“إن حركة الإنسان، سواء كانت على شكل مشي أو تجوال، تعبّر عن سعي مستمر لفهم الذات واكتشاف العالم، والحركة ليست مجرد انتقال من نقطة إلى أخرى، بل هي عملية تأمل داخلي، تُعيد تشكيل علاقتنا بالواقع والوجود”. (المفكّر عبد السلام بنعبد العالي).
يتبنّى عالِم الاجتماع والأنثروبولجي الفرنسي دافيد لوبروطون، فكرة الحركة مُعيناً للتقدّم، تعاوناً مع الأقدام التي تشير إلى المشي العضوي (الرياضة)، في كتابه “الحياة مشياً على الأقدام : فنّ السعادة وإعادة بناء الذات”، الصادر عن المركز الثقافي للكتاب، ترجمة فريد الزاهي.
يصبح المشّاء هكذا، هو مَن يبحث في الوجود أوّلاً، ثم في جسده عن معنى التقدّم والصحّة، بحسب المثل الشعبي “الحركة بركة”.
يقول جورج بيكار في “المتسكّع على وجه التقريب” حاسماً الأمر: “أنا لا أتمشّى كي أتشبّب أو أتفادى الشيخوخة، أو كي أحافظ على لياقتي أو أنجز مأثرة ما. أنا أمشي كما أحلم، وكما أتخيّل، وكما أفكّر بحركة مُعينة للوجود والحاجة الخفية”.
الوجود حركة فيزيائية
الحركة هي الأساس الفيزيائي للوجود؛ حركة الأجرام السماوية والكواكب، حركة دوران الأرض، البحار والمحيطات، الكسوف والخسوف، كلها نتاج الحركة والجاذبية.
كذلك فإن تصميم جسد الإنسان ذاته بهيئته العمودية، وليس الأفقية، جاء بناءً على الحركة أيضاً، مثل سير الدم ونقل الإيعازات العصبية، فضلاً عن الرأس في الأعلى، مروراً بالجهاز الهضمي، إذ كيف سيكون الإنسان ووظائفه، إذا كان جسده مُسطّحاً مستغنياً عن الحركة؟
المشي روائياً
يسمح المشي بالتعرّف على التفاصيل الدقيقة، واستخدامها في البناء الروائي، كما في تجربة الروائية فيرجينيا وولف في”التجوّل في الشوارع: مغامرة لندن”:
“عندما نخرج من المنزل في مساء جميل بين الساعة الرابعة والسادسة، نتخلى عن الذات التي يعرفها أصدقاؤنا، ونصبح جزءاً من ذلك الحشد الهائل من المشّائين المجهولين؛ نستمتع بعوالمهم الجميلة بعد عزلتنا في الغرفة الخاصة. نحن لم نعد على طبيعتنا”.
ثم تذهب الكاتبة إلى المشاهد التي نراها والأصوات التي تسمعها في أثناء التجوّل في شوارع لندن، “وهي كثيرة ومتنوّعة، لدرجة أنها تدخلنا في نوع من الدهشة المُنوّمة، في حالة يكون فيها الوعي ليس هنا ولا هناك، بل يكون مُعلّقاً ما بين الاثنين، ما يسمح لنا بمراقبة محيطنا والتأمل فيه حقاً”.
الأديان والمشي
إن أوّل فعل فيزيائي (حركي)، سبّب تجديد الوجود، وجعل الإنسان مستقلاً بعد ما كان عالةً على الآلهة، هو الطوفان العظيم؛ فإنسان ما بعد الطوفان، هو ليس ما قبله.
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا (سورة المُلك)
حقّق الأنبياء والمُصلحون والثوّار رسالتهم، نتيجة الحركة، والتنقّل، والهجرة، سعياً إلى الحقّ والعدالة. إذ اشتهر السيد المسيح بالمشي والترحّل، كما هو النبي موسى في أسفاره.
أمّا النبي محمد (ص)، فله حكاية بدنية ورسولية مع المشي والحركة؛ أسفاره في رحلتيّ الشتاء والصيف: من مكة إلى الشام، هِجرته إلى الطائف، انتقاله إلى غار “حِراء” للتعبّد والتفكير في الوجود، بل ويندرج ضمن ذلك، إشارته على المسلمين بالسفر إلى الحبشة، والحجّ إلى مكة المُكرّمة.
يقول لوبروطون: “كان بوذا والمسيح والنبي محمد هم في الأصل أُناساً ذوي قدمين، منذورين لأجسادهم الشخصية، انتشرت كلمتهم على وتيرة حلِّهم وترحالهم، وتبعاً للّقاء مع الناس الآخرين”. ويصف الحجّ المسيحي بأنه “علامة على الإيمان والتعبّد والمُجاهدة والزهد، وفقدان كل ما كان مألوفاً”.
في اللغة الفرنسية، يعني الحجّ السير بعيداً والنأي عن البيت. وتعني كلمة “تاو” الطريق، وتُكتب في الصينية بحرفَين، أحدهما يصوّر رجلين، والثاني يصوّر رأساً. بمعنى ارتباط الفكر بالمشي.
يقول أندري لوروا-غوران” بدأ الإنسان إنسيَته بالقدمين”.
كانت الرسالات السماوية والديانات الأرضية إذاً، في علاقة وثيقة مع المشي والتنقّل والهجرة، مثلما نرى المنافي ودورها في رفد الأدب والفن والفلسفة، والإبداع هو نتاج الغربة والترحّل بحسب دولوز، إذ أسهم الأدباء والفنانون المنفيون، مكانياً وروحياً في ذلك، بما نسميه “الهُجنة” والتلاقح الحضاري والجيني.
توربين الأفكار
يقول نيتشه: “الأفكار العظيمة تأتي مع المشي”، في علاقة له مع الطبيعة والكتب والإنسان الأخضر أيضاً، الذي يعُدّه الكاتب الأميركي هنري دافيد ثورو، في كتابه “المشي”، عضواً في الطبيعة، إلى جانب كونه كائناً في المجتمع. ويعتبر أن “المشي في الطبيعة تجربة تحررية، وفعلاً ثورياً في ذاته”.
يقول ثورو: “أود أن أتحدث عن الطبيعة، عن الحرية المطلقة والوحشية، مقارنةً بحرية ثقافة مدنية محدودة فحسب. ستحفظ البرية الوجود”.
ويسأل: “ألا يكون لدي تواصل مع الأرض، أليس في ذاتي جزء من الأوراق والعفن النباتي؟ في نزهتي، أود أن أنسى كل مشاغلي الصباحية والتزاماتي تجاه المجتمع. لكن يحدث أحياناً أني لا أستطيع التخلص من المدينة: أنا فيها خارج عن شعوري، لست في مكان جسدي، أعود بسبب المشي إلى صوابي”.
يقترن الإنسان بالموجودات مشياً ويحسّ بها، كدافع نحو الحرية والسلام، وأيضاً كمقاومة باطنية وخارجية؛ فكل خلاياه تتنصّت وتستمع إلى حواره الداخلي، ثم تعطيه النتائج بحسب نواياه وتوقعاته؛ أي العالم بمذاقات حسيّة باطنية تفي بالتحرّر والانعتاق من الكمبيوتر والهاتف والتلفزيون.
يؤكد لوبروطون أن “الإحساس بالوجود غالباً ما يمّحي في العالم المعقّم الذي تخترقه العديد من الآليات المُركبة؛ بدءاً من السيارة. ثم إن البحث عن الحدّة والحرارة، يبدو رداً على التجميد المتزايد للجسد وللعلاقات الفيزيائية مع العالم. هذا المسعى يكون أكثر حيوية لدى الأجيال الشابة، من خلال انخراطها في الماراثون، وسواه”.
المشي التضامني
تنصحُ السردية العربية بضرورة عِيادة المريض وتفقّده استماعاً واهتماماً وتخفيفاً له من عبء المرض، بخلاف تحاشي زيارة المريض في الغرب في أزمة كورونا.
يسافر المخرج السينمائي الألماني ورنر هرتسوغ من مدينة ميونيخ إلى باريس سيراً على الأقدام في شتاء عام 1974، قاطعاً 800 كم، لزيارة صديقته ومعلمته الناقدة السينمائية المريضة لوتي آيسنر.
كان يؤمن بأن هذه الرحلة سوف تسهم في إنقاذ حياتها أو على الأقل تحسينها، بما يعني المشي تضامناً وإحساساً قد ينقذ البشر.
يقول في كتابه” المشي على الثلج”: “وصلت الآن إلى حافة المدينة، الشوارع فارغة وصامتة. البرد قارص، أمشي عبر الليل والثلج وحيداً مع أفكاري، مدفوعاً بشعور من التصميم وبعزيمة داخلية، في كل خطوة تحدٍ جديد، ولكني مصمّم على الاستمرار مهما كانت الصعوبات”.
اللافت أن صحة صديقته قد تحسّنت فعلاً بعد وصوله إليها، بسبب التجاوب الداخلي والعاطفي في ما بينهما، بما يسمّى ظاهرة “تيليباتي”، أي تضامن وتوارد المشاعر.
يقول: “بدأت صحتها تتحسّن بما يُشبه المعجزة بعد وصولي إليها. كأن فعل المشي عبر الظروف القاسية والتفاني، له تأثير الدواء عليها. بدأت تستعيد قوتها، وكان الأطباء مندهشين من تحسّنها المفاجئ”.
في الأدبيات العربية
أعطى المشي بوصفه رحلة، ملحمةَ “جلجامش”، كما لا يخلو تحركات الجيوش والفتوحات عن معناه. إن كتاب “معجم البلدان” لـ ياقوت الحموي، هو نتيجة المشي والتحرّك بين الأقطار، كما هي رحلة “ابن بطوطة” أيضاً. وجاء الاستشراق كما الحروب الصليبية، عبر المشي والحجّ إلى الديار المقدّسة.
الشرق