ثقافة وفكر
أخر الأخبار

“العرض المتحفي” كتابٌ لجعله عرضا مسرحيا

يأتي كتاب “العرض المتحفي” لأستاذ الآثار والدراسات المتحفية والباحث محمد جمال راشد، هادفا إلى لتقديم دراسة متكاملة عن صناعة العروض المتحفية، تخطيطها، ومراحل تنفيذها. حيث تبنى رؤية متحفية في تقديم العمل ومحتواه. وقد سبق وقدم للقارئ مدخلا لفراغات ومساحات العرض المتحفي ومتطلباتها أو خصائصها المختلفة في إطار مؤلفه “تصميم وعمارة المتاحف”، الصادر عن دار العربي للنشر والتوزيع في 2023، فيما يأمل أن يستكمل هذا الفرع بإصدار مؤلف ثالث عن صناعة العروض المؤقتة يصدر عقب هذا العمل.

يحاول راشد في هذا الكتاب تقديم صورة متكاملة حول العرض المتحفي، فلسفته، سياسات العمل، أنواع العروض وأنماط تقديمها، مراحل تنفيذ وصناعة العروض والفرق المشتركة فيها. وقد أولى اهتماما خاصا باستعراض عمليات إعداد الخطط التفسيرية وبرامج العروض المتحفية، بداية من اختيار الفكرة وإعداد الموجز مرورا بالتطوير الشامل للفكرة عبر تطوير برنامج العرض والخطط التفسيرية واختيار المعروضات وتصنيفها.

العروض المتحفية

يستعين راشد لتحقيق رؤيته بتحليل برامج العرض المتحفي لمتاحف وعروض، منها معرض “حياة، صحة، ورفاهية للملك توت عنخ آمون”، متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، معرض بناة مصر، بناة الحضارة. ويحلل أنواع العروض المتحفية من مراحل صناعة العروض المتحفية، وفرق العمل، وأنماط تقديم العروض المتحفية، والحالات التفاعلية للزوار بالعروض المتحفية، وصولا إلى ولادة واختيار الأفكار للعروض، وإعداد موجز المعرض، والخطة التفسيرية للمعرض. وقد استند المؤلف على الاستشهاد بالأمثلة والنماذج التطبيقية والأشكال الإيضاحية عبر فصول الكتاب. وذلك لتبسيط المفاهيم وتقديم صورة مبسطة مفهومة وقابلة للتطبيق والمقارنة للقارئ.

يؤكد راشد أن تحقيق الإتاحة والوصول يعد أحد أهم ثوابت المتحف. إذ دائما ما يؤكد تعريف المتحف على ضرورة تحقيق الإتاحة لمقتنياته وضمان الوصول إلى الجمهور باعتبار ذلك هو الحد الفاصل في النظر إلى أي مؤسسة ووصفها بالمتحف. ومن ثم، تمييزها عن المؤسسات الأخرى التي ربما تقوم بوظائف الجمع والصون كالأرشيف، ولكنها لا تحقق الوصول العادل إلى العامة على حدا سواء.

ويوضح “ارتبطت المتاحف بتحقيق الإتاحة والوصول منذ نشأتها. إذ تعتبر الإتاحة هي جوهر الفكرة الأصلية التي بنيت عليها المتاحف، تكاملا مع فكرة الاقتناء التي سبقت ومهدت لظهور المتحف. ويتلخص دور المتحف في أبسط صوره في الصون وإتاحة الوصول إلى الجميع. فتاريخيا كان دور المتحف يقف عند حد تحقيق الإتاحة لمقتنياته إشباعا لرغبات المتعلمين والدارسين والمهتمين بالفن والتاريخ والمعرفة. بما يعني أن العرض باعتباره الصورة المباشرة لتحقيق الإتاحة كان الوسيلة والغاية بصورتها البسيطة، إلا أن هذه الغاية (الهدف من قيام المتحف) تطورت واتسعت مع تطور دور المتحف ليمتد دوره في خدمة المجتمع وتنميته لكل صورة ممكنة قد تخطر بالبال لأفراد المجتمع أو القائمين عليه تحقيقا لرغبات واهتمامات المجتمع”.

ويخلص إلى أن أهم ما يميز المتحف هو مقدرته الدائمة على التطور استجابة لمتغيرات المجتمع والواقع المحيط أو المعاصر. وهذا أمر ربما نلمسه بوضوح في التحول السريع للتفاعل الرقمي منذ بداية أزمة كورونا 2020. ففي اليوم الذي أعلنت فيه الكثير من المتاحف إغلاقها للسلامة العامة صاحبتها خطوات للتحول الرقمي ومؤازرة المجتمع في خضم الأزمة بإتاحة المعروضات والأنشطة المرتبطة بها والعروض المتحفية بشكل افتراضي وعبر المواقع الإلكترونية للمتاحف على شبكة الإنترنت.

ويرى راشد أن الإتاحة، والوصول، لا تقتصر عند حد الفهم البسيط للكلمة، ولكن تشمل كل الجهود التي يبذلها المتحف (القائمين عليه) لتحقيق الفهم الصحيح والاستفادة المثلى للمجتمع من مقتنياته وفضائه سواء تم ذلك في نطاق فضائه المادي المحدود (صالات العرض والورش التعليمية)، أو بالمفهوم الشامل للإتاحة وتحقيق الوصول بالوسائل وعبر الوسائط المختلفة داخل وخارج الحيز المادي للمتحف (العالم الافتراضي، المنشورات، الأنشطة الخارجية). وبخلاف التنوع في أشكال العروض المتحفية بين العروض الدائمة، المتغيرة، والمؤقتة، المتنقلة، والافتراضية، فقد تحول المتحف إلى فضاء تساق عبره القصص والموضوعات وتقدم الأفكار وتناقش الآراء والروايات، فيما تلعب المقتنيات عادة دور الراوي أو الوسيط الذي تقدم عبره الأفكار وتنسج القصص والحكايات.

ويلفت إلى أن على صعيد الأبعاد المختلفة لفلسفة الإتاحة والوصول، فإن العروض المتحفية من شأنها أن تساهم في صناعة الخبرات والتجارب والمغامرات الشخصية للزوار بمختلف الأعمار

والاهتمامات وتساهم في بناء الشخصية وتنمية المهارات. ويتحقق ذلك بالوصول إلى مستوى مختلف من تحقيق الإتاحة لا يتوقف عند حد عرض المقتنيات، أو تقديم سياقها الأصلي، ولكن بالضرورة بناء وصياغة صور معرفية جديدة تثري اهتمامات ورغبات الزائر وتساهم في اكتساب خبرات جديدة عبر الاندماج الكامل في القصة التي ينسجها المعرض.

وتخلق المتاحف اليوم حالة مختلفة يبحر فيها الزائر في عالم مواز يتعايش مع التجربة بحواسه المختلفة ليبدو وكأنه يغادر فيها الزمان والمكان. وهذه المستويات المختلفة للإتاحة تعضد قدرة المتحف على التواصل والتعامل مع الحالات التفاعلية (المزاجية) للزوار بما فيها الحالة النفسية، الذهنية والمعنوية، وتساهم في كسر الحواجز النفسية وتبديد الإحساس بالعزلة، وتساهم كذلك في تجديد الحيوية واستحضار أو اكتساب الطاقة الإيجابية، بحيث يبدو الزائر بعد انتهاء رحلته، وكأنه تخلص من بعض الأحمال، واستطاع إعادة التوازن الداخلي لمواجهة الأمور التي كانت تؤثر فيه سلبا قبل زيارته.

المتحف والمسرح

يقول راشد “عادة ما يحقق المتحف الوصول إلى مجموعاته عبر أحد أو بعض مستويات الإتاحة التالية: أولا عرض المقتنى فقط مصحوبا بتعريف بسيط أو بدون تعريف. ثانيا عرضه مع تقديم تعريف وتفسير مرتبط بسياقه الأصلي المباشر كأن يربط بموقع الحفائر (معبد، مقبرة، ورشة)، أو بالاستخدام المباشر (أدوات للصيد، لغزل الخيوط). ثالثا إتاحة المقتنى سواء أكان معروضا أو لا للباحثين لدراسته، وإتاحته للتعلم وبناء المعرفة. ويعتبر موزين الإسكندرية القديم أول من طبق الإتاحة للدراسة والبحث. رابعا غالبا ما يرتبط المقتنى بسياقات عدة أصيلة كالسياق الخاص بالاكتشاف (مقبرة/  معبد/ ورشة) أو سياق الوظيفة والاستخدام (الصيد، الإبحار، حفظ الطعام)، أو سياقات تعكس المستوى الثقافي والاجتماعي، أو تعكس العلاقات التجارية والثقافية (أدوات أو مواد ثبت استيرادها من بلدان أخرى معاصرة وتدلل على صلات تجارية أو خضوع سياسي)، أو تعكس المغزى الديني (لأغراض جنائزية، طقوس العبادة، السحر، المعتقدات الشعبية…) وغيرها من السياقات الأصلية التي يعكسها المقتني وثراؤه”.

ويضيف “خامسا إعادة التوظيف إلى المقتنيات؛ وذلك عبر تقديمها في سياقات مبتكرة أو معاصرة. كاستخدام المشاهد التي تعكس العلاقات الأسرية في الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين لمناقشة قضايا الأسرة ومكانتها، واستخدام قصص لشخصيات عصامية وأخرى تركت بصمات تاريخية وحضارية لتثمين قيمة العمل والاجتهاد والإبداع داخل المجتمع”.

وأخيرا يبين أنه قد يستخدم العرض جملة كفضاء مفتوح لاستضافة ممارسات خاصة بالمجتمع (فعاليات وحفلات موسيقية، غنائية، عروض أزياء أو باليه، حفلات احتفاء بالمناسبات الوطنية والإنجازات، وغيرها). وفيها، ينحصر دور المقتنى والعرض في خلق الفضاء ذي القيمة المميزة في خلفية الفاعلية الأساسية. وهي وظيفة ثانوية تأتي بجانب الأدوار السابقة وليست عوضا عنها. فهو بمثابة نقطة أو فضاء للتواصل أكثر من كونه تحقيق الإتاحة للمقتني إلا أنه يساهم في تحقيق الوصول بشكل غير مباشر عن طريق خلق روابط مشاعرية للمشاركين في هذه الفعاليات وتعلقهم برونق العروض والأعمال الفنية ومن ثم تكون نقطة في طريق تحقيق الوصول والدمج بالمتحف ومجموعاته.

ويشير إلى أن من أهم الخطط التي باتت توضع في الاعتبار للمتاحف اليوم هي توظيف مساحات العرض الدائم كمساحات متعددة الأغراض تسمح بالاستخدام المتعدد لها في استضافة مناسبات اجتماعية مختلفة. لتتحول العروض المتحفية، خلال هذه الأنشطة، إلى خلفية ثقافية ثرية تضفي قيمة ورونقا لتقديم مظاهر جديدة للتقاليد والفنون المعاصرة.

ويرى راشد أن من هنا يأتي التشبيه المألوف في ما بين العرض المتحفي والعروض المسرحية. فإذا ما كان العرض المسرحي يتعلق بفكرة أو موضوع الرواية والسيناريو المكتوب. فالأمر ذاته بالنسبة للعرض المتحفي سواء أكان عرضا دائما أم مؤقتا. فعادة ما توجد فكرة وموضوع للعرض، ثم تأتي كتابة سيناريو المعرض والذي توظف فيه المقتنيات لتلعب أدوارا مشابهة لأدوار الممثلين على المسرح، فيما قد تختلف هذه الأدوار بتغير أو اختلاف موضوع وسيناريو العرض من وقت إلى آخر. وفيها تعرض المقتنيات في سياق ما يعرف بـ”أنماط العرض المتحفي”، حيث تعرض المقتنيات في سياق عرض مناسب من السياقات المتعارف عليها.

ويتابع “يتم التنويع بين طرق العرض هذه في المتحف الواحد. وذلك وفق دراسة يقوم بها المعنيون بالأمر للتنويع فيما بين الطرق التي تقدم بها المقتنيات من ناحية، وفيما بين الخبرات التي يتم إيصالها إلى الزائر من ناحية أخرى وحتى لا تكون هناك رتابة أو ملل”.

العرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى