كمدخل فلسفي مبسط، يعود السؤال هنا على الفرد ذاته: من أنا؟ ما علاقتي بهذا المحيط؟ ما هو هذا المحيط الضخم؟ هل هو الكون؟ فما هو هذا الكون؟ وما هي علاقتي به؟
ابتداءً، نحن نحتاج إلى طرح سؤال آخر، حيث يرد معنى الرؤية الكونية في العالم وتحريرها، وبالتالي تحديد موقع الذات البشرية فيها في الرواية الأكثر تداولاً عنها، بحكم أنها رواية محكمة لقصة الإنسان ومن حوله، وحتى ما غاب عنه. فنصبُ هذه الرواية حاكمة على الإنسانية، لكي تصل إلى مرحلة التقدم الإنساني، أهو تقدم إنساني أم إنسانوي؟. تلك حكاية أخرى بسطناها في مواد سابقة.
لكن المقصد المهم في تحرير الفارق أن الإنساني هو ذلك المضمار الذي يقوم على قاعدة أخلاقية عميقة، في حق المساواة البشرية، وفي حظها من صفاء الروح وسكينة الجسد. أما الإنسانوي، فهو حصيلة كتلة العبور الفلسفي للذات (المتفوقة)، ثم قاعدة التنفيذ العلمية الأكاديمية لها، والمشروع السياسي الذي قام عليها، أو مصاحباً لها، دون أن يعني ذلك عزل الفكرة الدينية.. ونحدد هنا الحالة المسيحية الغربية، التي تشكلت منذ سقوط الأندلس، وزحف الممالك الرومانية للهيمنة الشاملة على الأرض، عندما تم تحييد الإسلام العالمي وفكرته الكونية.
وبالقياس على كِلا المسارين، فإننا نعتمد هنا المصطلح الإنسانوي لوصف الفكرة المنحرفة، الذي اعتمده إدوارد سعيد، وهو ليس محصوراً في مسيرة الاستشراق، ولا في أكاديميته، وإنما في تحديد القيمة الإنسانية في هذا المشروع، من حيث المآل الأخير الذي نحتاج لتفكيكه، وليس بالضرورة للطعن في كل مسيرته.
إن مركز التفكيك هنا يناقض المصطلح ذاته؛ إذ إن حسم المرجعية المطلقة عن العالم في المادة الصلدة والصُّدفة، ثم تحسسها عبر مصالح هذا (الإنسان) الجديد، الذي غابت عن تاريخه قصص الأنبياء، وميراث التكوين الأول لآدم وحواء، رغم أنها قصة متواترة بصورة مذهلة، ثبت في الديانات السماوية، وتسربت كعقل بشري تراثي قديم، تأثر بمنقولات الأديان الروحية، وبات وكأنهُ قاعدة انطلاق مبسطة لرحلة الإنسان في هذه الأرض، فآدم هنا لا وجود له في (العالم الحديث)، ولا أصل له في المرجع المادي المطلق.
إن مجرد العزل في فكرة التكوين الأولى عن أصل الروح، يثير شكوكاً لديك في قدرة الغرب على تصور الكون العظيم، حيثُ الذات البشرية هي جزء من مركباته البسيطة جرماً، إلا أن الفارق الذي أُودع في جسده وفي تخلقه، هو ذاته الذي يبعث السؤال أو نور البحث العتيق عن ماهية الإنسان، ولماذا هو وحده يملك هذا التكامل بين عقل التساؤل وبين حاجات الجسد، ويتفرق عن بقية أركان هذه الأرض نفسها، قبل أن نصل إلى بقية الكون.
كيف يكون للغرب رؤية كونية، ومعنى البحث في الكون يحمل العقل البسيط، والعقل المتقدم، في عوالم الفلسفة، لما بعد البصر والسمع التجريبي؟ ونحن هنا في مقدمة المقدمات، فلم نَعبُر بعد لما بعد الطبيعة.. كيف يكون هناك كون وأنت تحيل كل ما يحيط بك وفيك إلى كتلة صغيرة جداً، من خلية المادة، التي -في أصلها المجمع عليه- لا عقل لها ولا استنطاق، ولا روح تؤمن بها، وهذه الروح وعبورها بين العقل والقلب هي قصة التساؤل، وطريق البحث فيما بعد الأرض والجسد، وهو هذا الكون الفسيح؟!
ومن المسلم به، أن أول اكتشافات قديمة جداً في تاريخ الفلك، سواء أكان من العصور اليونانية القديمة، أم في علوم المسلمين التي أُسست ولم تطور وحسب، فقفزت بعلوم الفلك والمجاهر الأولى التي تبحث في هذا الكون، هو الكشف عن اليقين فيما بعد الاستشعار التجريبي؛ فهنا المحرك للبحث سؤال العقل، وتحسس الروح، ولكن هذه الروح لا قيمة فارقةً مفصليةً فيها، ولا تفسير علمياً منضبطاً لها، في فلسفة الغرب الحديث.
والزعم المكرر بأنها تشكلت عبر حتمية تاريخية، لا حتمية تؤكِّده، ولا دليل يصمد لصالحها.. فكيف ينطلق التصور البشري إلى إدراك هذا الكون الضخم، الذي كان يغيب عن الآباء الفلكيين المؤسسين، ولا يزال -بالقطع- لا يمكن إدراك نهاية عالمه السماوي، الذي تُثبت دلائل هذا العلم وجود المجرات فيه، ولا يزال الإنسان عاجزاً عن تحويل جرم صغير جداً في المجرة -لم يُسمّهِ بل ورث تسميته من الكتب السماوية قمراً منيراً- فيجعل منه مستوطنة بشرية؟!
وحتى محاولات نقل هذه المستوطنة إلى المريخ، فهي لا تقوم على اكتشاف محيطٍ جاهز مرتب، يعيش فيه الإنسان وعالم الأحياء كما وجده على الأرض، وإنما خُلقت قواعد فضائية، صممها عقل الإنسان ذاته، وحُولت الى منشأة مجهزة ببيئة خاصة، تلائم الإقامة المؤقتة -لا المستدامة- مهما طالت، فهنا لا الخلق كخلق الأرض، ولا حرية الذات البشرية وانسجامها مع الطبيعة في المستوطنة، كما هي سلاسة هذا الكوكب الأرضي.
كيف لعقل بشري ينكر يقينيات كونية حوله، وينكر تناغم جسده مع محيط كوكبه، أن يتصور رؤية كونية للعالم؟!