قبل وفاته بأربعة أعوام تقريبا أصدر الشاعر والناقد اليمني، عبدالعزيز المقالح، ثلاثة كتب سردية، منها كتاب في أدب الرحلة، وإن كان المقالح قال إنه لا يمكن تصنيفه في هذا الباب، ولعله الكتاب الوحيد الذي خصصه لتجربته السردية مع المكان. وإن كانت له كتابات متفرقة عن علاقته بالمكان غيرها؛ إلا أن كتاب «ذكرياتي عن خمس وعشرين مدينة عربية» يمثل أبرز مثال لتجربة المقالح مع السردية المكانية وأدب الرحلة؛ وهو أدب يتطلب قدرا من الحساسية العالية في العلاقة باللغة، وفي علاقة اللغة بالتعبير عن روح المكان وتفاصيله. ثمة شائعة ارتبطت بالمقالح عندما كانت توجه إليه دعوات لحضور مهرجانات خارج اليمن، في العقدين الأخيرين من عمره، وكان دائم الاعتذار، الأمر الذي فسره البعض، مؤكدين شائعة كانت متداولة مفادها، أن عبدالعزيز المقالح يعاني من فوبيا الطائرة؛ وهذا غير صحيح؛ وأنا هنا كنت تحدثت إليه بهذا الشأن، وأوضح لي، كما أوضح لغيري، أن اعتذاره عن السفر يأتي لكونه قد تشبع كثيرا من السفر؛ إذ كان قد زار عددا كبيرا من البلدان، ووصل إلى مرحلة أحب فيها الاستقرار الدائم في صنعاء، مفضلا عدم مغادرتها؛ وهي المدينة التي كان متيما بها، لدرجة أنه كان يرفض مغادرتها حتى إلى مدن يمنية أخرى قريبة من صنعاء، إلا للضرورة، ولساعات قليلة جدا.
عودا على بدء؛ تمثل تجربة عبد العزيز المقالح مع أدب الرحلة، أو مع سردية المكان محطة مهمة في تجربته الإبداعية؛ إذ تعامل مع هذه الكتابة بوعي ثقافي عال في إدراكه لخصوصية المكان، وما يُبرز تلك الخصوصية، اعتمادا على لغة ورؤية تكللان كتابته بروح جمالية، يتجلى من خلالها بريق الضوء ودهشة الرؤية من تحت الكلمات والجُمل. وهو يقدّم للكتاب؛ قال المقالح إن «المادة في هذا الكتاب لا تدخل ضمن باب كتابة الرحلات، ولا هي بحث مركز عن جماليات المكان، وليست حديثا عن تنوع مناخاته أو أجوائه، وإنما هي ذكريات ترسبت في الذاكرة عن الزيارات، التي أسعدتني الظروف بالقيام بها لبعض المدن من ناحية، وبالإقامة الطويلة، أو القصيرة في بعضها الآخر من ناحية ثانية». وأضاف: «أنها بقايا ذكريات لزيارات يعود تاريخها إلى عقد الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، أيام كانت الفرصة مواتية للترحال والتنقل من مدينة عربية إلى أخرى». وأشار المقالح إلى أن «هذه الذكريات لم تُكتب في حينه، وإنما تمت كتاباتها في وقت متأخر جدا، وتم نشرها متتابعة في مجلة عربية مشهورة وعلى مدى عامين، ولأن تدوينها جاء متأخرا فقد غابت عنها كثير من التفاصيل، كما غابت الإشارة إلى كثير من المعالم، التي كانت جديرة بالتوقف وإطالة الحديث عنها». من عتبة العنوان يتضح لنا مدى حرص المقالح على أن يوضح للقارئ أن ما كتبه هنا ليس سوى ذكريات، كما أكدَّه في المقدمة.
في المتن نلاحظ أن الكتاب تعامل مع المدن وفق الترتيب التالي: مكة الكرمة، القاهرة، دمشق، بغداد، صنعاء، الإسكندرية، بيروت، الجزائر، تونس، مراكش، نواكشوط، بنغازي، الخرطوم، الكويت، البصرة، جدة، طنطا، عدن، وهران، حلب، ود مدني، مأرب، القيروان، تريم. وهو ترتيب تداخل فيه الديني بالثقافي والسياسي أيضا؛ فجاء الترتيب محمولاً على رؤية الكاتب لمكانة كل مدينة في الوعي العربي؛ فكانت البداية في مكة المكرمة. وفي ما يتعلق بعتبة عناوين النصوص، فقد جاءت العناوين لتختزل ما أراد المقالح أن يقوله عن هذه المدينة؛ فعنوان ما كتبه عن مكة المكرمة كان «مكة المكرمة إشراقة روحية»، وعن القاهرة «القاهرة من الدهشة الأولى إلى تلفت الوداع»، وعن دمشق «دمشق أقدم مدينة على وجه الأرض» إلخ؛ وبالتالي تمثل عتبة عناوين النصوص أول ملمح من ملامح علاقته بالكتابة السردية عن المكان؛ وهو ما نستخدمه استجابة لرغبة المقالح، وعدم تفضيله أن يطلق على هذا الشكل من كتاباته باعتباره أدب رحلة.يأتي أسلوب المقالح في الكتابة السردية عن المكان، مترعا برؤية مثقلة بخلفية معرفية واعية بالمكان، وبلغة تنجد الكاتب، وتمنحه القدرة على التعبير عن رؤيته، وتقديم كل مدينة بما يليق بها اتساقا مع هذه الرؤية. يقول، وهو يستهل حديثه عن مكة المكرمة: «كنت قبل البدء في كتابة هذه السطور عن مكة المكرمة، أعرف أن في إمكان أي كاتب أن يتحدث عن كل المدن الموجودة على وجه الأرض بشيء من السهولة واليسر، باستثناء الحديث عن هذه المدينة المقدسة؛ فإنه لن يكون صعبا فحسب، بل مجازفة غير مأمونة، لأكثر من سبب؛ لأنها أولا المدينة التي يراها المسلمون المنتشرون في كل بقاع الأرض بقلوبهم، وينصتون إليها بخلجات وجدانهم، وثانيا لأن المشاعر تهفو إليها، وتحلم العيون برؤيتها المباشرة، وسيكون من الصعب جدا تقديم صورة بالكلمات عن مدينة كهذه لها كل هذه المكانة».
من هذا التقديم تتجلى رؤية المقالح في علاقته بالكتابة عن المكان من ناحية، ومدى إدراكه، أنه هنا يكتب أدب الرحلة، وإن كان يرفض تصنيفها باعتباره كذلك، خصوصا وهو يصف مساره في الكتابة عن المكان بأنه (تقديم صورة بالكلمات عن مدينة كهذه)، وما هو أدب الرحلة إذا لم يكن رسم صورة عن المكان بالكلمات؟! علاوة على أن المقدمة فيها من التشويق والاستلطاف للقارئ ما يمنحه رغبة في الاستمرار بالقراءة والتلهف لمعرفة ما يحمله الكتاب.واستعرض المقالح في ذلك الاستهلال، أبرز ملامح مدينة مكة المكرمة، على طريق تقديم صورة مختلفة عن مدينة مألوفة، ومثل هذا التحدي يواجه كثيرا من كتاب سردية المكان؛ فكثير من المدن كتبْ عنها الكثير؛ فما الذي ستضيفه كتابتك عنها؟ إنها روحك ومدى إحساسك بتفاصيلها، وقدرتك على تقديم ذلك في سطور، تمثل سطوحا لونية وتكوينية لصورة التقطتها عين روحك؛ وهذا ما كان يميز المقالح، وهو يتناول ذكرياته عن خمس وعشرين مدينة عربية.في كتابته عن القاهرة انطلق من الاسم المفضل لدى المواطن المصري للقاهرة لاسيما أولئك المواطنين الذين يقطنون خارج رحابها. قال المقالح: «وهم عندما ينطلقون إليها من مدنهم أو قراهم يقولون لمن يسألهم عن وجهتهم إنهم في طريقهم إلى «مصر»؛ وهي تسمية ذات دلالة اجتماعية وروحية تجعل العاصمة رمزا للقطر كله. وبقدر ما تكون في هذه التسمية من التبجيل فهي لا تخلو من قدر كبير من الحقيقة». ومضى المقالح مستكملا حديثه عن أسرار علاقة هذه المدينة بهذه التسمية في سياق من التشويق الذي يفضي بالقراءة إلى السفر في رحاب ذكريات الكاتب في هذه المدينة.
صدر الكتاب في 210 صفحات عن مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء، ضمن مجموعة من الكتب تكفّل بطباعتها رجل الأعمال اليمني الراحل علوان الشيباني.