محمد شعبان أيوب
“فما ادخرَ الله فضيلةَ فتحِه إلا لآل أيوب؛ ليجمع لهم بالقبول القلوبَ، ولتفخر به مصرُ وعسكرها على سائر الأمصار”.
عماد الدين الأصفهاني في وصف فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين والجيش المصري
تعيش غزة اليوم أهوال الإبادة الجماعية التي تذكرنا بمذابح المغول والتتار ومحارق الحروب العالمية، وبينما كانت غزة تاريخيا بوابة فلسطين من ناحية الشرق، إذ انطلق منها صلاح الدين ونابليون والجنرال اللنبي للاستيلاء على بيت المقدس وفلسطين كلها؛ فقد جرَّتنا الأحداث الأخيرة جرًّا إلى الكثير من الأسئلة التي نجد جوابا لها في مصادر التاريخ وعبرته التي لا تزال درسا لكل معتبر.
ومن جملة هذه الأسئلة وأكثرها إلحاحا سؤال: كيف استطاع السلطان الشهير صلاح الدين الأيوبي أن يستعيد بيت المقدس من الاحتلال الذي جثم على صدره 91 عاما كاملا؟ هل كان الانتصار بفضل الخبرات والمهارات العسكرية التي تمتع بها صلاح الدين فقط؟ أم أن الرجل أدرك أهمية دول الطوق المحيطة بفلسطين والقدس وجعلها أولوية حتى على الوجود الصليبي نفسه؟
الحق أن “صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي الكردي” لم يكن إلا قائدا كبيرا من جُملة القادة الكبار الذين عرفهم تاريخ الإسلام منذ عصر النبوة. وقد سخَّر الرجل إمكانياته منذ التحق مع والده شاذي وعمّه شيركوه في خدمة السلطان “عماد الدين زنكي” وابنه “نور الدين محمود” لهدف واحد وهو استعادة أقدس ما سُلب من المسلمين في القدس وبلاد الشام.
من الأتابكة إلى الزنكيين
لقد كانت تسعين سنة شديدة الوطأة تلك التي سَلَب فيها الصليبيون الكثير من مدن وقلاع المسلمين من أنطاكية والرُّها شمالا التي تتبع اليوم جنوب تركيا، مرورا باللاذقية وطرطوس وطرابلس وبيروت وصيدا التابعة لسوريا ولبنان، ثم صفد وعكا وصور، وحتى بيت المقدس وعسقلان وغزة. كل هذه المدن الكبرى وفي القلب منها القدس احتلها الصليبيون في حملاتهم الأولى، ولم يكن احتلالها سلبا فحسب، بل كانت هذه المدن والإمارات الصليبية بمنزلة قواعد هجومية دائمة على المسلمين في مدنهم وأسفارهم وتجارتهم.
ومنذ اللحظة الأولى التي سقطت فيها القدسُ وارتكب الصليبيون فيها مذبحة شبيهة بالمذابح التي نراها اليوم على الهواء مباشرة لأهل غزة، انطلق جمع من أهل الشام إلى القيادة الروحية للعالم الإسلامي وقتذاك، وهي الخلافة العباسية في العاصمة بغداد، “وأخبروا بما جرى على المسلمين، وقام القاضي أبو سعد الهروي قاضي دمشق في الديوان، وأورد كلاما أبكى الحاضرين، وندب من الديوان مَن يمضي إلى العسكر ويعرفهم حال هذه المصيبة”، كما يذكر المؤرخ “ابن الجوزي” في تاريخه “المنتظم”[1].
ولكن الأمة في ذلك الحين كانت مشتتة منقسمة، فالسلاجقة من أبناء السلطان ملكشاه وأحفاده كانوا متفرقين متصارعين في إيران وخراسان والعراق والأناضول، وسلاجقة الشام لم يكونوا أفضل حالا من أقاربهم، أما مصر وفلسطين فكانت من نصيب الفاطميين الذين لم يُبدوا مقاومة تُذكر، بل يثبت التاريخ انسحابهم من بيت المقدس وكثير من مدن فلسطين قُبيل مجيء الصليبيين، والخلافة العباسية كانت ضعيفة لا تملك قرارها حيث تركت هذه المهمة منذ زمن لكل القوى التي سيطرت عليها من الأمراء الأتراك والبويهيين والسلاجقة.
وفي وسط هذه الحالة من التشرذم السياسي بدأت إمارة الموصل في شمال العراق، التي كان يقودها “أتابكة” أتراك وهم جماعة من الأمراء الذين دانوا بالطاعة والولاء للسلاجقة، بدأت تأخذ على عاتقها مهمة التحرير. وقد توالى على هذه الإمارة العديد من الأتابكة الذين أثبتوا إخلاصا كبيرا في تحرير وتوحيد الجبهة الإسلامية، وعلى رأسهم “كربُغا” و”آق سُنقر البرسقي” و”آق سنُقر الحاجب” ثم “عماد الدين زنكي” الذي سار على طريق مَن سبقوه في المقاومة وتوحيد مناطق شمال العراق والجزيرة الفراتية، مثل الموصل وسنجار وحلب وما حولها، حتى استطاع القضاء على أول المعاقل الصليبية وهي إمارة الرُّها عام 539هـ/1144م، وهو تاريخ يبعد عن استيلاء الصليبيين على القدس بنصف قرن كامل[2].
كان تحرير الرُّها بمنزلة تدمير المشروع الصليبي في كامل الجزيرة الفراتية شمال شرقي الفرات، وبفضل هذا الانتصار استطاع عماد الدين استرداد سروج وآمد ونُصَيبين ورأس عين والرقة وإلبيرة حتى أصبح كامل شمال العراق وشمال سوريا تحت السيادة الزنكية. وبعد وفاة “عماد الدين زنكي” عام 541هـ/1146م تسلم الراية من بعده ولده “نور الدين محمود” في بلاد الشام تحديدا، وعلى مدار 28 عاما من وجوده في السلطة تمكَّن من توحيد كامل بلاد الشام من حلب وحمص وحماة، حتى استطاع بلوغ دمشق وضمها في عملية سياسية ودبلوماسية ذكية. وكما استغل الظرف السياسي المضطرب وحُب أهل دمشق له، استغل أيضا اضطراب الأوضاع في مصر التي كان يحكمها الوزراء والقادة العسكريون المتناحرون مثل “شاور” و”ضرغام” وكان الخلفاء الفاطميون ألعوبة في أيديهم، الأمر الذي دفع “نور الدين محمود” لإرسال أقرب وأخلص رجاله صلاح الدين الأيوبي وعمه “أسد الدين شيركوه”.
الوحدة والتحرير
في الأعوام الثمانية التي سبقت سقوط الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين، كانت مهمته الأساسية توحيدها والقضاء على القوى المناوئة فيها، وصد بعض الحملات العسكرية التي أرسلها ملك بيت المقدس الصليبي. لقد أدرك صلاح الدين الأيوبي أن السيطرة على مصر تعني مزيدا من القوة في مواجهة المحتل الصليبي، ولم يكن صلاح الدين وحده هو الذي أدرك هذا الهدف، حيث إن شهادة تعيينه ملكا على مصر من قبل “نور الدين محمود” بعد وفاة عمه شيركوه سنة 564هـ ومنحه رسميا لقب “الملك الناصر” لا تزال تؤكد هذه الحقيقة إذ جاء فيها: “والجهادُ أنت رضيعُ درّه، وناشئة حجره.. فشمِّر له عن ساق من القنا، وخُض فيه بحرا من الظُّبى… حتى يأتي الله بالفتح الذي يرجو أمير المؤمنين أن يكون مذخورا لأيامك، وشهودا لك يوم مقامك”[3].
بوفاة الخليفة الفاطمي الأخير العاضد عام 567هـ أُسدل الستار عن الدولة الفاطمية وبدأت دولة جديدة في الظهور هي الدولة الأيوبية التي سرعان ما امتدت إلى بلاد الشام وشمال العراق وجنوب شرق الأناضول بعد وفاة السلطان “نور الدين محمود” سنة 569هـ. ونلاحظ أن هَمَّ صلاح الدين الأيوبي وشغله الشاغل بعد وفاة الأخير كان هو إعادة توحيد مصر مع بلاد الشام التي بدأ كبار أمرائها يستغلون صغر سن الملك الصالح “إسماعيل بن نور الدين محمود” للعبث بمُقدرّات هذه الدولة، وتقسيمها فيما بينهم، بل بدأ بعض هؤلاء في عقد تحالفات مع مملكة بيت المقدس الصليبية ودفع جزية سنوية لهم.
ولهذا السبب بدأ صلاح الدين يلقي باللائمة عليهم، وفي جواب هؤلاء الأمراء واعتراضهم على صلاح الدين وتلميحاته بالتدخل ناشدَه أكثرهم بالابتعاد والبقاء في مصر، وأن يكون مُخلصا للبيت الذي ربَّاه وجعله سلطانا، فكان جوابه قاطعا بقوله: “لو استمرت ولاية هؤلاء القوم تفرَّقت الكلمة، وطمعت الكفار في البلاد.. إنا لا نُؤثِر للإسلام وأهله إلا ما جمع شملهم، وألَّفَ كلمتهم، وللبيت الأتابكي أعلاه الله إلا ما حفظ أصله وفرعه، ودفع ضره وجلب نفعه، فالوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة، وبالجملة إنا في واد، والظانون بنا ظن السوء في واد”[4].
بسبب هذا البُعد الإستراتيجي في رؤية صلاح الدين للأمور، وقصر نظر أمراء بلاد الشام وحبهم للسلطة مع قبول بعضهم بالتبعية للصليبيين والبعض الآخر بالتحالف معه، راحت الأمور تتجه صوب الصدام بين الطرفين. وبالفعل وقعت بين صلاح الدين وهؤلاء الأمراء عدة معارك في حماة وحلب وغيرهما، واعتبارا لمكانة “نور الدين محمود” لم يرضَ صلاح الدين مع انتصاراته المتوالية تلك أن يأخذ حلب من الصالح “إسماعيل بن نور الدين”، وأبقاه عليها طالما بقيت العهود والمواثيق قائمة. ولم يكن الخطر على مشروع الوحدة نابعا من هؤلاء الأمراء وحدهم، بل ظهر عدو آخر هم الباطنية الحشاشون الذين حاولوا قتل صلاح الدين أكثر من مرة، ولهذا السبب راح يتعقَّبهم في قلاعهم في مصياف حتى فلَّ شوكتهم. وفي هذه الأثناء جاء السفراء من الخلافة العباسية بإقراره على سلطنة مصر وبلاد الشام، الأمر الذي أدى إلى علو كعبه، وثبات شرعيته في النفوس، بل وتوجُّس العدو الصليبي منه خيفة.
يرى المؤرخ البريطاني “هامِلتون جِب” أنه “بالنسبة لمعظم أمراء زمانه كان هذا الأمر مجرد إجراء شكلي، لكنه بنظر صلاح الدين كان أكثر بكثير من ذلك، وإذا كانت الحرب التي نذر لها نفسه ضد الصليبيين ستُصبح جهادا حقيقيا، فمن الواجب أن يكون شنُّها في مراعاة دقيقة لشريعة الإسلام المُنزَّلة”. ولهذا السبب تقرب صلاح الدين من عامة الناس في بلاد الشام بإزالة الضرائب والمكوس المرهقة، ومع هذه الشعبية والمحبة المتزايدة في النفوس، آثر الصليبيون أن يعقدوا حلفا مع الملك الصبي الصالح “إسماعيل بن نور الدين” وأمرائه. يقول المؤرخ الصليبي “وِليام الصوري” على لسان الصليبيين: “كل ازدياد في قوة صلاح الدين كان سببا يثير الريبة في أنظارنا.. لأنه كان رجلا حكيم المشورة، باسلا في الحرب، وشهما إلى أبعد حدود الشهامة، وبدا لنا أكثر حكمة أن نمُدَّ العون للملك الصبي (إسماعيل).. ليس من أجل ذاته، بل لتشجيعه كخصم ضد صلاح الدين”[5].
صلاح الدين يحرر القدس وديار الإسلام
بعد السنوات الثلاث التي قضاها صلاح الدين في بلاد الشام عقب وفاة “نور الدين محمود” ومحاولته الحثيثة لتوحيدها مع مصر، أدرك أن تأمين الجبهة الداخلية وسد الثغرات العسكرية والحربية في مصر أولوية قصوى، ومن ثم حرصَ على تأسيس المدارس السُّنية والخوانق الصوفية في طول البلاد وعرضها، وإنشاء الكتاتيب والأوقاف لمنع عودة الفاطميين. كما حرص على إنشاء قلعة الجبل وبناء سور قوي يحيط بالقاهرة لدرء الخطر الصليبي، بل وأيقن بضرورة وجود أسطول قوي رادع؛ لعلمه أن القوى الصليبية المتمركزة في مدن بلاد الشام الساحلية تتقدم عليه في هذا الجانب، ما يعني وجود خطر دائم يهدد مصر، ناهيك بأن وجودهم في الشوبك والكرك جنوب الأردن هدَّد البحر الأحمر والحرمين الشريفين، لا سيَّما مع وجود الأمير أرناط الذي يصفه مؤرخو ذلك العصر بأنه “كان أخبث الفرنج وأشرهم”[6] على قوافل المسلمين والحجاج.
وحين أتم صلاح الدين تحقيق هذه الأهداف عاد إلى الشام من جديد بإستراتيجية جديدة تتمثّل في استغلال كل فرصة للقضاء على بقايا الدولة الزنكية شمال بلاد الشام، وعلى الأخص المُوصِل ومن ثم حلب التي طالما أصر على ضمِّها والسيطرة عليها. وقد ظلت المواجهات بينهم مستمرة حتى وفاة الصالح إسماعيل عام 577هـ ومن ثم سيطرة صلاح الدين على حلب سنة 579هـ، كما أجبر صلاحُ الدين أمير الموصل “مسعود بن غازي بن نور الدين محمود” على إعلان الولاء له عام 581هـ، وحين سيطر صلاح الدين على مدينة حلب ومن ثم شمال بلاد الشام والجزيرة والموصل قال: “الآن تبينتُ أنني أملك البلاد، وعلمت أن مُلكي قد استقر وثبت”[7].
وقد صدقت رؤية صلاح الدين؛ ذلك أن استيلاءه على حلب حقق أهدافه بِبَسط سلطانه على جميع بقاع بلاد الشام مع مصر، فأمسى في موقع الهجوم والإحاطة بالصليبيين من كل جهة. وهكذا نرى أن صلاح الدين الأيوبي أنفق 12 عاما كاملة في سبيل توحيد مصر وبلاد الشام وبلاد الجزيرة (مناطق جنوب شرقي الأناضول)، بينما أنزل بأسه على الصليبيين في 18 شهرا فقط كما سنرى؛ لإدراكه أن توحيد بلاد المسلمين كان مُقدِّمة لا بد منها للتحرير. وقد صرَّح بهذه الإستراتيجية في إحدى رسائله الدورية للخليفة العباسي الناصر لدين الله، إذ جاء فيها: ” أمور الحرب لا تحتمل في التدبير إلا الوِحدة، فإذا صحَّ التدبير لم يحتمل في اللقاء إلا العدة”[8].
وبموازاة هذه الأحداث نجد صلاح الدين مع تحصينه مصر يُحصِّن سيناء ويبني بها القلاع، ويعيد الاستيلاء على أيلة (إيلات) لأول مرة منذ احتلها الصليبيون، ويدخل في عمق فلسطين من الجنوب ويخترق حصونهم في بلاد الشام. ومنذ عام 578هـ لم يعد صلاح الدين الأيوبي إلى مصر أبدا، وإنما بقي إلى آخر عُمره بالشام في مواجهة شرسة مع الصليبيين، وجعل أول همِّه استنقاذ المدن الفلسطينية واحدة بعد أخرى. وقد كان عام 583هـ عامَ الحسم العسكري في فلسطين، حيث سيطر صلاح الدين على مدن غزة وعسقلان والرملة وطبرية وغيرها، وأمام هذه الانتصارات الكبرى أدرك ملوك الصليبيين وأمراؤهم أنه لا بد من معركة حاسمة لإيقاف صلاح الدين.
جمع الصليبيون جيوشهم في خمسين ألف مقاتل وتوجهوا قرب طبرية، فلما قاربوا طبرية رحل صلاح الدين عنها ليستدرجهم في مكان صخري مجاور بعد أن سيطر على منابع المياه، وجعل الأردن وراءه. ثم تقابل الجيشان عند قرية حطين، وأخذ السلطان صلاح الدين وجنوده يستدرجونهم ويستنزفونهم حتى أدرك الصليبيون العطش في حرِّ يوليو/تموز، فعمل على زيادة حرارة الجو بحرق الحشائش القريبة منهم، الأمر الذي اضطرهم إلى التقهقر ” فآووا إِلى جبل حطين يعصمهم من طوفان الدمار فأحاطت بحطين بوارق الْبَوَار”، كما يصف “العماد الأصفهاني”. وعند ذلك اضطر أمير طرابلس إلى الهرب بقواته، ومَن بقي منهم وقع في القتل والأسر بسبب الضعف والعطش والخوف وتفرق الكلمة، “ومما لا شك فيه أنه لم يحدث أن شفى المسلمون غليلهم من الفرنجة منذ مجيئهم إلى الشام مثل هذه المرة، بحيث سَموا موقعة حطين بوقعة حطين المباركة”[9].
عقب حطين أصبح الطريق إلى بيت المقدس مفتوحا، فحاصرها صلاح الدين أسبوعين وفتحها بجيش أغلبه من العسكر القادم من مصر تحديدا كما يقول العماد الأصفهاني: “ولتفخر به مصر وعسكرها على سائر الأمصار”[10]، وذلك في 27 رجب من العام نفسه 583هـ. وقد خرج منها أكثر من مئة ألف صليبي بنسائهم وأطفالهم بعد واحد وتسعين عاما من احتلالهم لهذه المدينة المقدسة، ولم يعاملهم صلاح الدين كما عاملوا هم المسلمين حيث قتلوا ثمانين ألفا من أهلها عند دخولهم أول مرة. وبعد فتح القدس استطاع صلاح الدين وقواته التي كانت معه فتح عكا وصيدا وصور وبيروت، كما فتحت قوات أخرى متفرقة مدنا مثل قيسارية ونابلس وغيرها.
يرى “هامِلتون جِب” أن معظم المؤرخين في المشرق والمغرب مُجمعون على أن انتصار صلاح الدين الأيوبي الفذ، وقضاءه على معظم الإمارات الصليبية في بلاد الشام وانخفاضها إلى ثلاثة فقط هي طرابلس وصور وأنطاكية، يعود إلى مهارته وصفاته العسكرية بحيث إنه تمكن من تحقيق هذا النصر الضخم في عام ونصف العام ليس إلا. ولكنه يرى أن حصر ذلك في المهارات العسكرية لصلاح الدين خطأ في التحليل؛ لأن “انتصاراته جاءت بفضل امتلاكه لصفات معنوية (أخلاقية) لا تشترك مع المواهب الإستراتيجية إلا في القليل، فقد كان رجلا يستمدُّ وحيه من مثال أعلى ذي قوة وثبات، وجعله تحقيق هذا المثال ينهمك في سلسلة طويلة من النشاطات العسكرية، وكانت هذه النشاطات حتى سنة 1168م مُوجَّهة نحو فرض إرادته على النظام العسكري الإقطاعي السائد”[11].
وهكذا أدرك مؤرخ بحجم “جِب” الأهمية الكبرى للمثل العليا التي آمن بها صلاح الدين، وتقديمه توحيد بلاد الشام كلها مع الجزيرة الفراتية وجنوب الأناضول ثم توحيدها مع مصر فيما بعد، مُعتبِرا إياه الهدف الأسمى الذي سعى له صلاح الدين، الذي كان نقطة التحول الكبرى في انتصار حطين واستعادة القدس وطرد الصليبيين فيما بعد، أي إن إستراتيجية صلاح الدين الأيوبي كانت التحرر من القوى المتشرذمة والخائنة المحلية من أجل تحرير الأرض من العدو الغاصب.
—————————————————————————-
المصادر
[1] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك الأمم 17/47.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/131، 132.
[3] أبو شامة: الروضتين في أخبار الدولتين 1/409.
[4] ابن واصل الحموي: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب 1/42.
[5] هاملتون جب: صلاح الدين الأيوبي ص125.
[6] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 21/313.
[7] ابن أبي شامة: الروضتين في أخبار الدولتين 3/168.
[8] ابن أبي شامة: الروضتين 3/179.
[9] عبد المنعم ماجد: صلاح الدين الأيوبي ص114.
[10] عماد الدين الأصفهاني: الفتح القسي في الفتح القدسي ص69.
[11] هاملتون جب: صلاح الدين الأيوبي ص151.
.
.
الجزيرة