التربية التي ورّطتنا!

كريم الشاذلي

أبي.. على غير ما ربيتني سأكون صريحًا!. دعنا نطرح حديث الأماني جانبًا، فلا مندوحة اليوم من ملاصقة الحقيقة والنظر في عينها
الباردة!

لطالما قلنا إن أزمتنا أزمة تربية، وأفردنا حديثًا طال في بعض أوقاته عن الرؤى والأطروحات التي نحتاج إليها في تواصلنا التربوي،
وكثيرًا ما وجدنا ثمة راحة في قراءة الكتب التي تتحدث عن التربية بصيغة “افعل ولا تفعل”، وصار الكلام المُعلّب- على تكراره- محببًا
للنفس، نأخذ منه ما يوافق الهوى، ونطرح جانبًا ما يزعج قناعتنا، والحجة دائمًا جاهزة.. “يا أخي هذه مثالية”!.

حسنًا.. اليوم فلتسمح لي يا أبي أن أخبرك بما ظل حبيس الصدر لأعوام، لن أفصل فيه لأسمح لك- إن أحببت- بالالتفاف حوله إذا لم يرق
لك.. وفي الاختصار ثمة فائدة لمن قرر أن يطلق سراح فكره ويتدبر.
لن أحدثك عن الرؤى التي نحتاج إليها، وإنما سأعرض ما يجب أن نلقيه خلف ظهورنا كافرين به، ناقمين عليه.. سأحدثك عن تلك
الخرافات التي ورثناها كابرًا عن كابر، وباتت من كثرة ما نلوكها على ألسنتنا أشبه بالحقيقة الكونية التي لا ينصلح حالنا إلا بها! بينما هوـ
وبهاـ للخراب ذاهب!

خمس خرافات تخفي وراءها جرائم غير مكتملة الأركان، فالشهود وقتئذ قُصَّر، وأنتم- الآباء- متواطئون على إخفاء كل أثر لها ودليل!

الخرافة الأولى قولك: سأضحي بحياتي إن اقتضى الأمر من أجل أبنائي!

والحقيقة أن أبناءك يريدون أن تعيش من أجلهم، لا أن تموت في سبيلهم.. يريدون منك أن تدرك جيدًا أن شقاءك وسعيك في الأرض من
أجل توفير أفضل مسكن، وملبس، ومركب، هو في الحقيقة ليس كل ما يبغون، وأنهم يريدون منك أن تكون أفضل مربٍّ قبل أن تكون
أفضل عائل. معظمنا يتوحد مع فكرة التضحية بالوقت والصحة والجهد، دون أن نسأل أنفسنا عن التضحية الحقيقة التي يحتاجها منا
أبناؤنا، التضحية بساعة نجلس فيها إليهم، نسمع منهم، نشاركهم أحلامهم، نوضح لهم ما استشكل على أذهانهم، نطمئنهم بوجودنا الحقيقي
في حياتهم.
يريدون منا أن نودع عبارة “هو أنا يعني بتعب عشان مين”، التي نتخذها درعًا في معركة الحياة.. تلك المعركة التي تأخذنا من أبنائنا،
لنفاجَأ بأننا لم نربّهم كما ينبغي، وأن هذا الكائن الواقف أمامنا، والذي يرتدي ما ألبسناه، ويأكل ما أطعمناه، ويتحدث بلسان يشبه ألسنتنا،
قد تربى في محضن آخر، واكتسب معايير الخطأ والصواب من هنا وهناك، وصار له ألف منبع يستقي منه قيمه ومبادئه، وأن حياتنا التي
ضحينا بها من أجله- كما نردد- لم تكن كافية!

الخرافة الثانية في قولك: أريد أن يكون ابني أفضل مني!

والحقيقة أن أبناءك لا يريدون أن يكونوا إلا أنفسهم، “أفضل مني”- تلك التي ترددها- كثيرًا ما تخفي خلفها طموحك أنت لهم، وتداري بها
في كثير من الأحيان محاولاتك في إفراغ أفئدتهم من الحلم والطموح الذي قد يخالف ما رسمته في مخيلتك لحياتهم المستقبلية، وكان
الأجدر بك أن تقول أريدهم أن يكونوا أسعد مني، أسعد بما يرتضوه لأنفسهم، حتى وإن خالف ما تريده أنت لهم.
تريده أن يكون طبيبًا، مهندسًا، يحمل لقبًا قد لا يعبر عنه لكنه يعني لك الكثير، لا يضيرك أن يكون مسخًا من مجموع المسوخ التي
تمضي بيننا ونصطدم بها صباح مساء، المهم أن يكون مسخًا أنيقًا تتشرف به في كل محفل ومجلس!

الخرافة الثالثة إيمانك بأن الأبناء لا يرضيهم أي شيء.

والحقيقة أنك أنت من صنع الهوة التي تفصل بينك وبينهم، صنعتها بعدم اهتمامك ببناء جسر من الحوار والتواصل معهم في سني عمرهم
الأولى، حتى إذا ما اقتحم ولدك مرحلة المراهقة، وظهرت عليه أعراض التمرد، جلست تشكوه لله والملائكة والناس أجمعين، أو حاولت-
على مضض- أن تصنع جسرًا لحوار مهترئ، وعندما يُعرض ولدك عنك تتخذها ذريعة تؤكد من خلالها سوء سلوكه واعوجاج مذهبه.
أنت بحاجة لأكثر من انتباهة متأخرة، يعقبها غضب ونقمة.. تحتاج أن تحبه- أولا- كما هو الآن!

الخرافة الرابعة: لقد وفرت له كل شيء، لكنه كما ترى!!

نعم تلك خرافة يا سيدي، ولو فتحنا بوابة فؤاده ليحكي لحدّثك عن اللحظات التي قضاها ملتاعًا وهو يستمع إلى صوت شجارك مع أمه،
وتقطيب جبينك في الحوار، وإشاحة وجهك عند النقاش، وصوتك العالي حين تودّ إنهاء الأمور مستخدمًا فرمانك النافذ.. هل تعلم بأن أسوأ
ما وفرته له هو ظنه المريب بأن الكيان الأسري هو المرادف الأول للشجار والنكد والتوتر؟. هل تدرك سوء ما غرسته فيه من سلوكيات
شائنة، سيكررها في قابل أيامه، وظنه حينها أن ما يفعله هو السلوك الأمثل؟. هل أدركت يا سيدي أن تربيتك تلك التي تفخر بأنها “لا
ينقصها شيء” ربما تفسد جيلين لا جيلًا واحدًا!

الخرافة الخامسة قولك: لقد ربيتك بما يرضي الله.

ودليلك هو تلك المرات التي اصطحبته فيها إلى المسجد، أو قولك له ذات مرة أن الكذب حرام.. أخبرني إذن كم مرة قلت له “الناس”؟
وكم مرة قلت له “الله”؟!
حدثني يا سيدي عن الأوقات التي تعهدت فيها ضميره، تارة بالقول وأنت تحدثه عن فلسفة الرزق أو الابتلاء أو الصبر أو القضاء والقدر،
وأخرى بالفعل من خلال رؤيته لك كأنموذج أمثل لانتصار الحق على الباطل، وهيمنة الرضا على الطمع، واستحضار الآخرة لتضبط لك
مسار الدنيا.. كم مرة رآك أمينًا، وشجاعًا، ووفيًّا؟!
تلك أشياء ترسمها ريشة الأيام يا سيدي، ولا تُنقل بالتعاليم المرسلة.

أخبرونا قديما أن تأثير فعل رجل في ألف رجل يفوق تأثير قول ألف رجل لرجل، فكيف الحال لو كان هذا الرجل هو الأب، ذلك الذي
يرى الولدُ من خلاله الدنيا، ويضبط مؤشر حياته على هداه؟!
وما اللوم إلا لعظم المطلب منك والرجاء، فالحياة مخيفة بلا مؤنس، ولا مؤنس من فزعة الأيام كالأب!
حاضرًا بنفسه.. أو ساكنًا في الروح بتعاليمه.

Exit mobile version