![](https://i0.wp.com/alwalalyemeni.com/wp-content/uploads/2024/01/dintity.jpg?fit=1518%2C675&ssl=1)
ما الذي يجعل البريطاني والألماني، ولا داعي للحديث عن الأمريكي، وكل الدول الغربية التي تساند إسرائيل في حربها الإبادية ضد الشعب الفلسطيني تتوحد في ما بينها، وتجمع على أن هذه الحرب ضد حماس الإرهابية، وأن إسرائيل تدافع عن نفسها؟ لماذا كل الدول الغربية التي استعمرت البلاد العربية تعمل جاهدة على استمرار الفرقة بين العرب والمسلمين، وتسعى إلى تفتيت الجغرافيا العربية إلى جزر متناحرة، ومتنافسة، ومتخاصمة باطراد؟ لا شك في أن هناك عدة عوامل تسهم في ذلك، لكن العامل الجوهري يكمن في اختلاف الهويات الثقافية التاريخية بين الغرب والعرب.
إن الهوية الغربية الثقافية التاريخية يهودية ـ مسيحية، وأن الدين مقوم مركزي في هذه الهوية، ولا يغرنك ما يقال اليوم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنوير. فالغربيون يرون أن هذه المميزات وليدة البروتستانتية (ماكس فيبر). والغرب وهو يدعي الدفاع عن حقوق الجماعات الاجتماعية داخله باسم الحرية الشخصية، يعمل على هدر حقوق أقليات إثنية ودينية بفرضه اندماجها في بنيته اللغوية والثقافية، وهو ما يقوم به أيضا في ترويجه لهذه القيم داخل المستعمرات القديمة ـ الجديدة. يرى الغرب أن على الشعوب غير الغربية، خاصة العربية أن تتخلى عن قيمها الدينية واللغوية والثقافية، وأن تتخذ لها الصورة التي يريدها لها، لكي تظل مصالحها مرهونة بما يفرضه عليها. وإذا ما تم التفكير في غير ذلك، اعتبر ما يتصل به إرهابيا. ألم تطالب أمريكا إبان حربها ضد «داعش» بفرض مقررات دراسية تدعو إلى التسامح، وإلى تغيير النصوص الدينية التي تدعو إلى العنف، وما شابه هذا من الدعوات التي ما تزال مستمرة إلى الآن.
لكن كل هذه الدعوات لا يمارسها الغرب ضد الصهيونية، التي دون مواربة تدافع عن دينها الذي ترى أنها تحقق دعواه في أرض الميعاد، وأن عليها إبادة الفلسطينيين لتحقيق الأسطورة الصهيونية، فأين التسامح والحوار بين الأديان؟ إنه يدافع عنها، ويبرر أعمالها العدوانية ضد الفلسطينيين بذريعة باردة، ولا قيمة لها.
نطرح السؤال الذي افتتحنا به بكيفية أخرى: ما الذي يجعل العرب وأقصد الأنظمة العربية لا تتوحد بصورة لا لبس فيها في نصرة الفلسطينيين في غزة والضفة، وتقوم على الأقل بما قامت به جنوب افريقيا في رفع قضية الإبادة الجماعية، رغم كون الهوية الثقافية التاريخية واحدة؟ أما مطالبتها بأن تقوم بما قامت به أمريكا في مؤازرة إسرائيل، وبالوجه المكشوف، فهذا من رابع المستحيلات.
تتعدد الإجابات عن هذا السؤال، وتكثر التأويلات. لكن مع ذلك يمكننا الذهاب إلى أن الشعوب العربية في كل الأقطار العربية دون استثناء هي مع القضية الفلسطينية، وتتابع ما يجري في ساحات التدمير والتوغل بطريقة مختلفة عما عرفه الضمير الإنساني الحر في العالم أجمع، ما يدل على أن الهوية الثقافية التاريخية للشعوب العربية ما تزال قائمة، رغم كل محاولات محو الشعور بهذا الانتماء بمختلف الصور التي مورست منذ الاستعمار، والتي استفحلت مع بروز ظاهرة الإرهاب، وتكرست بعد الربيع العربي.
إن التنكر للهوية الثقافية التاريخية العربية الإسلامية، والعمل على طمسها ومحوها من الوجود ليست فقط مطلب الهوية الثقافية التاريخية الغربية، لكنها مطلب ثقافي وسياسي لدى من يرى أنه بالدعوة إلى إلغاء الهوية الثقافية التاريخية العربية باسم الحداثة والتنوير، يعمل على تجاوز كل معوقات التأخر التاريخي لأنه يرى في الغرب النموذج الحضاري الذي ينبغي السير على منواله. لكنه في الواقع يستنسخ، مهما كانت الدوافع الصريحة أو المضمرة، الواقعية أو الخيالية، الصور التي ظل الغرب يحملها ضد هذه الهوية التاريخية منذ الحروب الصليبية إلى طوفان الأقصى، التي ظل يوفر لها كل المستلزمات من شراء الذمم، ودفع الرشاوى، ومنح القروض، و»المساعدات» إلى تشجيع الطائفية والعرقية (العراق مثال واضح) مرورا بممارسة الحروب، وافتعال الصراعات البينية.
ما هو واقع الدول العربية في الوقت الحالي؟ لماذا لم يتحقق أي من الشعارات التي رفعت خلال كل التاريخ العربي الحديث؟ هل الإنسان العربي غير جدير بأن يكون له موقع في العصر، وتكون له كلمة مسموعة في المحافل الدولية؟ هل المواطن العربي في كل هذه الرقعة الجغرافية التي تزخر بكل الثروات غير جدير بأن يكون مواطنا على غرار مواطني الدول الغربية؟ هل التنافس والصراع العربي ـ العربي قدر هذا الإنسان، وأن عليه أن يظل دائما لا يخرج من أزمة إلا ليقع في غيرها؟ لماذا لم تكن الهوية الثقافية التاريخية العربية الإسلامية التي ساهم فيها كل من يعيش في هذه الرقعة «الكبيرة» بمشاكلها، و»الواسعة» بأزماتها حافزا للتفكير لخلق واقع آخر مختلف عن الاستنساخ «التقليدي» و»الحداثوي» على السواء؟ كيف نقرأ واقع تخلفنا وتبعيتنا؟ وكيف يمكننا الخروج إلى زمن آخر؟ ولماذا نجحت الصين في أن تتحول في زمن قياسي رغم تنوعها وتعددها اللغوي والثقافي؟
القضية العربية ليست عرقية ولا إثنية ولا طائفية، إنها قضية مواطنين يعيشون في جغرافيا تاريخية تجمعهم، وهناك دائما من يسعى إلى التفريق وإدامة الخلافات بينهم.
-سعيد يقطين – القدس العربي