بقلم: أسامه عبدالرحيم
:
“لا تبدأ الحروب بالقنابل، بل بالعناوين، ولا تُفرض العقوبات بالقرارات فقط، بل بتجفيف التعاطف الإنساني. الشيطنة هنا تؤدي وظيفة مزدوجة: إسكات الأسئلة الأخلاقية، وتحويل الجريمة من فعل مدان إلى ضرورة أمنية. وحين تنجح هذه العملية، يصبح الرأي العام شريكًا صامتًا.”
مدخل: خيط العنف الخفي
ليست المصادفة وحدها ما يجمع بين حادثتي سيدني وتدمر، رغم التباعد الجغرافي واختلاف السياقات الظاهرية. في الحالتين، يظهر خيط خفي يربط بين العنف، وتوقيته، وطريقة توظيفه إعلاميًا وسياسيًا.
هذا الخيط هو الشيطنة: تحويل جماعات بشرية أو جغرافيا كاملة إلى “خطر وجودي” يبرر كل إجراء لاحق، من قمع وتشديد أمني، إلى عقوبات وحروب غير معلنة. حين نضع الحادثتين في إطار واحد، يتضح أن الدم لم يكن نهاية القصة، بل بدايتها.
- في سيدني: شهدت المدينة حادثة إطلاق نار مروعة استهدفت تجمعًا دينيًا يهوديًا، جريمة صدمت وأثارت الرعب. وسط الفوضى، برزت شجاعة فردية حين تصدى تاجر فاكهة مسلم لأحد المعتدين، لكن الحادثة صُوِّرت في إطار جماعي مشوه يُلصق المسؤولية بمجتمع بأكمله.
- في تدمر: أعادت العمليات الإرهابية بقيادة “داعش” توجيه الأنظار إلى هشاشة الأمن، خاصة بعد انتهاء مهلة دمج “قسد” في الدولة السورية وقبيل التصويت على إلغاء “قانون قيصر”. الهجوم كان أداة لإبطاء استعادة السيادة الوطنية وتعطيل أي مسار سياسي أو اقتصادي.
الشيطنة كأداة لإدارة الرأي العام
الشيطنة ليست رد فعل عاطفيًا، بل عملية منظمة تبدأ قبل وقوع الحدث وتُستثمر بعده. لغويًا، يتم تجريد المتهم من فرديته وتحويله إلى رمز جمعي: “المسلم = إرهابي”.
تقول الصحفية سمر دهمش جراح:
“صهاينةُ أمريكا يستغلّون حادثة أستراليا لإثبات أن الدين الإسلامي برمّته يشكّل خطرًا على الحضارة الغربية.. ويأتي ذلك بعد أن نصحت شركةُ استطلاع رأي أمريكية الكيانَ بالبحث عن ‘عدوّ’ جديد يُرهب العالم عقب حرب الإبادة التي شوهت سمعته.”
تبدو “قسد” كأداة وظيفية بيد إسرائيل داخل سوريا لإرباك المشهد وإعادة إنتاج الفوضى بما يخدم مصالح إقليمية، بعيدًا عن أي حديث حقيقي عن محاربة الإرهاب.
استعادة السردية: ما بعد هزيمة غزة الإعلامية
ما حدث في غزة كان هزيمة أخلاقية وإعلامية غير مسبوقة لإسرائيل، حيث تشكل رأي عام عالمي يراها قوة احتلال. هنا تتحرك أجهزة الاستخبارات (وعلى رأسها الموساد) لإعادة توجيه البوصلة:
- نقل الاهتمام من الجرائم الإسرائيلية إلى “خطر التطرف الإسلامي”.
- إعادة تموضع إسرائيل كـ “حليف حضاري” في مواجهة تهديد مشترك.
- استثمار كل حادث فردي لزرع الخوف وإعادة تعريف “العدو”.
حادث سيدني وتدمر: وجهان لعملة واحدة
- في سيدني: تم توجيه اتهام جمعي للمسلمين في زمن قياسي، مع تجاهل تعمدي لبطولة الشاب المسلم الذي تصدى للمهاجم، لأن التفاصيل الواقعية تُربك السردية المطلوبة لزرع الخوف الداخلي.
- في تدمر: عودة داعش المفاجئة تؤكد رسالة واحدة: “سوريا غير آمنة”. يتبنى وزير الحرب الإسرائيلي إسرائيل كاتس رواية “قسد” بحذافيرها، مما يثير التساؤل عن التنسيق الاستخباراتي وتناقض التصريحات مع الحليف الأمريكي (ترامب).
الإرهاب هنا يعمل كورقة جاهزة للاستخدام؛ فكل عملية تعني تعطيل الاستثمار وإعادة الإعمار، مما يخدم القوى التي ترى في استقرار سوريا تهديدًا لمصالحها.
الخلاصة: من المستفيد؟
في سيدني كما في تدمر، الدم ليس الهدف النهائي، بل وسيلة لإعادة ضبط المشهد:
- في الغرب: يُستخدم الخوف لإعادة تعريف “العدو” بعد أحداث غزة.
- في الشرق: تُستخدم الفوضى لتعطيل مسارات الاستقرار.
يؤكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن “قسد” تستمد جرأتها من إسرائيل، بينما سارع نتنياهو لاستثمار الحوادث لتخويف الغرب من انتقاد إسرائيل بدعوى أن ذلك “يخدم الإرهاب”.
يبقى السؤال الجوهري:
هل من قاموا بهذه العمليات كانوا جهلة لا يفهمون النتائج السياسية لجرائمهم، أم أنهم كانوا موجهين من جهات استخباراتية لها مصلحة؟ النتيجة واحدة: عالم يُدار بالخوف، وتُختصر قضاياه في شعارات أمنية.
السؤال ليس: من ارتكب الجريمة؟.. بل: من استفاد منها؟







