ثقافة وفكر
أخر الأخبار

الزمن يتخذ معنى آخر على كنف القراءة

بادر الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل إلى تصنيف القراءة فنا. وإذا وافقنا على هذا الرأي بالتأكيد تنضم القراءة إلى الفنون الزمانية على غرار الموسيقى والمسرح، فالكتاب لا يكون موجودا بالفعل إلا في حالة القراءة، وبالطبع إن هذه العملية تستغرق زمنا يتفاوت من كتاب إلى آخر. لكن هل تنفذ صلاحية الكتاب مع نهاية زمن قراءته؟

لا شك أن هذا السؤال لا يخلو من المكر ويضمر نفسا نفعيا لا يفصل بين الأشياء وقيمتها الاستعمالية، غير أن سياق الكلام يفرض مناقشته كذلك، فالواقع الذي يضج بالتسابق على الاستعراض المادي يثير الريبة بشأن جودة المفاهيم التي لا تعبر بالضرورة عن العقلية الريعية، وبالتالي فإن عالم القراءة وفق هذا المنطق لا يكون مطابقا لمواصفات ما تتطلع إليه الرؤية الأداتية، ولا تفتح لك العناوين المضافة إلى رصيد الاكتشافات المعرفية الباب على بلاد العجائب والمغريات المبهرجة، وهذا نوع جديد من الاغتراب.

الكتب وزمن القراءة

في الواقع إن القطيعة مع التيار السائد تزيد الوعي حدة بحقيقة المعطيات والدوافع المحركة للمشهد على وجه العموم. واللافت للنظر في هذه الصورة هو من يبحث عن موطئ القدم تحت يافطة الفكر والثقافة في هذه الأجواء الكرنفالية بامتياز، هل يجد نفسه مكلفا بإدارة دفة الأمور نحو وجهة مختلفة ويصلح ما يراه فاسدا أو لا يهمه سوى الأخذ بظاهر الأشياء والترنم بمقطوعة غالبة على الجوقة؟ وفي المحصلة يريد توظيف معداته المعرفية ليمضي خطوة أخرى نحو واجهة العرض.

ما يجدر بالإشارة في هذا الإطار هو أن القراءة شأن شخصي والقرار يعود إلى إرادة الفرد بأن يكون منخرطا في زمن يستمد خصوصيته من التحرك على خارطة تتمدد باستمرار. وكما قالت الروائية العراقية لطفية الدليمي “اقرأ 100 كتاب أو ألفا. لن يعني الأمر شيئا للآخرين، وليس في هذا الأمر مأثرة لك. الأساس هو أن تقرأ وتتلذذ بما تقرأ وتجعله خبرة مضافة لك”. إذن كونك قارئا نهما لا يعطيك الأفضلية على الآخر ولا يعني بأن لك الحق بالتدخل والإدلاء بالآراء في كل شؤون الحياة. وتتقاطع رؤية صاحبة “سيدات الزحل” لمفهوم القراءة مع فحوى ما قاله الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير عن الطابع الشخصي في الكتابة “قد ألزمت نفسي بالكتابة لنفسي وحسب لأجل متعتي الشخصية. مثلما يدخن المرء أو يمتطي الحصان لأجل متعته”.

مع الأسف إن ما ينتقص من قيمة المعرفة ليس العزوف عن القراءة والانكباب على الإحداثيات الإلكترونية كما يتوهم البعض بل المنتسبون إلى الثقافة زورا وأصحاب المقامات الذين يقتصر كل إنجازهم في إضافة الألقاب المضخمة إلى الأسماء، وإصدار البيانات المنمقة. هولاء هم وراء التسويق لنسخة ممسوخة من الثقافة. ولم يفهموا من الفكر إلا صيغته الشعاراتية التي تفيدهم في بورصة المناصب والألقاب. والحال هذه فإن التحدي الأصعب هو الاستمرار في إنشاء زمنك الخاص وسط بيئات يسود فيها الأنموذج المضلل.

كما أن تقليم العقل من الأوهام المغلفة بالفكر ليس أقل صعوبة. لأن الوحشة توقظ الأشباح في الرأس ولا يصح أن يكون تصاعد الإصدارات واصطفاف الجموع لتوقيع العناوين المقتنية مقابل تفاقم الشعبوية والخطاب الانفعالي والجمود العقلي مصدرا للأرق، لأن الكتب المؤثرة لا تقرأ على نطاق واسع بل تصادر وفي أحسن الأحوال تأخذ مكانها خلف العناوين الرائجة.

أكثر من ذلك فإن ماكينة الاستهلاك غيرت مذاق القراءة فالأولوية هي لتحويل النشاطات اليومية إلى محتويات صوتية ومرئية ولا ضير من هذا المنحى إذا كان الغرض منه نشر الأعمال القيّمة وتقديم ما يناسب طبيعة تلك الوسائط. لكن من الملاحظ أن هذه الحالة أصبحت لوثة طالت الجميع، وقد تفسر عدم فاعلية المثابات الثقافية.

وما استدعى الاسترسال في تناول موضوع القراءة هو السؤال الذي طرح سلفا عن ترابط بين صلاحية الكتب وزمن القراءة. ومن المعلوم أن الكتب التي قد يكون لها نصيب لأكثر من قراءة، وتعاد الرحلة إلى صفحاتها هي من صنف نادر وهذا لا يقلل من قيمة العناوين التي لا تحظى إلا بقراءة واحدة. ولا يعني بأن النوع الأخير يتم إقصاؤه، لأن التشكيلة بأكملها تكشف عن حيثيات تكوين الزمن الشخصي وعرفك في الاختیار ومراحل نشوء التفكير المعرفي وتحديد الخط الذي تتخذه اتجاهات القراءة.

وبما أن الإنسان لا يولد قارئا فبالطبع تتطلب الدراية بهذا العالم معاينة الكثير من العناوين ومصاحبة أكبر عدد من الأسماء في بداية الطريق. وعلى هذا النحو ينضج الإدراك. والطريف في رحلة القراءة أن كل ما يفوت المرء قراءاته من الأعمال النوعية في مرحلة البدايات يمكن العودة إليه، وبهذا يكون منسوب التشويق الأوفر كما أن العناوين التي تلوح أطيافها في الذهن مع قراءة كل عمل جديد تؤكد بأنه على الرغم من الانقطاعات التي قد تشهدها مسيرة القراءة والانتقال من مجال إلى آخر في سياق الأزمنة المختلفة لكن ثمة خيطا ناظما لهذه الحلقات.

عزلة مرحة

قد تكون وطأة العزلة ثقيلة على النفس، وقد خلف الحجر الصحي أعراضا مرضية على سلوك الفرد أثناء الغزوة الوبائية إذ بدأ البحث عن الآليات التي يمكن أن يخف بها الشعور بالوحدة، وسد الثغرات التي كانت تتسع في جدار الزمن. بخلاف الملل المشوب بالقلق الذي ساد على المستوى العام فإن هذه الفترة كانت فرصة متفردة بالنسبة إلى من يهمه التذوق بعزلة مرحة من خلال التفرغ للقراءة.

وفي الحقيقة إن مصاحبة الكتب شأن أي عملية إبداعية تتطلب فصل الزمن الشخصي عن واقع البيئات التي لا يكون فيها الوعي بالبعد الزمني إلا تقليديا تحدده المهام الوظيفية. من هنا نفهم مؤدى ما يقوله كافكا بأنه يحتاج إلى العزلة ليكتب، لا عزلة الناسك لأن ذلك النوع لا يلبي مطلبه بل عزلة الميت.

يصعب القبض على الزمن في طوره المكثف خارج لحظات القيام بالعمل الإبداعي أو الانسحاب مع فصول كتاب يزيد من قيمة الوقت ويكسبه صفات معينة، وبذلك تنشأ الخصوصية في الإدراك للزمن ويتشابك الإحساس به مع التحول على الصعيد المعرفي. هل يترتب ذلك باستمرار مع قراءة كل كتاب؟ ماذا عن الكتب التي يتعثر بها القارئ وتشده إلى وحل الرتابة؟ وما يقودنا إلى هذا السؤال هو تصاعد عدد الكتاب نتيجة وفرة المنصات التي تتيح فرصة النشر، وقد تعاني المكتبات في المستقبل من تضخم المحتوى وندرة المتصفح.

ومن المعلوم أن دافع الكتابة ليس إبداعيا في جميع الأحوال وقد يتوسل المرء بالكتابة للعودة إلى الواجهة بعدما تنصرف عنه الأضواء وهذا ما ينطبق على الوجوه السياسية التي تراودها الرغبة في الحضور من بوابة الكتابة بعد مغادرة المنصب أو خسارته. على أي حال فكونك قارئا أكثر أهمية من كونك كاتبا حسب رأي الكاتبة الأميركية كيت زمبرينو، لكن الاصطدام بعناوين مخيبة للأمل أمر وارد.

وما يواسي القارئ في مثل هذا الموقف هو ما كان يردده فرناندو بيسوا مع نفسه “قد يحبطني النص الذي أقرؤه، لكن لن يقلقني هاجس أني أنا من كتب هذا النص”. إلى جانب النصوص المحبطة توجد الأعمال التي تصادر زمنا واسعا في ماراثون القراءة قسمها مرتبط باكتشافاتك الشخصية كما تشارك غيرك في قسمها الآخر. ولا تخلو هذه الحالة من التورط في قراءة ما دون مستوى المتوقع، إذ قد يهمك أن تتابع كل ما نشر عن كاتبك المفضل وتلاحق ما يعلن عن أعماله الجديدة، غير أن ما تتفاجأ به ليس الانعطافات الإبداعية بل التكرار والتدوير، ما يعني أن الكاتب يعول على مجد أعماله السابقة، وهذا مقتل للإبداع والتجدد.

لا ننكر بأن للأسماء غواية وقد تسبق على النص وتضيق المجال على معايير الحيادية والموضوعية. لعل اقتراح فوكو لاختبار الكتابة بدون الأسماء لمدة عام واحد مرده ملاحظة مؤلف “الكلمات والأشياء” لدور الاسم في توجيه القراءات، وهيمنة النخبة المكرسة على المشهد.

أيا تكن النظرة للقراءة وملابسات الوثوقيات الثقافية فإن ما يضاعف من رفقة الكتب هو طبيعتها المجانية وتكثيفها للزمن، وحسن التدبر للوقت، رب عبارة لن تسمعها من القارئ أبدا “الوقت لا يمر ماذا أفعل به؟” إذن يتخذ الزمن على كنف القراءة معنى آخر ولا يكون خاويا أو متثاقلا في حركته، إذا كان الزمن لديه محدودا يقتنص من ذراته لصناعة المعنى وبالطبع لا يمل من زمن ممتد لأنه يجد فيه مجالا لبناء أعراف جديدة في القراءة.

أكثر من ذلك فإن ماكينة الاستهلاك غيرت مذاق القراءة فالأولوية هي لتحويل النشاطات اليومية إلى محتويات صوتية ومرئية ولا ضير من هذا المنحى إذا كان الغرض منه نشر الأعمال القيّمة وتقديم ما يناسب طبيعة تلك الوسائط. لكن من الملاحظ أن هذه الحالة أصبحت لوثة طالت الجميع، وقد تفسر عدم فاعلية المثابات الثقافية.

وما استدعى الاسترسال في تناول موضوع القراءة هو السؤال الذي طرح سلفا عن ترابط بين صلاحية الكتب وزمن القراءة. ومن المعلوم أن الكتب التي قد يكون لها نصيب لأكثر من قراءة، وتعاد الرحلة إلى صفحاتها هي من صنف نادر وهذا لا يقلل من قيمة العناوين التي لا تحظى إلا بقراءة واحدة. ولا يعني بأن النوع الأخير يتم إقصاؤه، لأن التشكيلة بأكملها تكشف عن حيثيات تكوين الزمن الشخصي وعرفك في الاختیار ومراحل نشوء التفكير المعرفي وتحديد الخط الذي تتخذه اتجاهات القراءة.

وبما أن الإنسان لا يولد قارئا فبالطبع تتطلب الدراية بهذا العالم معاينة الكثير من العناوين ومصاحبة أكبر عدد من الأسماء في بداية الطريق. وعلى هذا النحو ينضج الإدراك. والطريف في رحلة القراءة أن كل ما يفوت المرء قراءاته من الأعمال النوعية في مرحلة البدايات يمكن العودة إليه، وبهذا يكون منسوب التشويق الأوفر كما أن العناوين التي تلوح أطيافها في الذهن مع قراءة كل عمل جديد تؤكد بأنه على الرغم من الانقطاعات التي قد تشهدها مسيرة القراءة والانتقال من مجال إلى آخر في سياق الأزمنة المختلفة لكن ثمة خيطا ناظما لهذه الحلقات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى