تعتبر الصورة اليوم المشترك المتحقق في ميادين المعرفة والفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية وصولا إلى مجال الدراسات السيمائية.
ومن هذا الأساس كانت مقاربة ملتقى خطاب العلامة البصرية الذي نظمه مخبر بحث دراسات إنشائية في كلية الآداب بسوسة هذا الشهر جامعا بين اللغة والعتبات والمسرح والحضارة والإعلانات والرسوم المتحركة، والذي نشرنا جزءا أول من تغطيته في عدد سابق بالـ”العرب”.
العين والنص
في مداخلته أكد الأكاديمي رضا بن حميد مدير الملتقى ورئيس المخبر أن الاهتمام بخطاب العلامة البصرية يتجاوز ما كان سائدا من اعتبار النص مُتصورا ولغة ويتنزل في إطار فتْح آفاق نقدية جديدة، فلئن انشغلت الدراسات النقدية الغربية بالعلامة البصرية منذ أواخر خمسينات القرن الماضي، إلا أنها على المستوى النقدي العربي مازالت في حاجة إلى إمعان النظر باعتبار الصورة قد باتت عنصرا مؤسسا للانفعالات بل فعلا أعمق أثرا من المكتوب أحيانا لأنها تبوح بما يُعجز الكلمات، ولعل سياسة طمس الصورة هي اجتثاث للهوية وللقيم.
وأجرت مداخلات الملتقى مقاربات مختلفة المشارب لفعل الصورة وخطابها وتأثيرها وفق نماذج مختلفة طالت المسرح والإعلانات (الإشهار) والرسوم المتحركة.
وفي مسعى لإزالة اللبس بين ما هو مُدرك وما هو مُتصور أثبت الأكاديمي شكري السعدي الفرق بين التجربة البصرية الخام التي تقع في مستوى الإدراك العفوي أو الإحساس البصري، الذي يمثل شكلا من أشكال القصدية المعبرة عن ارتباط الذهن بالعالم، وبين التجربة البصرية وقد استحالت إلى تصور بمقتضى ما تفرضه عليها العلامات اللغوية من تعديلات.
ويذهب الأكاديمي المحاضر إلى أن التجربة البصرية الخام تجربة ما قبل لغوية عارية عن كل معنى وخالية من كل دلالة ولا تستحيل كذلك إلا في إطار نظام سيميائي يتألف من دال ومدلول ومرجع وبمقتضى تواطؤ مسبق بين الباث والمتقبل ومقصد تواصلي يجعل لكل علامة بصرية قيمة دلالية.
أما الأكاديمي المغربي عبدالله حدادي فقد اعتبر مقاربة العلائق القائمة بين النص منجزا لغويا والصورة منجزا مرئيا فتحا لمجال التفكير المقارن ومقاربة تجعلنا أمام فضاء متعدد الاختصاصات يقتضي تعدد المعارف، خاصة مع هدم الحدود بين المنجزيْن انتهاء عند تنافذهما وعلاقتهما الديناميكية، وهو ما يتطلب منا الإقرار بضرورة التبادل بين عالميْ القول والرؤية.
وأكدت الباحثة الجزائرية ذهبية حمو الحاج في مداخلتها أن العلامة اللغوية القائمة على دال ومدلول تتفرع علاقتهما، قد أصبحت غير بعيدة عن العلامة البصرية التي تحتل موقعا مميزا في وسائل التواصل الحديثة، وهو ما يدفعنا إلى القول إن العلامة لم تعد مؤسسة على دال ومدلول فقط وإنما جعلها الإنسان تستدعي معالم أخرى كالعلامة البصرية التي تواكب طريقة تفكيره وعالمه التواصلي المتزاحم بالمعطيات الجديدة التي تفرضها التكنولوجيا المعاصرة.
وفي إطار سيميولوجي عُني الباحث العماني علي بن حزام المعمري بدراسة التشكل البصري في المصحف الشريف على مستوى العين المجردة، أي الجانب الصُوري فيه، وهو ما اعتبره أمرا مستجدا لم يسبق أن تعرضت له الدراسات التي اهتمت بالتشكل البصري والمجالات الأدبية والخط العربي.
وقد اشتغل على العتبات والأطر الزخرفية للصفحات وفواتح السور القرآنية منتهيا إلى تحول الرسم العثماني إلى علامة بصرية قرآنية يتعاضد فيها التشكل السمعي والبصري من خلال توفيقية الرسم العثماني إلى جانب ابتكار المسلمين لعلامات بصرية خاصة بهذا الرسم مثل: اصطلاحات الضبط والنقط والشكل وعلامات الوقف والعلامات البصرية الضابطة لأحكام التجويد وتوظيف الزخرفة البنائية والهندسية والتذهيب في عتبات المصحف والاشتغال على اختيار ألوان مناسبة للغلاف حولت الشكل البصري إلى راحة نفسية للعين والنفس.
الملتقى أثار بنجاح السؤال المعرفي المركزي حول خطاب العلامة البصرية التي تحيطنا من كل جانب في عالمنا اليوم
وهناك ضرب من التواصل البصري الذي يرسيه الغلاف الجامع لخطابي الصورة واللغة. والغلاف عتبة أولى تستقبل القارئ ويستبق فعل العين فيها أثر القراءة، لذلك فقد تم الخوض في هذه المسألة بتقديم شهادتين للأديبتين التونسيتين مسعودة بوبكر وآمنة الرميلي تعلقتا بموضوع الغلاف في علاقته بصاحب النص أولا، وبصائغه ثانيا، وبالقارئ ثالثا، وبالجهات الخارجة عنهم رابعا.
واستهلت الروائية والمترجمة مسعودة بوبكر شهادتها بالكشف عن حيرة الكاتب جراء عملية اختيار الغلاف باعتباره حلة يلبسها نصه قبل أن يدفع به إلى الناشر والقارئ من بعده. واعتبرت الغلاف وجها والأمور تقاس بوجوهها، والوجه هو الاستدلال الأول للشيء باعتباره يخاطب العين قبل الترحال بين السطور والصفحات.
وكشفت معاناتها حيرة انتقاء أغلفة كتبها، ودعت الكتاب إلى الاستئناس بروح النص وعمق ألفاظه ومعانيه في اختيار الغلاف، وسردت على مسامع الحضور حكايات رافقت عملية اختيار أغلفة بعض كتبها إما اختيارا ذاتيا تستلهم فيه روح نصها أو ملامح أبطاله أو السياق المرجعي المولد للحكاية وإما بالتعاون مع الناشر في تصوره لصورة الغلاف معرفة أولى تخترق عين القارئ.
وهذه الكتب هي رواياتها الأربع: وداعا حمورابي، طرشقانة، ريح الصبار، والألف والنون، وترجمتها لكتاب آن فيليب: إنما العمر زفرة، وأخيرا يومياتها المعنونة بـ”حقيبة وذاكرة” لتستخلص أن الغلاف هو الوجه الدال للكتاب، وهو الذي يأذن بعملية الحوار مع القارئ فيكون التواصل ومن بعده بناء المعنى.
أما الأكاديمية والروائية آمنة الرميلي فقد أكدت في شهادتها أن الغلاف موطن جامع مانع، يجمع بين الصورة واللغة من أجل رسائل كثيرة تنتجها قراءته وأشادت بعناية النقاد ومحللي الخطاب اليوم بالغلاف خاصة في الأطروحات الغربية واعتبرته لباسا للكتاب يستبق موقف القارئ منه.
واستندت إلى موقف رولان بارت القائل إن الصورة اليوم أقوى من الكلمة باعتبارها تفرض الدلالة دفعة واحدة، وتساءلت عن أسباب هذه القيمة الكبرى واعتبرت الغلاف يخص أطرافا تقع خارج النص والكاتب والقارئ، وتهم عملية التصميم الفني والترويج. وقد جردت الكاتب من سلطة وضع تصور للغلاف في أكثر الحالات وأقرت بتدخل أطراف كثيرة وقوية معه في صنع هذا الغلاف قصد بيع الكتاب وترويجه أو قصد تقبله من طرف المجتمع.
وانتهت إلى أن الغلاف حامل لقصديتين رئيسيتين: قصدية الكاتب وقصدية الناشر، وهما تتصارعان؛ الأولى لإيصال الكلمة والثانية لبيعها. واشتغلت على نماذج من أغلفة كتبها وهي: “المرأة والمشروع الحداثي في فكر الطاهر الحداد”، و”كتابة القتل في الأدب العربي القديم”، ومجموعتها القصصية “الجيعان”.
الصورة في المسرح والإشهار
حظي المسرح بحظ وافر من الأطروحات المشتغلة على العلامة البصرية المسرحية، بعضها باللغة العربية وكثيرها باللغة الفرنسية وبعض مما جاء فيها في تناول الأكاديمي رمضان العوري مسألة “القراعلامية”، وهو مصطلح اجترحه للغرض ومكنه من قراءة العلامة تاريخيا وآنيا منذ نشأتها على يد اليوناني أغا تاركوس، وهو أول من جسد نصا مسرحيا برسم زخرفي في القرن الخامس قبل الميلاد، وصولا إلى عصرنا الحاضر، حيث تطورت العلامة البصرية على مر العصور، ولم تعد مجرد وصف يستنسخ النص المسرحي، وإنما صارت مُؤولا ومتمما له فاعلا في إنتاج الدلالة. وكانت لذلك انعكاساته الإصلاحية والبراغماتية في معالجة العلامة الركحية، وأدى إلى تعويض الديكور أو الزخرف والسينوغرافيا ثم الجهاز الركحي.
وأكدت الأكاديمية سلوى الباجي بن حميد أن الخطاب المسرحي خطاب مخصوص يجمع بين الأدب والفن ولا يكتمل إلا بالفرجة والإخراج والسينوغرافيا التي تجعل النص نظاما إشاريا يتجاوز اللغة إلى لغات مثل لغة الجسد والإضاءة والموسيقى واللباس والحركة وتعابير الوجه ونحوها من نظام إشاري تبنيه العلامة البصرية.
واللافت للنظر أن النص المسرحي يقوم على منمنمات ركحية لها مواقعها الخاصة ونظامها الذي تبنيه العلامة المصاحبة للحوار والمضطلعة بوظائف كثيرة. ثم انصرفت المحاضرة إلى قسم إجرائي تعلق بعرضين لمسرحية الكاتب إدمان روستان.
الخطاب المسرحي خطاب مخصوص يجمع بين الأدب والفن ولا يكتمل إلا بالفرجة والإخراج والسينوغرافيا التي تجعل النص نظاما إشاريا يتجاوز اللغة
أما الباحثة مروى كرعاني فقد تعلقت مداخلتها بتحليل لقطة مصورة من مسرحية ألفريد دي موسيه وأنطقتها باهتزازات الشخصية نفسيا وشعوريا، وجعلت النظرة دالة على مشاعر متناقضة للشخصية من خلال بعدها الثنائي واعتبرتها علامة بصرية لنهاية فعلية، مؤكدة أن الخطاب المسرحي خطاب بصري بالأساس.
ولعل فن السينوغرافيا هو الفضاء الأمثل لتحديد التعاضد بين العلامة اللغوية والعلامة البصرية في العرض المسرحي لتحقيق الغاية التأثيرية، وهذا ما جاء في مداخلة الأكاديمي علي بن عبدالله، التي استهلها بعرض مفهوم السينوغرافيا كفن يهتم بتأثيث الخشبة، وقد انفتحت اليوم لتصبح أكثر توسعا بما أنها قد استعملت مواد مختلفة في التأثيث بما في ذلك التقنيات الحديثة وصارت عنوان نجاح العمل المسرحي وضمان التأثير في المتقبل.
وأشار إلى دور كل من المخرج وكاتب النص لصياغة رؤية مشهدية متكاملة تضمن الدور الدلالي والتواصلي، ثم أكد على وظيفة النص الموازي الذي يظهر في الإشارات الركحية واعتبره عنصرا سينوغرافيا يحقق التواصل بين صاحب الأثر الفني والمتقبل، ليخلص إلى أن السينوغرافيا المسرحية نجحت في تقديم تشكيل بصري صوتي تواشجت فيه العلاقات بين العلامة اللغوية والعلامة البصرية المشهدية.
أما عن العلامة البصرية في الإشهار والرسوم المتحركة، فاستنادا إلى القراءة السيميائية قدم الأكاديمي عماد محنان مداخلة حول إحدى العلامات التجارية الرياضية الشهيرة (أديداس) وبحث في ظروف نشأتها وتشكلها على النحو الذي يتداول اليوم، مستعينا بمعطيات بيوغرافية عن مؤسسها وواضع اسمها ومصمم شعارها انطلاقا من مشاركته في الحرب العالمية الثانية بألمانيا وما رافق ذلك من ظروف ذاتية طبعت تصميم الشعار واسم العلامة.
وقد اعتبر المحاضر شعارها علامة بصرية دالة تردنا إلى تاريخ الفلسفة في تمثلها لحقيقة الإنسان حيوانا عاقلا ثم ربط بين الوقع النفسي لصاحب العلامة وما اختاره لها من شرطات ثلاث تعبر عن فكرة جمع الشتات ولم الشمل بين الإخوة بعد مأساة عاشها صاحب العلامة أدولف داسلار.
واستنادا إلى تحليل رياضي قدمه الباحث على شاشة العرض خلص إلى أن العلامة التجارية باعتبارها خطابا بصريا ليست سطحا دون عمق وأنها لا تقل شأنا من حيث تأويليتها عن سائر الأشكال الفنية البصرية.
أما المنطوق والمرئي في الخطاب الإشهاري فقد كان جوهر مداخلة الأكاديمي بلقاسم الرابحي الذي اعتبر الإشهار خطابا مخصوصا لغاية تأثيرية وهو خطاب جامع يتوسل أنماطا شتى من الخطابات القائمة على الإيجاز والمتفاعلة في ما بينها للتأثير في المتقبل ودفعه إلى شراء المنتج موضع الإشهار.
تكريم الأكاديميين صلاح الدين الشريف والبشير الوسلاتي اعترافا بما قدماه من بذل معرفي في مجالات كثيرة داخل الجامعة وخارجها
وتطغى العلامة البصرية اليوم على الخطاب الإشهاري متجاوزة بذلك سطوة العلامة اللغوية التي تنزع في الغالب إلى التوجه نحو الخطاب العامي المنفتح على ممكنات تأويلية مختلفة.
واختار الباحث النظر في العلاقة بين العلامة اللغوية والعلامة البصرية في الخطاب الإشهاري من خلال نماذج من اللافتات الإشهارية المعروضة في الطرقات والفضاءات المخصصة لها منتهيا إلى أيقونية الصورة أو العلامة البصرية في هذا النوع من الخطابات وتضافرها مع العلامة اللسانية اللغوية الموازية لها لتحقيق الغايات المنوطة بعهدتها.
وتعززت وجهة التناول هذه بتطرق الباحث الجزائري زبير بن سخيري إلى خطاب العلامة البصرية في الرسوم المتحركة بين المرجعية الثقافية وأيديولوجيا الترجمة في سلسلة “النمر المقنع” أنموذجا، منطلقا من استحضار دور الخطابات المختلفة والتصورات المتباينة في بناء المخيال الجمعي لكل جيل.
وكشف عن هوية هذه السلسلة كرسوم متحركة يابانية المنشأ بثتها القنوات العربية من أواخر الثمانينات إلى منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي خطاب مزدوج لغوي وبصري أُنتج في ثقافة يابانية تبحث عن الاندماج في الثقافة الغربية وخطابها بكل أيقوناته، ومن ثم كانت تعمل على تغيير مرجعياتها وصناعة جيل يستجيب لهذا التحول. فكانت الفكرة الأساسية في هذه السلسلة الكرتونية صناعة العدو الذي عرف تحولا في المجتمع الياباني من العدو الأميركي الذي دمر اليابان في الحرب العالمية الثانية إلى الخليج العربي الذي هدد الاقتصاد الياباني في أزمة النفط العالمية.
وقد جعلت الترجمة العربية لهذه السلسلة الخطاب مؤدلجا بالتركيز على خطاب العروبة القومي الإسلامي مقابل الآخر الشرير وقائما على الاشتغال الأيقوني النفسي في مستواه البصري الواعي.
وفي ختام كل هذه المقاربات نخلص إلى توفق وحدة البحث في إثارة السؤال المعرفي المركزي حول خطاب العلامة البصرية التي تُحيطنا من كل جانب وتُطل علينا من الأبواب المشرعة والثقوب الخفية فتأسر العين الرائية وتُشكل الدلالة وتمنح للوجود معنى.
خطوة معرفية أخرى قطعت على درب تلقف الإشكاليات المعرفية الجديدة انضافت إلى رصيد وحدة بحث دراسات إنشائية بعد ثلاثة عقود من العمر لفتح آفاق بحثية جديدة لقضايا مازالت راهنية البحث فيها دائمة. وقد ختم ملتقى خطاب العلامة البصرية أشغاله بتكريم الأكاديميين صلاح الدين الشريف والبشير الوسلاتي اعترافا بما قدماه من بذل معرفي في مجالات كثيرة داخل الجامعة وخارجها.
العرب