مقالات
أخر الأخبار

المحكمة الجنائية أداة العدالة أم أداة الغرب؟

حسن الرشيدي

فرح الكثيرون بما طلبه المدعي العام من توقيع عقوبات علي اثنين من الكيان الصهيوني وثلاثة من حماس، وبدا أن المس من بعيد بـ”إسرائيل”ـ سيجعل منها محلا للعقوبات، ذلك أنها خرجت عن هدفها المرسوم لها، وهي أن تكون أداة تأديب المارقين عن الغرب المتحضر.

“لقد هددوني”

هذا ما كشف عنه مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، خلال مقابلة مع شبكة CNN الإخبارية.

وقال خان أنه تعرض للتهديد، بسبب طلبه إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت.

وكشف خان عن تلقيه تهديدات إذا استهدفت المحكمة الجنائية الدولية إسرائيل.

لم يقل خان صراحة من هدده، ولكن لمح للجهة التي هددته. وذلك عندما سألته مذيعة شبكة CNN بشأن الانتقادات الشديدة التي تلقاها من الولايات المتحدة، لا سيما من أعضاء بالكونغرس، وأغلبهم من الجمهوريين، وذلك عبر رسالة جاء فيها: استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم. إذا مضيتم قدمًا في الإجراءات، فسنتحرك لإنهاء كل الدعم الأمريكي للمحكمة الجنائية الدولية، ومعاقبة موظفيكم وشركائكم، وحظركم وعائلاتكم من الولايات المتحدة. لقد تم تحذيرك، فرد خان قائلا: أعتقد أن هذا تهديد، وأضاف لقد تحدث معي بعض الساسة وكانوا صريحين للغاية وقالوا: هذه المحكمة بنيت من أجل إفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين، هذا ما قاله لي أحد كبار الساسة، بحسب تعبيره.

هذا الكلام الذي قاله كريم خان خطير للغاية لأنه يكشف الأغراض الحقيقية، ليس لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية فقط، بل منظمة الأمم المتحدة وجميع المؤسسات الدولية المنبثقة عنها.

وهذا ما يدفعنا إلى تتبع تاريخ نشأة تلك المنظمة، ودوافع من قام بتأسيسها والظروف الدولية المحيطة بذلك التأسيس، لعلنا نعرف الأدوار الحقيقية للمنظمات الدولية.

ففي منظمة الأمم المتحدة سعى الأمريكان إلى تلاشي العيب الأساسي للمنظمة السابقة “عصبة الأمم” والتي أدت إلى عدم انضمام أمريكا إليها، وهي ضمان الهيمنة الأمريكية على المنظمة الجديدة.

كانت البداية عصبة الأمم:

تتفاخر الحضارة الغربية دائما أنها كانت أول من أوجدت المؤسسات الأممية، والتي يتم فيها تمثيل كل دول العالم فيها والتي أخذت في البداية اسم عصبة الأمم.

ففي أعقاب الصعود الأوروبي فيما يطلقون عليه عصر النهضة، أي نهضتهم، تسابقت هذه الدول للسيطرة على مناطق النفوذ خاصة في الدول الإسلامية، وغيرها من المناطق التي كانت مجهولة لهذه الدول، سواء في آسيا أو أفريقيا، أو حتى الأراضي الجديدة والتي سارعوا إلى اكتشافها في الأمريكيتين وأستراليا.

بدأ يدب الخلافات بين هذه الدول على المناطق التي جرى الاستحواذ عليها في العالم، ونشبت الحروب بين تلك الدول الاستعمارية.

وعندما تحولت هذه الحروب إلى حروب عالمية، وأدت إلى مقتل الملايين، وقد ظهر ذلك جليًا في الحرب العالمية الأولى والتي اندلعت عام 1914 حتى عام 1917، وأدت إلى مصرع أكثر من ثمانية ملايين ونصف مليون جندي، وحوالي 21 مليون جريح، ومقتل ما يقرب من 10 ملايين مدني.

هنا ظهرت الحاجة إلى من منظمات دولية يتم التحاكم اليها لحل المنازعات فيما بين هذه الدول، وإيجاد آليات لفض تلك الحرب والحيلولة دون اندلاعها من الأساس، كما حاولت الدول الكبرى إحكام السيطرة وتكريس هيمنتها على الدولة الأقل شأنا من خلالها، فكان تأسيس ما يُعرف بمنظمة عصبة الأمم.

دارت الفكرة أساسًا في عقل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، والذي فكر في آلية لوقف الحرب بين دول الغرب في أوروبا، والحيلولة دون تكرار سفك الدماء الذي حصل، ولذلك جاء ميثاق عصبة الأمم متمحورا حول مبادئ ويلسون الأربعة عشر للسلام، التي تحدث عنها في خطابه أمام الكونغرس.

تأسست عصبة الأمم عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919، الذي أنهى الحرب العالمية الأولى التي دمّرت أنحاء كثيرة من العالم وأوروبا خصوصا.

وللمفارقة، وبالرغم من أن أمريكا كانت صاحبة الفكرة أصلا، إلا أن الكونغرس بزعامة الجمهوريين، رفض التصديق على ميثاق العصبة أو الانضمام لها. فقد رأت الولايات المتحدة في النظام التأسيسي للعصبة محاولة من الدول الأوروبية الاستعمارية الكبرى للاستئثار بغنائم الحرب العالمية الأولى دونها.

وأكملت عصبة الأمم مسيرتها، فكانت بمثابة أول منظمة أمن دولية هدفت إلى الحفاظ على السلام العالمي كما تزعم، ووصل عدد الدول المنتمية لهذه المنظمة إلى 58 دولة، خاصة خلال الفترة الممتدة من 28 سبتمبر سنة 1934 إلى 23 فبراير سنة 1935.

كانت أهداف العصبة الرئيسية تتمثل في منع قيام الحرب عبر ضمان الأمن المشترك بين الدول، والحد من انتشار الأسلحة، وتسوية المنازعات الدولية عبر إجراء المفاوضات والتحكيم الدولي، كما ورد في ميثاقها.

ومن ضمن هذا الميثاق الذي تمت صياغته في ديباجة عصبة الأمم بعض الجمل المعسولة، والتي تهدف إلى تخدير الشعوب، ومن ثم تسهيل الهيمنة عليها، فجاءت عبارات مثل: تحسين أوضاع العمل بالنسبة للعمال، معاملة سكان الدول المنتدبة والمستعمرة بالمساواة مع السكان والموظفين الحكوميين التابعين للدول المنتدبة، مقاومة الاتجار بالبشر والمخدرات والأسلحة، والعناية بالصحة العالمية وأسرى الحرب، وحماية الأقليّات العرقية في أوروبا.

ومع هذا فإن الدول الكبرى والتي ساهمت في تأسيسها كانت هي المبادرة إلى مخالفة توصياتها وقراراتها، فمثلا اتهمت العصبة جنودا إيطاليين باستهداف وحدات من الصليب الأحمر أثناء الحرب الإيطالية الحبشية الثانية، فجاء رد رئيس الحكومة الإيطالية موسوليني بقوله: إن العصبة لا تتصرف إلا عندما تسمع العصافير تصرخ من الألم، أما عندما ترى العقبان تسقط صريعة، فلا تحرك ساكنا.

ثم جاء انهيار عصبة الأمم عام 1946، بعد عجزها عن تحقيق الهدف الحقيقي من تأسيسها، وهو وضع حد لوصول النزاعات بين الدول الكبرى للحروب المميتة، فجاء اندلاع الحرب العالمية الثانية ليضع مشهد النهاية لتلك المنظمة.

فمجلس الأمن هو الذراع الأقوى للمنظمة، وهو يكرس عمليا هيمنة القوى العظمى في العالم، وقت إنشاء المنظمة وهي أمريكا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والصين

الأمم المتحدة:

عندما أوشكت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء في عام 1945، كانت الدول في حالة خراب، وأمريكا كانت بيضة القبان في الحرب، فتدخلها لمصلحة الحلفاء قلب موازين المعركة. فاجتمع ممثلو 50 دولة في مؤتمر الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو المدينة الأمريكية في الفترة من أبريل إلى يونيو عام 1945. وعلى مدار الشهرين التاليين، شرعوا في صياغة ميثاق الأمم المتحدة، ثم التوقيع عليه، الأمر الذي أدى إلى إنشاء منظمة دولية جديدة: الأمم المتحدة.

بعد أربعة أشهر من انتهاء مؤتمر سان فرانسيسكو، بدأت الأمم المتحدة عملها رسميًا في أكتوبر 1945، عندما ظهرت إلى الوجود بعد أن صدقت الصين وفرنسا والاتحاد السوفيتي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة على ميثاقها إضافة لغالبية الموقعين الآخرين.

ففي منظمة الأمم المتحدة سعى الأمريكان إلى تلاشي العيب الأساسي للمنظمة السابقة “عصبة الأمم” والتي أدت إلى عدم انضمام أمريكا إليها، وهي ضمان الهيمنة الأمريكية على المنظمة الجديدة.

وجاءت الأهداف الأربعة الكبرى للأمم المتحدة كما أطلق عليها ميثاقها المكتوب وسُميت مقاصد على النحو التالي:

  1. صون السلم والأمن الدوليين، وقمع أعمال العدوان وغيرها من انتهاكات السلام بما يتفق مع مبادئ العدل والقانون الدولي.
  2. تنمية العلاقات الودية بين الدول على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب.
  3. تحقيق التعاون الدولي في حل المشاكل الدولية، وتعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين.
  4. أن تكون مركزًا لتنسيق أعمال الدول في تحقيق هذه الغايات المشتركة

فشل المنظمة الدولية في تحقيق أهدافها

ولكن خلف هذه الكلمات المنمقة كانت تختفي الأهداف الحقيقية وما يرمي إليه مؤسسوها، وبدا ذلك جليا سواء في ظروف نشأة الأمم المتحدة وهيكلتها أو من خلال ممارساتها.

وتكمن النقطة الأهم في الخلل الذي تعانيه المنظمة في مجلس الأمن خاصة فيما يتعلق بعضويته وصلاحياته، فمجلس الأمن هو الذراع الأقوى للمنظمة، وهو يكرس عمليا هيمنة القوى العظمى في العالم، وقت إنشاء المنظمة وهي أمريكا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والصين، ولكن لا يزال يمثل لحد كبير موازين القوى العالمية خاصة بين القوى الثلاث الكبرى: أمريكا والصين وروسيا، وإن تراجع الدور الفرنسي والبريطاني العالمي.

وقد كان منح حق النقض الفيتو للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، بمثابة تكريس للهيمنة من جانب القوى الكبرى وتنافسها، فالسبب الرئيسي في أن قرارات مجلس الأمن تبدو غير ذات جدوى، هو أن تلك المنظمة عبارة عن كتلة من الأجزاء وعندما تعمل هذه الأجزاء ضد بعضها البعض فإن النتيجة الحتمية ستكون الجمود والعجز.

ونادرا ما يحدث إجماع لتلك القوى حول قضية من القضايا الخطيرة في العالم، حتى وإن حدث في بعضها فسرعان ما يتم تفريغ هذا الإجماع، عند نزع آلية تنفيذ القرار الدولي بسبب كلمة أو عبارة حرصت إحدى القوى على الحاقها بالقرار لتفريغه من مضمونه.

ولا يقتصر الخلل على مجلس الأمن فقط، ففي الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما صوتت غالبية الدول عن موافقتها على إنشاء دولة فلسطين، قال وزير الخارجية الأمريكي بلينكن صراحة في لقاء مع بعض قيادات الأمريكان العرب: لا يمكن للفلسطينيين لأن يحصلوا على دولة مستقلة لأن هذا يعني، وقف التمويل عن الأمم المتحدة بحكم القانون الأمريكي.

ووقف تمويل برامج مثل برنامج الغذاء العالمي، قد يؤدى إلي تجويع العالم كما يحدث في غزة الآن.

كما بدا الخلل جليًا ما نشاهده هذه الأيام في المحكمة الجنائية الدولية.

فالضغوط الأمريكية على تلك المحكمة بالرغم من أن الولايات المتحدة ليست عضوا فيها، أثمرت على أن القرار الذي أصدره كريم خان لم يكن متوازنا، يقول عميحاي شتاين مراسل قناة كان الصهيونية: دعونا نقول الحقيقة: معظم دول العالم التي ليست أعضاء في محكمة لاهاي الجنائية، بما في ذلك الولايات المتحدة، لديها قنوات هادئة مع المدعي العام للمحكمة كريم خان.

ففي حين أوصى خان بتقديم طلبات اعتقال لاثنين من زعماء الصهاينة: نتانياهو وغالانت، إلا أنه أصدر مذكرات اعتقال لثلاثة من قيادات حماس: السنوار والضيف وهنية، وبالرغم من ذلك، فإن أمريكا والكيان الصهيوني هاجموا القرار الذي ساوى في نظرهم بين الكيان الصهيوني وحماس، فهم شعب الله المختار بمزاعمهم، ولا يصح أن يتساوى مع بقية البشر، خاصة إن كان هؤلاء مسلمين.

.

المصدر: مجلة البيان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى