه هذه المؤسسات والأفراد، والمساهمة في تعزيز وسرد القصة الفلسطينية، بأصوات شعبها، والحفاظ على الهوية الوطنية عبر الفنون والثقافة. »
من جهتها، أشارت المديرة المساعدة لـ «مسرح الحرية» زوي لافرتي، إلى أنّ قوات الاحتلال نهبت المركز الثقافي، وعاثت خراباً في مكتب المسرح، وهدمت جداراً، وأطلقت النار من داخل المبنى، معتبرةً أنّه «مع استمرار الإبادة الجماعية في غزة والاجتياحات في مخيم جنين التي تحدث يومياً، من الصعب العثور على الخط الفاصل بين الدمار والأمل، والخسارة والتحدي، والواقع والتفاؤل، ما هو واضح هو أنّ الفلسطينيين تمكّنوا من توحيد أولئك في جميع أنحاء العالم من مختلف الأعمار والخلفيات والثقافات والأديان، ليس فقط للدفاع عن الحقوق والأصوات الفلسطينية، ولكن أيضاً أصواتنا»، مشيرةً إلى أنّه «عبر الكلمات والإبداع والصمود والمقاومة، علّمنا الفلسطينيون كيف يمكننا بناء انتفاضة عالمية.»
وقال شتى في أعقاب الاعتداء على المسرح في تموز (يوليو) الفائت إنّ ««مسرح الحرية» قطعة فسيفساء في لوحة مقاومة المخيم»، لافتاً إلى أنّ «مخيم جنين يواجه عقاباً جماعياً إسرائيلياً، وإنّ «مسرح الحرية» جزء منه، وإن استهدافه بهذا الشكل المباشر يعيد الصورة إلى اجتياح المخيم عام 2002 وهدم المسرح. »
وكان الاحتلال قد قام بعملية عسكرية لثلاثة أيام، بدأها في 12 كانون الأول (ديسمبر)، استشهد خلالها 12 فلسطينياً، ومن بينهم الطالب في «مسرح الحرية» موسى بن ملاك، البالغ من العمر 16 عاماً، واعتقل أكثر من 500 شخص من داخل المخيم. وتأتي هذه المداهمة والاعتقالات بعد قيام القوات الإسرائيلية بقتل ثلاثة أعضاء في «مسرح الحرية» في الأسابيع الأخيرة، وهم: يامن جرار (17 عاماً)، وجهاد مغنية (26 عاماً)، ومحمد مطاحن (30 عاماً). وكان الاحتلال قد قتل في حزيران (يونيو) الفائت المشاركين في مسرح الشباب، سديل نغناغية (15 عاماً) ومحمود السعدي (17 عاماً).
يورد المسرح على موقعه: «منذ أن فتحنا أبوابنا عام 2006، جعلنا المسرح والفنون البصرية متاحةً لكل شاب في مخيم جنين للاجئين. لقد جعل عملنا مخيم جنين للاجئين معروفاً في فلسطين وعلى المستوى الدولي بعروضه المسرحية والإعلامية المبتكرة والمثيرة للفكر. لقد أنشأنا جيلاً من الفنانين والقادة، الذين سيكونون يوماً ما في طليعة حركة التحرير الفلسطينية».
قدم المسرح منذ عام 2006، أربعين عرضاً مسرحياً عكست واقع الاحتلال مثل مسرحية «الحصار» التي عرضت عام 2017، وتتحدث عن حصار الاحتلال للمقاومين داخل كنيسة المهد عام 2002، و«مترو غزة» الذي يروي حلم التواصل بين الضفة والقدس وغزة والهوية الفلسطينية المشتركة. يتضمّن المسرح خشبة العرض، وقاعات تدريب سيرك، وقاعات تدريب موسيقى ورقص ودبكة، ويُقيم ورش عمل مسرحية وتدريبات في التمثيل والتربية والتصوير الفوتوغرافي، إضافة إلى نشر الكتب والمعارض والأفلام القصيرة، وأنشطة فنية عديدة من المخيم الصيفي مثل «أكاديمية المسرح» للأطفال، وعروض مجتمعية، وورش تثقيفية وبرامج تدريبية للنساء والأطفال.
اعتقال القيّمين على المسرح ليس عشوائياً، وخصوصاً في جنين. المدينة التي تقع شمال الضفة الغربية، يوجد إلى جانبها مخيم للاجئين الذي بُني عام 1953، وتبلغ مساحته أقل من كيلومتر واحد، يسكن فيه أكثر من 10 آلاف إنسان، وهو يشكّل هدفاً دائماً للاحتلال منذ عام 2000 بعد بدء الانتفاضة الثانية. في عام 2002، شهد المخيّم مذابح كبيرة، بعدما حاصره الاحتلال بالدبابات وقطع الكهرباء والماء، ومنع دخول بضائع من الطعام والماء والدواء، وقصف بالطيران والمدفعية، وهدم أكثر من 450 منزلاً، وتضرر أكثر من 800 منزلٍ آخر، واستُشهد أكثر من 54 فلسطينياً. وفي تموز (يوليو) الفائت، شنّ جيش الاحتلال عمليةً ضخمةً ليومين، على المدينة والمخيم، أسفرت عن استشهاد 12 فلسطينياً وأصيب أكثر من 100 فلسطيني.
وعلى رغم تمتّع المدينة بفترات من الاستقرار، وخصوصاً بين فترة إنشاء السلطة الفلسطينية إلى ما قبل الانتفاضة الثانية عام 2000، عادت لتصبح مركز المقاومة في الضفة الغربية، بعدما تحولت السلطة الفلسطينية إلى الذراع العسكري للاحتلال، وفشلت في تحقيق كل ما وعدت به منذ اتفاقية أوسلو.
تأتي محاولات تدمير الثقافة الفلسطينية في سياق إلغاء كل ما هو فلسطيني، من هوية وثقافة وتاريخ ومطبخ، ومسح للذاكرة في محاولة لجعل العالم ينسى أنه كان يوماً هناك بلد اسمه فلسطين. الفن مقاومة، والمسرح مقاومة، وخصوصاً إذا كان يخرج من قلب مخيم، إلى المخيم وإلى فلسطين وأبنائها في الداخل والخارج.
الفن هو المكان الأساسي الذي يمكن للناس عبره أن يتشاركوا أفكارهم وقصصهم، ويؤدي تبادل التجارب إلى تلاحم قوة الفرد بالمجموعة، ويخلق مجموعات معارضة ومقاومة. فما الذي يمكن أن يُقلق الاحتلال في المسرح؟ وجوده بشكلٍ عام، إنّه أكثر أشكال الاحتجاج سلميةً، وهو وسيلة تعبير وتفكير وتفكيك وتوعية وتسلية، وهذا ما لا يمكن أن يسمح به محتل. من يفكر سيرفض الظلم، ومن يفرح لن يقبل بالموت والحزن، ومن يعي يعلم أنّ لا دوام للاحتلال.