مقالات
أخر الأخبار

السنوار.. نسخة مكررة

بقلم: كريم الشاذلي

كريم الشاذلي

قالها سيد شباب أهل الجنة وهو خارج لإثبات موقفه التاريخي: “خُطّ الموت على ولد آدم مَخَطّ القلادة على جید الفتاه”.. المكتوب مكتوب على الجميع، غير أن الفارق هو “كيف تموت؟”، واقفا أم- أعزك الله- قد داستك الأقدام فلم يلحظ موتك أحد، كما لم يلحظ حياتك أحد.

الكبار يموتون؟ هذا أمر مفروغ منه، غير أن ما جعلهم كبارا هو أنهم خُيِّروا فاختاروا.. اختاروا مواجهة الموت والنظر في عينه، وغيرهم يهرب من ظله، ويتهيب ذكره.

قبل قليل أعلنت وسائل الإعلام خبر استشهاد “يحيى السنوار”، القائد الذي طور المقاومة في فلسطين، وأسس جهازها الأمني الداخلي، والذي- وبعدما رأيناه هنا وهناك- لا يسعنا إلا الانبهار بإحكام الرجل قبضته على كل شبر في بلدته، وولاء أتباعه للقضية التي بايعهم عليها، ويكفي استشهاده (رحمه الله) أثناء اشتباك على سطح الأرض، وليس بسبب معلومة، أو خلل استخباراتي.

ولأننا لا نتلقى العزاء حينما يرتقي منا شهيد، بل نودعه في احترام وبهجة واحتفاء، فلا عتب عليَّ أن أزيح دفتر العزاء عوضا عن فتحه، وأتأمل معكم كيف أن حياة الناس ليست سواء..

في غزة لا ننظر إلى السنوار بإعجاب، بقدر تأملنا في الحالة الفلسطينية بأكملها، فبعد أكثر من عام كامل من الحرب على القطاع المحاصر، وباستخدام كل وسائل البطش المتاحة، وتلك التي عرفنا بعد ذاك أنها متاحة، نستطيع ببساطة شديدة جدا أن نفهم أن السنوار ليس استثناء، ولا نسيج وحده، ولا أنموذجا فريدا بين شعب فلسطين، ربما يعلو بحذائه فوق كثير من أنطاع العالم ومتنطعيه، لكنه في تلك الأرض الصامدة، وبين إخوانه، أنموذجا مكررا، نزفه، ولا ننظر إلى موقعه ومن ملأه، سيملؤه من يذيق الشر وبالا، وينغص على الأوغاد حياتهم ومماتهم.

سننظر لمناقب السنوار لنتعلم، تلك المناقب التي لن يعيها الناس في ظل التباس الإنساني بالعسكري، والإجرام بالبطولة، والشهامة بالخسة، غير أن ما نراه اليوم من اختراق أمني لدول كبرى كإيران، وتنظيمات أكثر براحا واستقرارا من الفصائل الفلسطينية كحزب الله، يجعلنا ندرك أي منجل ذاك الذي حمله مستأذنا من شيخه المجاهد “أحمد ياسين” كي يبدأ رحلة تنظيف الداخل من العملاء، والضعفاء، وأصحاب النفوس المهزومة.

فعلها مذ كانت غزة محتلة احتلالا كاملا، كان يرى أن البيت الذي أهمل تنظيف داخله، لن يستطيع مواجهة تحديات الخارج الكبرى بظهر مؤمن، وذهن يقظ..

السنوار- كما يليق بفلسطيني- حكم عليه بالسجن المؤبد، غير أنه خرج في صفقة تبادل بعد أكثر من عقدين من الزمن، قضاهما في دراسة اللغة العبرية، وفهم النفسية الصهيونية، واستيعاب كل نقاط الضعف والقوة لدى العدو، متجهزا لوثبة، عندما حان وقتها أذهلت العالم، وأصابت دولة الكيان بالرعب.

السنوار صاحب بأس، تماما كأي فلسطيني! أذكر أثناء زيارتي لقطاع غزة ضمن وفد الكتاب والصحفيين، وبعد معرض كتابها الأول الذي عقد في عام 2012، أن قامت دولة الكيان باغتيال القائد أحمد الجعبري، وخلال ساعات قامت الحرب، وكان على أهل البلدة أن يؤمنوا ضيوفهم، ما جعلنا عبئا عليهم، وبعد يومين من بدء الحرب خرجنا إلى معبر رفح بعدما مررنا على مستشفى الشفاء، وشرفنا أنفسنا بالسلام على الجرحى، وتوديع من ارتقوا أثناء خروجهم محمولين على أكف إخوانهم، والزغاريد تحيط بهم.

وأثناء مرورنا وصوت التفجيرات يطارنا، وطائرات الاستطلاع أو”الزنانة”- كما يسمونها- تظللنا بصوتها المستفز، إذ بمشهد يلفت نظر مرافقي وصديقي الكاتب الكبير الدكتور نبيل فاروق (رحمه الله)، وهو مشهد إقامة عرس أثناء الحرب، ورجال يعلقون الزينات والأنوار.

التفت الدكتور نبيل لمرافقنا الفلسطيني قائلا: “أظن أنه أمر غريب أن يتزوج أحد أثناء الحرب، ثم إن من عادات العرب إخفاء مظاهر الفرح والشهداء يسقطون”.. ابتسم مرافقنا قائلا: يا سيدي، وهذا أيضا من المقاومة!

لا شيء يؤلم عدوك بقدر رؤيتك غير مبالٍ بما يفعله، جانب الألم في القلب محفوظ لا مزايدة عليه، غير أن ألم أصحاب العرس أشد، إنهم يقاومون بإثبات أنهم يحبون الحياة.. يريدون العيش، ينظرون للغد.. وفوق هذا، يكتمون الوجع فلا يشمّتون فيهم عدوا..

هذا شعب عنيد، يقاوم بالموت والحياة، ولقد تزوج السنوار فور خروجه من السجن ورُزق بإبراهيم، وهذا مما يوقفك في تأمل.. هل أحب الرجل الحياة، أم الموت.. كِلا الأمرين في فؤاد الرجل سواء..

هذا الشعب العنيد يحب الحياة لكنه يرفض أن ينحني ليأخذها.. يرفض أن تكون حياة “دايت” خالية من الكرامة.. وإلا فأهلا بالموت، نطلبه ونحن نفرح، ونعيش، ونتزوج، ونغتنم صفو الليالي غير آبهين بكدرها..

أختم مقالي بعد ست ساعات كاملة من إعلان إذاعة الاحتلال نبأ استشهاد الرجل دون تأكيد رسمي.. حتى في موته كان صادما، محيرا، ولو صدقت الرواية التي رويت- وفي الغالب أنها سربت- عن مقاومته لجنود منهم، وموته محتضنا سلاحه، مقبلا غير مدبر، فوق الأرض.. ولا ملامة إن كان في باطنها، أقول لو صدق كل هذا، فلا جديد يمكن أن يدهشنا..

لقد أوقفت فلسطين عضلة الدهشة فينا، ولقد نجحت الغاشمة أن تهيج عوضا عنها عضلة الألم مما تفعله بإجرامها في شعبنا الأعزل، دون أن تنجح في محاصرة مقاومته.. فتمزق الفؤاد بين وجع يخلف عجزا، وفرح يغذيه صمود الرجال، وملاحم الأبطال..

لكنها فلسطين.. لا شيء يشبهها.. حتى في طينة الرجال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى