ثقافة وفكر
أخر الأخبار

اللغة العربية بحرٌ واسعٌ بلا نهاية؛ يكمن ويختبئ في جوفه الدرّ.. هكذا يراها حافظ إبراهيم في قصيدته الشهيرة

اللغة العربية أم اللغات ودرة اللهجات وخير من عبر وصاغ وصور من لسانيات، حروفها عجب
ونطقها ومنطوقها من وراء الحُجب وفنونها إبداع يطال السحب، فلطالما كانت اللغة
وعاء الحضارة ووسيلة المجتمعات للتعبير وصياغة الفكر وآليات التطوير، وهي وسيلة
لتبادل المعرفة عبر العصور، ولحفظ الهوية لكل إنسان غيور، واليوم وفي خضم احتفالنا
باليوم العالمي للغة العربية تأتي ذكرى القصيدة الخالدة لشاعر النيل حافظ إبراهيم “اللغة
العربية تتحدث عن نفسها”، التي بث فيها عشقه لعربيته وعروبته، وشكى فيها
شجونه معربًا عن قلقه من أن تؤتي محاولات تغريب وتغييب العربية ثمارها، فما فتئ
يحامي عن اللغة العربية ويذود عنها بقصيدة خلدها التاريخ وسنبقى نذكرها
.

قصيدة حافظ إبراهيم باللغة العربية تحوز قصب السبق
استطاعت اللغة العربية أن تثبت نفسها وتوطد دعائم رسوخها بطول
الزمان فهي لغة القرآن ويتحدث بها ما يقرب من نصف مليار نسمة، الأمر الذي دعا
الأمم المتحدة للاعتراف بها كأحد اللغات العالمية الهامة فاعتمدتها الجمعية العامة
للأمم المتحدة لغة عمل رسمية، لتكون بذلك إحدى اللغات الست التي تعمل بها، ومن ثم
صار الاعتراف العالمي بالعربية احتفالية كبرى يشارك فيها عاشقو اللغة من كل أنحاء
العالم، ينظمون قصائدهم، وينشرون أشعارهم، ويبثون رسائل عشقهم للغة، وعلى الرغم من
إبداع ما صاغوا وفرادة ما قدموا إلا أن قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم (1872م-
1932م) ما زالت تحرز قصب السبق وتعلو عن إخوانها من القصائد العصماء فيما تبثه من
معانٍ بليغة، وألفاظ راقية دقيقة، وصياغات متفردة برقتها كعطر الوردة، حادة
بمعانيها كالسيف، قوية بصياغاتها جزلة في أسلوبها، فكيف ننسى البيت العبقري الذي
يقول فيه شاعر النيل
:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن…  فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

وفق هذا السياق الممتع سيدتي تشاركك الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية وتغوص
في بحر القصيدة الزاخر بالروعة وبمعانيها الخالدة، فقد التقت في حديث مع الناقد
طلعت سليم، الباحث اللغوي والناقد الأدبي بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة
المنصورة، الذي يبحر بنا بين روافد أبيات شاعرنا الكبير حافظ إبراهيم، فيلج بنا
إلى جماليات النص الشعري، ويشاركنا قبسًا من معانيه وبلاغياته
.

نداءات حفظ اللغة العربية لا تنتهي
يقول طلعت سليم، لـ”سيدتي”: اللغة العربية هي لغتنا الجميلة، لغتنا المبدعة، لغة القرآن الكريم، حفظها الله بكتابه الحكيم، وهي الوعاء الروحي الحافظ لهويتنا وشخصيتنا العربية وهي مناط قوميتنا
ودعامة تراثنا؛ والوتد الراسخ الذي تقوم عليها ثقافتنا وحضارتنا، وقصيدة حافظ
إبراهيم “اللغة العربية تتحدث عن نفسها”، بث فيها حبه للغة العربية
وشوقه لأن تعود لمكانتها وتحصل على ما تستحقه من تقدير ومكانة متفردة بطريقة رائعة
فصوّر فيها اللغة العربية أبدع تصوير؛ فهي إنسان عريق الأصل شريف المنبع ممتد
الجذور، نسبه عالٍ يطال السماء، كيانه راسخ يضرب بأوتاده في عمق الوجود
.

لغة معجزة هي الإعجاز ذاته

يقول سليم :
حافظ إبراهيم أحد عاشقي
 لغة الضاد الغيورين عليها المدافعين عنها، المشدوهين
بجمالها، المندوهين لسحرها وألقها، الحافظين المحافظين على سياقها ومتنها، وقد نظم
هذه القصيدة الرائعة؛ ليبث شجونه وأحزانه عما وصلت إليه اللغة من حال، وكيف تواطأ
الكثيرون لإبعادها عن سمت الجلال والإجلال، فنسج عبر قصيدته ثوباً لُغوياً بليغاً
فائق الروعة الجمال، يفيض عذوبة؛ يعاتب فيه برقّة أبناء العروبة فيما وصل إليه حال
لغتهم، وكيف تخلوا عنها وتركوا شبابها يذوي، وفيضها يجف، موافقين خانعين لما يروجه
ويكرسه الغرب من أكاذيب تدّعي جفاف معين اللغة، وجدب نبتها اللغوي الخصب، وعجزه أن
يؤتي ألفاظاً ومعاني تصف آلة أو تقنية أو حتى اختراعاً، مشدداً على أن
كل هذه الأشياء لا تساوي شيئاً أمام ما جاء به القرآن الكريم من إعجاز
لغوي، ومعانٍ بليغة، وألفاظ جزلة معبرة
.
يقول حافظ إبراهيم بمطلع قصيدته:
رجعت لنفسي فاتهمت حصـاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتـي
ولدت ولما لم أجد لعرائســـــي رجالاً وأكفاء وأدت بناتــــــــي
وسعت كتاب الله لفظاً وغايـــة وما ضقت عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ومنكم وإن عزّ الدواء أساتي
فلا تكلوني للزمـــــــان فإنني أخاف عليكم أن تحين وفاتي
وهنا نجد حافظ إبراهيم يتعجب من حافظي اللغة ومتخصصيها بوصف رائع خياله مبدع، فاللغة
العربية بحرٌ واسعٌ بلا نهاية؛ يكمن ويختبئ في جوفه الدرّ، فهل ناقش وسأل مدّعو
عجز اللغة عن مجاراة العصر، أهل اللغة ومتخصصيها عن صدفاته المكنونة وجواهره
المخزونة من ألفاظ ومعانٍ؛ إن كانت تتسع لتعبّر عن مصطلحات العلم
واشتقاقاته وتقنياته؟! أم أنها ستقف عاجزة حائرة تنتظر من يأخذ بيدها ويضيف لها ما
يطورها ويحدثها ويعصرنها؛ لتواكب عصرهم (بالقرن الماضي) أم عصرنا بتكنولوجياته
وحداثته؟
!
وفق سياقات اللغة العربية وجمالياتها، يمكن لك التعرف إلى أهم مميزات الشعر
العربي

قصيدة من القرن الماضي تتسق مع عصرنا الحالي

يؤكد سليم أن هذه القصيدة تتسق وبقوة مع ما يحدث هذه الأيام من محاولات تغريب للغة وإضافة
مصطلحات جديدة لها؛ لتتناسب مع روح العصر الحديث، حيث يرى سليم (برأيه الشخصي) أن
هذا الأمر (أي استحداث ألفاظ جديدة من القاموس الغربي وإضافتها لمعجمنا العربي)
إهانة للغتنا العربية الأصيلة وإعلان موتها، فألفاظ القرآن الكريم ومعانيه الجليلة
لن تعجز أن تعبّر عن كل العصور، فالقرآن هو لغة كل عصر وكل زمان ومكان، وينبغي ألا
يخضع ويستسلم المسؤولون والمختصون، لمحاولات تغريب اللغة وطمس هويتها
..
يقول سليم في مقطع آخر من القصيدة: ينوح حافظ إبراهيم في جزء آخر من قصيدته، ناعياً
اللغة العربية، فيشجب تخلي العرب عن لغتهم، معاتباً على لسانها
:
أيهجرني قومي عفا الله عنهم إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضمن سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات
إلى معشر الكتاب والجمع حافل بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لا قيامة بعده ممات لعمري لم يقس بمماتِ
يوضح سليم أنه في هذا الشجب والتنديد، يعمد حافظ إبراهيم لإظهار محاولات التفكيك للغة،
والذي ما فتئ الاستعمار لتكريسه في ذلك الوقت (بالقرن الماضي) بدعوى أن اللغة
العربية لا تتواكب مع تقنيات وآليات العصر، مستنكرًا كيف يمكن للغة التي وسِعت
كتاب الله لفظاً وغاية، وشملت آياته في كونه، أن تعجز عن وصف آلة أو تقنية أو
وسيلة تكنولوجية وهي الإعجاز ذاته؟! وكيف تعقم عن إنجاب مترادفات وهي الخصب الولود
الرؤوم كثيرة اللفظ ومعجزة تفرداته؟! وهو الذي استنكره شاعر النيل بأكثر من بيت
..
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة ………….. وكم عز أقوام بعز لغات
أتوا أهلها بالمعجزات تفننا …………….. فيا ليتكم تأتون بالكلمات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب …….. ينادي بوأدي في ربيع حياتي
ولو تزجون الطير يوما علمتم ………… بما تحته من عثرة وشتات
سقى الله في بطن الجزيرة أعظما ………. يعز عليها أن تلين قناتي
حفظن ودادي في البلى وحفظته ……….. لهن بقلب دائم الحسرات
وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق … حياء بتلك الأعظم النخرات
يكرس شاعر النيل أهمية أن نحتفظ بلغتنا وأن نحافظ عليها فلا عز لأمة تركت لغتها أصل
حضارتها ومنبع هويتها ووسيلة نهضتها للغة أخرى لا ترقى للغتنا الأصيلة، ويستنكر
جمود العرب أمام فرحة الغرب بصوت الغراب الذي ينادي بدفن اللغة حية وهي ما زالت في
ربيع حياتها ووفرة شبابها، تمتلئ بالخيرات والمرادفات التي تتسع لكل زمان ومكان،
إلا أنهم لا يعلمون ولا يصدقون وكل ما فعلوه أن تواطئوا مع كارهي اللغة ووافقوا
على أن بحر لغتنا الزاخر بالدرر لن يتسع لتقنياتهم وتطوراتهم وحداثتهم، وهي ذات
الوصمة الحالية التي وصمنا بها الغرب، مما دعا الشباب لمحاولة إيجاد لغة وسيطة
تتمازج فيها الفصحى مع عاميات محلية هجينة؛ تلاقح شظايا لغات أجنبية دخيلة، فظهرت
لغتنا العربية مؤخراً بصورة ممسوخة مشوهة؛ لا هي عربية ولا هي غربية، تلك التي
يُقال إنها لغة
 الدردشة العربية الحديثة التي تتسق مع واقع العصر.
بنهاية الحديث، يؤكد الباحث اللغوي والناقد الأدبي طلعت سليم أهمية أن نقف بقوة في وجه كل
محاولات التغريب والتشويه للغتنا العربية الأصيلة، المقصود منها طمس لغة القرآن
الكريم، وهو ما انتبه له شاعر النيل حافظ إبراهيم مطلع القرن الماضي، ورصده وكرّسه
في قصيدته، وهذا حال كل المثقفين الواعين الحاذقين الذين يرصدون الواقع ويستنطقون
المستقبل ويطلقون أجراس الإنذار؛ لتصم آذان كل من يهمه الأمر، عسى أن يقف بقوة في
وجه كل من يحاول تغيير أو تغييب أو إزهاق روح هويتنا العربية الأصيلة
.
وفي ظل الحديث عن عشق اللغة العربية، يمكنك التعرف إلى سر أهمية اللغة العربية
ومراحل تطورها

حافظ إبراهيم

يذكر أن حافظ إبراهيم (1872م- 1932م) شاعر مصري أصيل، يعد من أشهر شعراء العرب
المعاصرين، ومن أهم دعاة مدرسة (البعث)؛ إعادة إحياء الشعر العربي خلال النصف
الأخير من القرن التاسع عشر. وقصائده كان ينظمها وفق نظام الوزن والقافية
الكلاسيكي، واشتهر بـ”شاعر الشعب”؛ لتركيزه على معاناة الشعوب وآلامها،
وكذلك بـ”شاعر النيل” بسبب ولادته في سفينة على صفحة ماء النيل، وقد
عُرف عنه عشقه لوطنه مصر ومحبته الشديدة للغة العربية ودفاعه المستميت عنها، وقد
كان حافظ أشعر شعراء زمانه، وقد عُرف عنه الصِّياغة الشِّعريّة النّقيّة، والعناية
بالألفاظ وفرادة التراكيب والأسلوب، وقد نظم العشرات من القصائد السياسية والوطنية
والاجتماعية، ولديه العديد من المؤلفات، وقد تأثر لوفاته أمير الشعراء أحمد شوقي،
ورثاه بقصيدة حزينة قال فيها
:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا مُنصِف الموتى من الأحياءِ
لكـنْ سـبَقْتَ وكـلُّ طـولِ سـلامةٍ قـــدرٌ وكــلٌ مَنِيَّــةٍ بقضــاءِ
الحـقُّ نـادَى فاسْـتجَبْتَ ولـم تَـزلْ بــالحقِّ تحــفِلُ عنـدَ كـلِّ نِـداءِ

*سيدتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى