هوية المجتمعات تحتوي على مكونات مختلفة، منها المكون الثقافي والتراثي والمكون العلمي والمكون الفني وغيرها، ويندرج تحت كل مكون عناصر عديدة، وكذلك تتداخل فيما بينها لتشكيل تلك الهوية، فمثلاً: المكون الفني يندرج تحته: فنون الرسم والزخرفة والتصوير والخطوط وأيضاً فنون المسرح والغناء والموسيقى، وكذلك السينما والدراما، والفنون المعمارية والتصميم الداخلي ووصولاً إلى الملابس والأزياء والأواني وغيرها، فالهوية الفنية لأي مجتمع هي ما توارثه أبناء هذا المجتمع وأبدعوا في إخراجه بشكل فني ومميز ومختلف عن غيره، وبذلك يكون كالبصمة البصرية التي ما إن تقع أعيننا على إحدى عناصرها إلا وعرفنا أنها تنتمي لذلك المجتمع.
- تطور الهوية البصرية:
وقد طور المجتمع العربي هويته البصرية من خلال ابتكار فنون الزخرفة والخط العربي، والتي دمجها مع الفنون المختلفة، وأبرزها من خلال المباني والمآذن والمنحوتات وكذلك الكتب والمخطوطات والمصاحف، فنجد أن حروف اللغة العربية منذ نشأتها قد تم الاعتناء بها وتحسينها، واعتنى بها الوزراء ورؤساء الدواوين وحتى الأمراء، بدءاً من العصر الأموي والعباسي والعثماني ووصولاً إلى عصرنا الحالي، وذلك لتثبيت الهوية البصرية للحضارة الإسلامية الناشئة حديثاً في ذلك الحين، ولتعزيز الانتماء لهذه الثقافة المتفردة، والتي انتشرت في أرجاء العالم، وصارت لغتها لغة العلوم والابتكارات والفنون.
- الخط العربي عنوان الهوية البصرية العربية والإسلامية :
ويأتي الخط العربي في أوليات الفنون البصرية العربية والإسلامية، حيث أنه يعتبر وعاء اللغة العربية وسفيرها، وممثلها الأوحد للتعبير عن مكنوناتها والسفر بأسرارها، ولذلك نجد أن العناية بأنواع الخطوط قد تزايد على مر العصور، فطوّر الكتّاب في القرن الأول الهجري الخط الكوفي، وأخذوه من الخطوط التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، وهي: المسند والجزم والحجازي والنبطي، وفي العصور المتلاحقة ظهر خط النسخ الذي كان الخط المعتمد لنسخ الكتب والمصاحف، وكذلك ظهرت خطوط مرتبطة بثقافات مختلفة، إثر اندماجها بالمجتمع الإسلامي العربي، مثل: الخط الفارسي، والأندلسي والنيسابوري والقيرواني، وذلك نسبة إلى المدن والبلدان التي نشأت وتطورت فيها هذه الخطوط.
- التوظيف المعماري للخط العربي:
ونلاحظ وجود الخط العربي أيضاً على المباني وفي القصور والمساجد، والذي تم فيها نقش الآيات القرآنية بطريقة فنية جذابة، وقد كانت هذه النقوش بمثابة توثيق للفترة الزمنية التي بني فيها، أو لتعزيز القيم التي تحملها تلك الآيات القرآنية، وكذلك لإظهار الهوية البصرية للثقافة العربية، من خلال تزيين المعالم الحضارية الهامة بالخط العربي، وقد أبدع النحاتون والخطاطون والمعماريون في هذا الجانب حتى يبتعدوا عن الرسوم والتماثيل المحرمة شرعاً، وأيضاً للتركيز على المعنى الروحاني الموجود في الآيات القرآنية، ودمجه بشكل بصري جميل، يبعث الناظر على التأمل والغوص في المعاني، لتحصل الفائدة المعنوية والبصرية في وقت واحد.
- مدرسة الحروفيات:
وفي عصرنا الحالي وبعد أن وصل الخط العربي إلى إبداع وإتقان في تفاصيله وطرق تجسيده، نجد أنه قد دخل في تصميم المنتجات العصرية، وأصبحت كبرى الشركات العالمية والمحلية تدمج في تصاميمها عبارات وحروف بالخط العربي، وحتى الفنون التشكيلية أبدعت مدرسة في الرسم بالخط العربي، أطلقوا عليها “الحروفيات” وهي عبارة عن دمج بين التكوين البصري واللوني في الفن التشكيلي، وبين الحروف والكلمات والعبارات بالخط العربي، لتضيف معنى جمالياً للوحات، وأيضاً تعزز الرسائل البصرية والفكرية والروحانية كذلك، فصارت زوايا البيوت والمكاتب وحتى المباني والأماكن العامة مزينة بأنواع من المنحوتات والرسومات واللوحات الفنية المعتمدة على الخط.
- الابتكارات الخطية الجديدة:
وقد ألهم الخط العربي كثيرًا من الفنانين والمعماريين، ليبتكروا أشكالاً جديدة للحروف، وحتى تطوير خطوط جديدة تكافئ الثقافة الحديثة وتتناغم معها، فظهرت هذه الخطوط برونق جميلة وحروف انسيابية يحسن استخدامها في مختلف المجالات، وصار الشعارات الرسمية لكثير من الجهات تعتمد الخط العربي في إشارة إلى الأصالة والاعتزاز بالتراث والهوية العربية، وحتى مبتكرو الخطوط الطباعية قد طوروا نماذج فريدة لاستخدامها في الإعلانات والمطبوعات، وبدؤوا بإدخال بعض التعديلات في الخطوط مع مراعاة المحافظة على الشكل الجمالي للحرف العربي الأصيل قواعده، ومن ثم أخذوا يدمجون قواعد الخط العربي مع خطوط اللغات الأجنبية ليخرج لنا نوع جديد آخر، وبعضهم ابتكر خطاً طباعياً يشبه الكتابة اليومية لاستخدامه في مجالات ترفيهية متعددة، وبذلك نجد أن الحرف العربي قد وجد سبيله لمواكبة التطور التكنولوجي، واستطاع التعبير عن رسالة الهوية العربية في العصر الحديث.
- الحضور العالمي للخط العربي:
وعلى مستوى الثقافة العالمية يأتي الخط العربي ليضع بصمة في التراث الإنساني الحي، حيث تم إدراجه في قائمة اليونسكو، ويعتبر هذا الإدراج علامة فارقة ونقطة انطلاق جديدة لرحلة الخط العربي في عصرنا الحالي، وخصوصاً بعد تفشي الاعتماد على الآلة والتكنولوجيا بدل العمل اليدوي، فأصبح العالم ينتظر منا تقديم الجديد في هذا الفن، وإبراز المعاني الثقافية التي يحملها، وبذلك نكون قد دخلنا من بوابة الخط العربي إلى الحضارة المدنية الحديثة، لنساهم في صناعة صورة الرسالة الجمالية فيها، مستندين على مكون رئيسي من مكونات هويتنا العربية.
إن فن الخط العربي يأتي ليعطينا برهةً للتأمل والسكينة، نستعيد من خلالها الهدوء النفسي في التواصل المباشر مع القلم والمحبرة، ونبدأ في رحلة البحث عن الصفاء الذهني، ونعطي الأولوية للاهتمام بذواتنا الداخلية، من خلال الاستمتاع بتفاصيل رسم الحروف وتزيينها، ونعيد للحروف رونقها وألقها، ونحمّلها ما يكمن في خواطرنا من أفكار، وفي قلوبنا من مشاعر.