شكل الفن في الأوقات المريرة حالة عزاء، إذا ما ذهبنا إلى أن من بين وظائف الفن التي باتت ملحة هو النظر بشكل شامل ليس للكوارث المحلية فحسب بل لقضايا كوكبنا الذي بات ينحدر ويتحول إلى أشلاء بسبب غباء البشر أنفسهم، وذلك من خلال ما تبثه أعمالهم الفنية من إثارة الحزن والغضب وإثارة العواطف، وهذا لا يختلف عما فعلته أعمال التشكيليين العراقيين التي يتناولها كتاب “التشكيل العراقي والحرب” للفنان التشكيلي علي النجار، مشكلا إضافة إلى مبحث الحرب وما حولها من علاقة شائكة ما بين الحرب والفنانين العراقيين كذوات إنسانية، وكنتاج فني مقارن، كذلك من أجل أرشفة بعض الأعمال الفنية المعارضة للحرب ولممارستها غير الإنسانية ضد الشعب العراقي.
الكتاب الصادر عن دار خطوط وظلال بغلاف من تصميم الفنان قحطان الأمين، يغطي موضوعه الحرب، فلسفتها وأسبابها وتداعياتها، منذ تأسيس الدولة العراقية حتى الآن، وقضايا عديدة منها علاقة الحرب بالفن التشكيلي العراقي، ونماذج من الفن العالمي من دول طحنتها الدكتاتوريات والحروب، وغير ذلك من المواضيع ذات الصلة، ويختتم بحوالي خمسين شهادة لفنانين تشكيليين عراقيين عانوا من الاضطهاد وكوارث الحروب، منهم سيروان باران، كريم سعدون، موفق أحمد، محمد السعدون، هاشم تايه، حسين الطائي، قحطان ألأمين، وليد القيسي، وفاء بلال، جلال علوان، حسن حداد، سنان حسين، أحمد السوداني، محمود العبيدي، غسان غائب، محمد سامي، فلاح العاني، جنان العاني، زينا سالم، سوزان الصراف وغيرهم.
يرى النجار أن علاقة الفنان بالحروب تبدو غالبا ملتبسة ما دامت ليست لها صلة مباشرة بذاته، بما يعني أن الفعل وردة الفعل وما يؤول إليه من تفاعلات لا تلبث أن تتحول إلى أعمال فنية. لذلك لم يكن هذا التفاعل بنسب متساوية ما بين من خاض الحرب، وبين من مسته مسا، ومن عاش تداعياتها عبر صور وأنباء الأثير. لكن في الحال العراقية غالبا ما كانت هذه العلاقة مباشرة، بما أن العديد من التشكيليين خاضوا غمار الحرب مجبرين لا مخيرين، حالهم حال بقية قطاعات الشعب.
وبما أن الحروب تبدو كمسلسل تراجيدي تخرجه وتدير حوادثه المباشرة السلطة المتحكمة بمقدرات الدولة، من قادة وملوك وحتى حكام دكتاتوريين، مع إجراءاتهم التي يفرضونها قسرا على الوسط الثقافي ومن ضمنها تحريض الفنانين وتكليفهم لإنتاج فنهم واستخدامه للترويج لحروبهم، بما لا يتوافق ومفاهيمهم الجاهزة عن الحق المشروع والشرف والكرامة وغير ذلك، والتي بات يطلق عليها تسمية “الشعارات” لابتذالها، بل لكي يدفعوا الفنانين ليصوروا الخصم وحشيا، من أجل أن يحفز المتلقي ويثير شعوره القومي، مع جرعة من الفخر. ويصوروا في المقابل انتصارات جنرالاتهم في ساحات المعارك كأبطال قوميين لا يقهرون.
ويؤكد الكاتب أن السلطة الثقافية العراقية التي هي جزء من السلطة السياسية لم تستطع إرساء دعائم فن دعائي مناسب من وجهة نظرها لكل الحروب التي خاضتها، برغم محاولاتها لاستقطاب خيرة التشكيليين العراقيين، ما عدا فعاليات فنية لم ترتق للمستوى المطلوب، ولم تؤسس لما اصطلح عليه بـ”فن الحرب”. وكان القصد من هذه الفعاليات هو التغطية على كل الجرائم والمآسي التي ارتكبتها هذه السلطة الديكتاتورية، ومآسي وتبعات الحروب بشكل خاص في زمن الحرب العراقية -الإيرانية.
ويلفت إلى أن التشكيلي العراقي لم يكن بمنأى عن واقع حال المجتمع، والفنانون كأشخاص يمتلكون أدوات التعبير المثالية لواقع ما تعرضت له مجتمعاتهم من نكبات. بشكل خاص حوادث الحروب وما جرته من ويلات وصلت أحيانا إلى الدمار الشامل، كما حدث في الحرب العالمية الثانية مثلا، وما تبع بعدها من حروب إقليمية، واحتلال دول هنا وهناك من دون تفويض أممي. ومن ممارسات لأنشطة تخريبية، كما حدث للمتحف العراقي، وللدمار الذي ألحقه تنظيم داعش الإرهابي بآثار العراق وسوريا، إضافة لتهريب الآثار الذي بدأ قبل الحصار واستفحل بعده.
ويقول النجار إن التدمير والنهب لآثار العراق لم يحدثا دون قصد، بل كانا إستراتيجية لمحو الهوية التاريخية الموروثة، وتفريغها من مضمونها الريادي البشري. وكان ما حدث من خلال بث أسطورة موازية تنفي مرجعية الأثر العراقي السومري الموثقة متحفيًّا وفي المواقع الأثرية واستبدالها بمرجعية افتراضية متخيلة بادعاء أن الإرث السومري يعود لمخلوقات “الأنانوكي” القادمة من الفضاء، الأسطورة التي تبنتها وكالة ناسا الفضائية (ومن يضمن لناسا أن تكون بعيدة عن القرار السياسي للدولة التابعة لها).
لا وجود لفنان تشكيلي حربي عراقي بالمعنى المعروف لكنه موجود كفرد ضمن مجتمع أغلبيته سيقت إلى حروب السلطة عنوة
ويشدد على “الحاجة إلى موسوعة لاحتواء تفاصيل تداعيات الحروب والحصار الأممي على الثقافة والفن التشكيلي العراقي”، لكنه يعود ليتساءل “هل يوجد فن تشكيلي عراقي متكامل بعد كل هذه الهجرات وتشتت الفنانين العراقيين؟ وهل ما تبقى في العراق من إنتاج تشكيلي من الممكن أن يمثل منجز التشكيل الأفضل، وحتى الماضي بعد فقدان الكثير منه؟ ومن لنا بإعادة مؤسسة مهنية وفاعلة للم شمل التشكيل العراقي بأفضل نتاجه ونتائجه. سؤال سوف يبقى عالقا لزمن لا ندري ما هو مداه، فإن انتهت الحروب المباشرة فثمة حروب خفية تجري تحت السطح”.
ويكشف الفنان أن “أسلحة الحرب نفسها لم تكن بعيدة عن استهدافها من قبل الفنانين، لتحويلها إلى أعمال فنية مغايرة، وليس ذلك بغريب إذا ما اطلعنا على صفحات الفن التركيبي المعاصر لوجدنا أن الفنان سعى إلى إعادة تفكيك هذه الآلة الحربية من أجل تعطيل مفعولها وتحويلها إلى قطع أو هياكل مهملة أحيانا ما تكون جمالية بدل وظيفة الدمار الذي صنعت من أجلها، أو لتتحوّل إلى أدوات نافعة رمزيا كما مشروع “تحويل الأسلحة إلى محاريث” و”الفن للسلام” الذي أنشأه نيل ويلفورد وساشا كونستابل حفيد وحفيدة المنظر الانجليزي كونستابل. ويبدو أن هذه التجربة أخذت طريقها لفن الداخل العراقي كما في منحوتات تركيبية للنحات رضا علوان وغيره، بعد أن أخذت مساحة واسعة عند الشكيليين المغتربين”.
هذا الفعل الفني يعتقد الكاتب أنه كان ممهدا للفكرة التي استحوذت على اهتمام بعض الفنانين الأحدث عمرا. ويبدو لقساوة وقع حواديث تاريخ العراق المعاصر، بقيت هذه الأفعال الفنية ضمن إجراءات تفكيك مفهوم الحرب بأبعاده المختلفة، وكأننا لا نزال نعيش أجواء القصف وصفارات الإنذار.
ويتساءل النجار: “هل نحن بحاجة إلى توثيق الأعمال التشكيلية العراقية للأجيال المتتابعة؟ ويجيب “بالتأكيد نحتاج إلى ذلك وإن لم يكن التوثيق مشروعا مؤسساتيا، فلنحاول التعريف ببعض من هذا الإرث الفني.. فإن كان الفنان نفسه يوثقها بفعله الفني، من المهم أن نحافظ عليها، بدءا من الإشارة إليها لتكون علامة من علامات زمنها. نحن نعلم بأنه لم يكن من وجود لفنان تشكيلي حربي عراقي، بالمعنى المعروف في الحروب العالمية التي وظفت أو أنتجت هكذا فنان، لكنه موجود كفرد ضمن مجتمع أغلبيته سيقت إلى حروب السلطة عنوة. كان النتاج الفني لمن كان يخدم في هذه الحروب أو إحداها شحيحا، بسبب كونه يصارع من أجل البقاء، فبعضها لم يكن سوى تذكارات، تخطيطات أولية نفذت على عجالة وسط السواتر وحقول الألغام. أو أعمال نفذت في زمن الاجازات القصيرة. وكان قدر فناني حقبة الثمانينات هكذا”.
ويقول “تعرفت إلى الحرب، مجازا في عام 1968 حينما كنت موظفا في إحدى قصبات مدن شمال العراق ليس كحوادث مباشرة، بل على آثارها، حيث ناقلة جند مكشوفة كبيرة تغص بجثث القتلى. قبل ذلك بأعوام شاهدت جثمانا منخورا بالرصاص، لم يفارقني المنظر الأول ولا الثاني طوال حياتي. ولكبر سني فلم تشملني مراسيم تجنيد العسكر، لكني كنت مساهما في تعزية بعض قتلى الحرب لأكثر من عقد. كما كوني شاهدا على آلاف سرادق العزاء، في الزمن الذي لم يسلم فيه شارع أو زقاق من مدن العراق من هذه السرادق ولم يكن الفنانون إلا بعضا من هذا الشعب الذي ابتلي بهذه المحن، وكانت لهم مساهماتهم، إن لم أقل الفاعلة (بسبب من تابو السلطة وقتها) بل لهم ذاكرتهم التي أشبهها بظاهرة ‘أدب الأدراج’ لبعض أدباء المرحلة السوفياتية، ولأكتشف هذا الكم من الاشتغالات الفنية التي كان معظمها مجهولا. ولأكتشف أيضا أن العديد من التشكيليين العراقيين، وبشكل خاص من هم من زمن الثمانينيات، كانوا الأكثر تضررا من بقية الفنانين، وتبقى آثار الحرب عالقة في نتاجهم المستقبلي”.
السلطة الثقافية العراقية لم تستطع إرساء دعائم فن دعائي للحروب التي خاضتها، برغم محاولاتها لاستقطاب خيرة التشكيليين
ويضيف “أكاد أجزم أن بعضهم لا يزال يعيش التداعيات النفسية والتي استطاع متأخرا أن يثبتها على سطح أعماله الفنية، ليدل على أن ذهنه لا يبرح تلك المنطقة المعتمة والغامضة، فما دونوه من شهادات شخصية معاشة تحت وقع الطبول أو القذائف، أو ما مسهم من ضرر شخصي أو فقد عزيز أو تهجير أو وقع قصف أطلسي، كل ذلك لا يزال في جراب زمن هؤلاء الفنانين. في انتظار لحظة سلام تعززها نتاجاتهم وطرق تفكيرهم وأداءاتهم المستجدة، فموضوعات كهذه لابد من أن تشكل تحديا حقيقيا للإتيان بفعل فني مواز لحجم الكارثة المزدوجة (دمار البيئة ودمار الجنس البشري) ومعالجة الدمار.. لقد أنتجوا فنا بمثل ما شكل قيمة فنية عالية، فإنه أيضا أعلى من قيمته الرمزية، إذ هو تحد لكن الفنانين أبانوا عن شمولية التفاصيل التي غطت الحدث وتداعياته”.
ويتساءل النجار “كيف للفنان المجند إجباريا أن يتصرف في مشاعر الغضب والقلق أو الرحمة والاشمئزاز والخوف، أو حتى الشعور بالذنب أو الكبرياء، بالحزن أو ربما بالعار. عندما تجتمع هذه العوامل، سوف تؤدي إلى استجابة غير طبيعية. فالعاطفة تقوم هنا بدور مركزي في تقدير الأعمال الفنية وخلقها. هذه المشاعر سوف تبقى محفورة في عمق ذات الفنان، وسرعان ما تجد لها ملاذا في عمله الفني.. لذلك فأنا أعتقد بأن أغلبية ما نفذه الفنانون هنا لم يندرج ضمن مفهوم القص برغم وجود هكذا أعمال، لكنه التأليف والموالفة هما السائدان”.