التجاهل الإعلامي في مجتمع الموتى: ما بين ضحايا غزة والسودان

منى المصري

كتب الفيلسوف الأمريكي ألفونسو لينجيس كتابه الشهير “المجتمع الذي لا يتشابه في شيء” عام 1994 ليناقش الاتصال، بمفهومه الفلسفي الواسع، وبطرح أبرز ما جاء فيه مفهوم الإقصاء، وكيف أننا مجتمعات قائمة على إقصاء الآخر، إقصاء كل من هو مختلف، مختلف بشكله، لونه، عرقه، صوته، ثقافته، مجتمعات بشرية قائمة منذ الأزل على الإقصاء، ولكن في ظل كل هذه المعايير والأحكام التي نعتمدها لنقصي من الجماعة كل من هو مختلف، هناك مجتمع واحد، واحد فقط في كافة الثقافات والحضارات والأماكن لا يقصي أحداً، مجتمع واحد فقط نجتمع فيه على اختلاف ألواننا وأشكالنا وأعراقنا وثقافتنا، إنه مجتمع الذين لا يتشابهون في شيء، مجتمع الذين لا يجمعهم شيء، مجتمع الموتى.

في فلسفة لينجيس، مجتمع الموتى لا يرفض أحداً، لا يقصي أحداً، لن يرفضك؛ لأن لونك مختلف، أو عرقك مختلف، لن يرفضك لأن صوتك، جنسك، ثقافتك مختلفة، كلنا نجتمع في الموت، يجمعنا هذا المجتمع دون إقصاء. لكن هل حقاً نحن سواسية في الموت؟! تختلف العديد من الثقافات في تعاطيها مع الموت وطقوس الموت والجنائز والدفن وحتى مفهوم الموت يختلف. لكن ربما لا يختلف مفهوم الموت وطقوسه في المجتمعات العربية التي تجمعها تقريباً نفس اللغة والدين والعادات والتقاليد، ما يختلف في عصرنا الحالي ومجتمعاتنا هو قيمة الموت، أهمية الحدث، توقيته، مكانه، أسبابه، صبغتنا الثقافة الاستعمارية العنصرية المقيتة بصبغتها الفكرية، أصبحنا نقصي حتى الأموات وفق تصنيفات غربية.

من غزة إلى السودان.. الموت واحد والتغطية مختلفة!
تلعب التغطية الإعلامية دوراً حيوياً في تشكيل الرأي العام وتسليط الضوء نحو قضايا معينة. غير أن هذه التغطية ليست دائماً متوازنة أو عادلة، خاصة عندما نتحدث عن الأزمات الإنسانية في مناطق مختلفة من العالم.

يعاني الشعبان السوداني والغزي والفلسطيني بشكل عام من صراعات مدمرة ومستمرة. في السودان، تتنوع الصراعات بين الحروب الأهلية، والنزاعات القبلية، والأزمات الإنسانية المتفاقمة، وآخرها النزاع الحالي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وفي غزة، يعاني الشعب من احتلال وحرب إبادة مستمرة مع إسرائيل، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي، والاعتداءات العنصرية المتكررة على الفلسطينيين في الضفة الغربية.

فلسطينيون يؤدون صلاة الجنازة على الشهداء في النصيرات – الأناضول

التغطية الإعلامية: بين السودان وغزة:
الصراع في غزة يحظى بتغطية إعلامية واسعة، سواء في الإعلام العربي أو العالمي. لا ننكر هنا أو نقلل من شأن القضية الفلسطينية ومحوريتها للعالم العربي والإسلامي وللإنسانية كافة. لكن الغرض من هذا الطرح أن نناقش تفاوت التغطية الإعلامية والخلل في الرؤية الإنسانية والأخلاقية والإعلامية على حد سواء للعديد من النزاعات والقضايا الإنسانية حول العالم، وخاصة العربية منها، التي عانت لعقود ولا زالت تعاني من تهميش وإقصاء. حتى وإن تم تسليط الضوء على حرب الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على غزة في الإعلام العربي والغربي، فهذا الاهتمام يرجع إلى عدة أسباب:

التاريخ الطويل للاحتلال: حيث يمتد الاحتلال ونزاع الفلسطينيين لنيل حقوقهم من الإسرائيليين لعقود طويلة، ويعد من القضايا المركزية في الشرق الأوسط.
الأهمية السياسية: قضية فلسطين تكتسب بعداً سياسياً دينياً قوياً، خاصة في العالم العربي والإسلامي وما يربطه بشراكات وتحالفات دولية تضفي طابعاً أكثر أهمية على هذه القضية.
وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي بشكل عام وما كان لها من مساهمة فعالة في نقل الأخبار لحظة بلحظة من غزة للعالم والحراك الشبابي العربي والدولي الذي ساهم في مزيد من الانتشار لهذه الأخبار والتوعية بالقضية؛ لتحصد غزة ولأول مرة بعد تاريخ طويل من العدوان والحصار والظلم الصهيوني على صوت وعلى تغطية واهتمام عالمي غير مسبوق.
الجهود الإعلامية المستمرة التي يبذلها الاعلاميون العاملون أو المقيمون في غزة في نقلهم المباشر ولأول مرة لكل جرائم وفظائع الاحتلال الإسرائيلي للعالم، وللأسف بقدر ما تؤلمنا هذه المشاهد لكنها وثقت جرائم الاحتلال، وساهمت في توعية شعوب بأكملها بالقضية الفلسطينية بعيداً عن الدعاية الصهيونية الكاذبة، فقد ساهم هؤلاء الاعلاميون ومنصات التواصل الاجتماعي في نشر وتوثيق السردية الفلسطينية والمعاناة الفلسطينية وإبرازها على الساحة الدولية.
الدعم الدولي: تحظى القضية الفلسطينية بدعم قوي من قبل بعض الدول والمنظمات الدولية الإنسانية، مما يساهم في زيادة التغطية الإعلامية رغم كل التقصير الذي نشهده على مختلف الأصعدة الدولية والعربية سياسياً واقتصادياً وإنسانياً تجاه المأساة في غزة.
على النقيض من هذا، يعاني السودان من تباين شديد في التغطية الإعلامية لأزماته، قد يكون هذا التباين بسبب:

سودانيون نازحون نتيجة الصراع بين الجيش والدعم السريع/رويترز

التعقيد الجغرافي والسياسي: السودان بلد شاسع ومتعدد العرقيات واللغات، مما يجعل الصراعات فيه معقدة وصعبة الفهم بالنسبة للجمهور العالمي وفق ما يفسر العديد من المحللين السياسين، وبالرغم من اختلافي مع هذه النقطة وضعف حجتها، إلا أنها واحد من أهم الأسباب التي تتذرع بها العديد من الجهات التي تتجنب أو تتجاهل ما يحدث في السودان.
الاهتمام الدولي المحدود: الصراعات السودانية غالباً ما تُعتبر نزاعات داخلية بدون تأثير كبير على السياسة الدولية أو على التحالفات الدولية والدول العظمى التي تهمها القضية الفلسطينية؛ لأن حليفهم الأكبر إسرائيل طرف ومتسبب بها على النقيض مما يحدث في السودان، ولا يمس مصالحهم الجيوسياسية والاقتصادية، ولا يؤثر على ميزان القوى لديهم.
نقص الدعم الإعلامي: لا توجد منظمات إنسانية أو إعلامية أو دول تلعب دوراً كبيراً في دعم تغطية الأزمات السودانية كما هو الحال مع القضية الفلسطينية حالياً.
القدرات الإعلامية المحلية: تفتقر الكثير من المناطق السودانية إلى وسائل الإعلام الفعالة التي يمكنها نقل معاناتها إلى العالم الخارجي، خاصة مع احتدام الصراع وعمليات القتل والتنكيل بالمواطنين وكل من على الأرض هناك يصبح من الأصعب على الإعلاميين القدرة على التغطية الإعلامية.

الأصوات المفقودة وفلسفة الإقصاء:
في كتابه “المجتمع الذي لا يتشابه في شيء”، يتناول ألفونسو لينجيس مفهوم الإقصاء، ويعرض فكرة مجتمع الموتى الذي لا يقصي أحداً. هذا المجتمع المثالي، حيث يتم الاحتفاء بجميع الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم أو ظروفهم، يتناقض بشكل حاد مع الواقع الحالي حيث يتم تجاهل معاناة البعض وتضخيم معاناة أخرى مثلما حدث في الحرب الأوكرانية مثلاً مقابل ما حدث في الحرب على غزة قبل أن يساهم الحراك الرقمي بتغيير التوجه الإعلامي العالمي.

يرى لينجيس أن المجتمع العادل هو ذلك الذي يُعترف فيه بجميع أشكال المعاناة بنفس القدر من الجدية والاهتمام. ويدعو إلى تجاوز فكرة الإقصاء في تعاملنا مع الإنسانية باختلافها وتنوعها. هذا الفكر يمكن تطبيقه بشكل مباشر على التباين في التغطية الإعلامية بين السودان وغزة؛ حيث جذب الصراع في غزة اهتماماً إعلامياً كبيراً، بينما تُهمل معاناة السودانيين إلى حد كبير. مثلما أهملت القضية الفلسطينية لسنوات وعقود عديدة سابقاً على حساب قضايا دولية أقل دموية.

لماذا هذا التباين؟
الأولويات الإقليمية والدولية: تتمحور السياسات الإعلامية حول الأولويات الجيوسياسية والاقتصادية للدول والمؤسسات الإعلامية. فلسطين، كونها موضوعاً مركزياً في السياسات الإقليمية، تحصل على اهتمام أكبر مقارنة بالسودان في المقابل أوكرانيا وروسيا أهم من أي صراع آخر في العالم في معادلة الدول العظمى.
إمكانية الوصول والتغطية المباشرة: الصحفيون يجدون صعوبة كبيرة في الوصول إلى مناطق النزاع في السودان والتغطية من على الأرض مقارنة بقطاع غزة، مما يؤثر على كمية ونوعية التغطية.
الوعي العام والاهتمام: أصبح لدى الجمهور العالمي وعي أكبر وتعاطف أعمق مع القضية الفلسطينية بفضل وسائل ومنصات التواصل الرقمي والحراك الشعبي العربي والدولي مقارنة بالصراعات السودانية، مما يدفع وسائل الإعلام لتلبية هذا الاهتمام.


كيف يؤثر هذا التباين في التغطية الإعلامية على مجريات الأمور؟

الوعي العالمي: تساهم التغطية الإعلامية المكثفة في غزة في زيادة الوعي العالمي، مما يؤدي إلى استجابات دولية ومساعدات إنسانية أكبر والتي للأسف يمنع الاحتلال الإسرائيلي وصولها للقطاع، على العكس، يعاني السودان من نقص في هذا الوعي الدولي والإنساني والدعم السياسي، والإعلامي أو العسكري والإنساني.
التأثير على السياسات: تؤثر التغطية الإعلامية على السياسات الدولية. الأزمات التي تحظى بتغطية إعلامية واسعة غالباً ما تكون موضوعاً للنقاش في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، بينما تُهمَل الأزمات التي لا تحصل على نفس القدر من الاهتمام في مثال آخر على فكرة الإقصاء في المجتمع الدولي.
دعم الضحايا: الإعلام يلعب دوراً كبيراً في حشد الدعم للضحايا. نقص التغطية يؤدي إلى نقص الدعم الإنساني والمالي للمتضررين.
تعتبر التغطية الإعلامية للأزمات الإنسانية عاملاً حاسماً في توجيه الوعي والرأي والدعم العالمي. يعاني الشعبان السوداني والغزي من صراعات مدمرة ومشتركة في الموت والمعاناة، لكن التغطية الإعلامية لهما تختلف بشكل كبير. يجب أن نعمل على تعزيز التغطية الإعلامية العادلة والمتوازنة لكل الأزمات الإنسانية لضمان أن يحصل جميع المتضررين على الاهتمام والدعم الذي يستحقونه. يجب أن يجمعنا مجتمع إنساني لا يقصي أحداً.

.

المصدر : عربي بوست

Exit mobile version