الوعل اليمني.. الوجود التاريخي والرمزية
ارتبط التاريخ والإنسان اليمني منذ البدايات الأولى بحيوان الوعل الذي يعتقد أنه سبق وصول الإنسان الحديث (Homo sapiens) إلى المنطقة فكانت كل الجغرافيا اليمنية بجبالها وسهولها مراعيا له ولقطعانه وبعد أن جاوره الانسان اليمني القديم كان من مصادر غذائه وتعلم منه الكثير، فحاز على مكانة مميزة في معتقدات الإنسان اليمني منذ الأزل وارتبط في ذاكرتهم الجمعية بظواهر طبيعية تشكل للإنسان اليمني أساس الحياة والاستقرار مثل توفر الماء وخصوبة الأرض والتنبؤ بنزول الأمطار وغيرها.. وهو ما أظهرته رسومات الإنسان اليمني القديم على الصخور وجدران الكهوف في أنحاء كثيرة من اليمن، التي تعود إلى العصور الحجرية وتوالت رسومها كذلك في فترات التاريخ اليمني القديم.
الوعل (الأيل) علميًا
الوعل (Ibex)في اللغة يسمى ذكرها وعل (بسكون العين) وجمعها أوعال أو وعول ، وذكر في إحدى النقوش القديمة باسم (إيل -إيلن) (زيد العنان 11/1) ، والأنثى وعلة أو (أروى) كما ذكرتها النقوش اليمنية القديمة، ويعرف أيضا (بالماعز البري أو تيس الجبل)، وهو حيوان متوسط الحجم يبلغ طول الذكر البالغ ما بين 130-140سم، ويبلغ ارتفاعه عن سطح الأرض بين 65-75سم، وله لحية يبلغ طولها 2-5سم وله قرنان يصل طول الواحد منها إل 120سم، وتمتاز بشدة تقوسها وبوجود حلقات منتظمة على سطحها تعرف بالعقد تتواجد في قرون الذكور من الوعول فقط ولا تظهر في قرون الإناث.
يتغذى الوعل على الحشائش والأعشاب، ويصنف الوعل اليمني من فصيلة الوعل النوبي (Cabra Ibex Nubbian) وتعيش بضع مجموعات منه اليوم في مرتفعات وهضاب اليمن وسلطنة عمان. كانت قطعانه تجوب الجغرافيا الجنوبية كلها في فترة التاريخ القديمة، وقد وجدت عظامه في حفريات أثرية في صعدة وغيرها من المناطق اليمنية التي لم يعد يوجد فيها اليوم بسبب الاستيطان البشري. ويتميز الوعل اليمني بلونه المموه المائل للبني الذي يتماهى مع لون البيئة اليمنية في المواقع الجبلية والقريبة من الصحراء، ويتخذ من الكهوف الجبلية العالية والصدوع الصخرية مأوى له.
تمتاز الوعول بحذرها الشديد والانتباه والشعور بكل ما يدور حولها وأي تغير في الروائح أو ترددات الأصوات، وإذا ما ميز رائحة صياد في الجوار فإنه يطلق ساقيه للريح وينحدر بخفة ورشاقة على الصخور الملساء حتى ينجو من الصياد، والوعول بطبيعتها لا تلجأ للمناطق المرتفعة إلا بهدف الحماية والبقاء فهي مناطق يصعب الوصول إليها من قبل حيوانات أخرى خاصة المفترسة منها، وبالتدريج أصبحت هذه المناطق سكنها وملاذ عيشها، وتنزل على فترات للحصول على الغذاء والماء وتفر هاربة للأعالي في حال داهمها خطر الصيد أو الافتراس.
تعيش الوعول منفردة أو على شكل زمر صغيرة، تقل فيها الذكور أو توجد بينها الذكور الصغار، وهذا أيضاً يحد من استمرارها، لأنّ طريقة سيادة القطيع والتزاوج تتطلب من الذكور حربًا شرسة دامية لفرض السيطرة قد تصل لموت أحد الذكور المنافسة، وفي حال عدم موته فهو يطرد من المجموعة وهذا يقلل فرصته بالنجاة ولا تقبل المجموعة أفرادًا جددًا من خارجها إلا في حالات نادرة.
الوعل (عثتر) رمز الإله القومي لليمنيين
الدين ظاهره روحية وحاجة اجتماعية رافقت البشرية من أوائل تفتق العقل البشري بالتفكير واختلفت الأفكار والمعتقدات لتلائم الحياة البشرية بحسب البيئة التي عاشوا فيها، والديانة اليمنية نبعت من بيئة وواقع الجغرافيا اليمنية وتغلغلت منذ العصور القديمة في حياة اليمنيين وظهرت ملامحها في رسوماتهم الصخرية ومن خلال تشييد المباني العامة والدينية التي زخرت بأشكال ورموز معتقداتهم الدينية وأظهرت تعلقهم وارتباطهم الكبير بهذه الرموز وأهمها وأبرزها رمزية كبير ذكور الوعل وسيد القطيع .
اعتقد اليمنيون في ديانتهم ومعتقداتهم القديمة بالثالوث المقدس وهو: إله القمر الأب و إله الشمس الأم ومن زواجهما كان الابن الإله عثتر الزهرة الذي رمز إليه برمزية الوعل. وبحسب معتقداتهم رأوا أن البشرية جاءت من الإله عثتر (الذكر) فهو ابن الإله وأبو البشرية جميعها بحسب المعتقدات القديمة التي تسبق ما يعرف بالديانات السماوية بآلاف السنين. لذلك كان يعد عثتر على رأس مجمعات الآلهة في كل الحضارات التي قامت على الجغرافيا اليمنية (معين -سبأ -حضرموت -قتبان- أوسان-حمير)، وخارجها في أثيوبيا (الحبشة) فكان عثتر هو الإله الأعلى فيها بحيث يتصدر اسمه كافة أسماء الآلهة في صيغ التوسل والدعاء (ب ع ث ت ر / وب أ ل م ق ه / وبـ ذ ت/ ح م ي م) النقش السبئي(RES.3950) . وفي نقوش حضرمية منها النقش (Ja. 2456/4 ) وفي نقوش أوسانية منها النقش رقم U.A.M.266. وفي النقوش القتبانية منها النقش (Ja.405/3) وفي النقوش المعينية منها النقش (M. 33/4) وفي النقوش المسندية الأثيوبية منها النقش J. E. 2771.
وقد ظل ذكره يتردد أكثر من أربعة آلاف سنة في كل الجغرافيا اليمنية حتى في فترة الديانات التوحيدية في اليمن حينما اختفت أسماء الآلهة المحلية من التداول في هذه الفترة وامتد تأثيره إلى شمال الجزيرة وغيرها من المناطق الجغرافية. ولم يكن عثتر(الوعل) أبو البشرية وكبير الآلهة فحسب فقد كان يعد إله الخصب والمطر والمراعي الخضراء الذي تقدم له القرابين والأضاحي أملاً في نزول المطر، كما كان حامي المنشآت والقبور. ويبدو أن الربط بين الوعل والمطر وعثتر رب الخصب جاء نتيجة لما يتمتع به هذا الحيوان عن سائر الحيوانات من قوة حاستي الشم والبصر وجمال الهيئة والأنفة والشموخ والعزة كونه يتخذ من القمم العالية الشامخة مسكنًا وموطنًا له، والأهم من ذلك قدرته الفطرية على التنبؤ بالمطر وتحديد مواطن الري لاسيما في مواسم الجفاف والجدب، إذ عرف عن قطيع الوعول أنها تصاب في مواسم الجفاف بحالة تعرف بـ(جنون الوعول) فتعتريها حالة من الذعر والارتباك عندها يقوم كبير الوعول (قائد القطيع) بالبحث عن أقرب قمة جبلية ويعتلي أعلى جلاميدها ويقف في شموخ متلفتًا يمنة ويسرة متشممًا رائحة المطر باحثًا بنظره الحاد لمعان البرق في الأفق حتى يتمكن من تحديد المرعى عن بُعد، فينزل مسرعًا من قمته ليقود القطيع باتجاه الأماكن المطيرة (بن عقيل 24،2004).
وقد ورد عثتر(الوعل) في نقوش سبئية بألقاب وصفات متعددة أهمها (عثتر شرقن) و كلمة شرقن تعني الجهة أو المشرق ويفسرها الدارسون بأن لها علاقة بالمطر والسقي كما في صفته الثانية ذبن، وقد عُدَّ إلهاً للمطر والري والخصوبة. ومن الألقاب أيضاً عثتر يجي بمعنى “الحامي” و عثتر ذبن أي “ذو القناة” وعثتر عززن و عثتر شيمن بمعنى “الحافظ” من الأمراض وحامي الأرض والأموال والمنشآت، ومنها لقب عثتر قهم “العظيم” وبعل بحر حطبن وهي تسمية ذات علاقة بالزراعة، ومن الصفات ذو قبضم بمعنى “القابض” وذو يهرق وكلمة يهرق صيغة مضارعة بمعنى يريق كيريق الماء وهذا يناسب ارتباطه بالمطر والري، وذو نورو أي المنير و ذو سحرن أي وقت الشفق، وكلها حالات لنجمة الصباح الزهرة. (حسن السيباني-عثتر الزهرة).
كما أن التقديس لإله الخصب دفع اليمنيين للتسمي به في أسمائهم المركبة مثل: أوس عثت، هوف عثت، ولحي عثت، وحي عثت… إلخ (وعثت اختصار للإله عثتر)، كما كان له شهر يسمى شهر (عثتر) في تسميات الشهور السبئية القديمة الذي جاء في النقش (547 cih)، وكانت له كهانة (رشوا عثتر)، فكان الإله عثتر (الوعل) هو الإله المشترك والجامع بين كل الجغرافيا اليمنية والموحد لمعتقدات اليمنيين لفترة طويلة من الزمن.
الوعل في الفنون اليمنية القديمة
احتل الوعل اليمني مكانة خاصة في فنون ومنحوتات اليمنيين القديمة من خلال تجسيد صورته بكثرة في مختلف الأعمال الفنية كالرسوم الصخرية والمنحوتات والزخارف المعمارية وعلى الأدوات المنزلية وعروش الملوك والأقيال، فقد حضي الوعل باهتمام خاص في أعمال الفن الصخري منذ العصور الحجرية، حيث تفنن الإنسان اليمني القديم في رسم صورة الوعل على الصخور في مواضع مختلفة، كما قام بتصوير مشاهد صيد الوعول على جدران كهوف العصور الحجرية بما يدل على ارتباط عميق بين الإنسان اليمني القديم وحيوان الوعل حتى وصل إلى تقديسه في معتقداته الدينية، فكان الوعل من أقدم ما شغل بال الفنان اليمني في عهود موغلة في القدم، إذ تفيد الدراسات الأثرية الحديثة وجود رسوم الوعل على الصخور وجدران الكهوف في أنحاء كثيرة من اليمن تعود إلى العصر الحجرين، أي منذ أكثر من سبعة آلاف عام وتوالت رسومها كذلك في فترات التاريخ اليمني القديم.
ومن المعروف لدى المهتمين أن النحات اليمني القديم قد اهتم بإخراج أشكال الرموز الدينية بعناية فائقة نظراً لما تمثله من أهمية دينية، الأمر الذي نرى فيه وضوح الملامح والمحافظة على نسب الجسم متوازنة خاصة في حال تجسيد التمثال كاملاً، أو كتلة الرأس بارزة في مجموعة الأفاريز، وقد أَوضَحَ الجوانبَ منها في نهاية صف الرؤوس إذ يبرز الجزء الأيمن والأيسر مع الأرجل واقفة.
وتظهر الوعول في فن النحت بصورة خاصة وقرونها مواجهة وأجسامها مصورة من الجانب أو بأوضاع جلوس القرفصاء في مربعات لتزين العروش وموائد القرابين على شكل (أفاريز الوعول) وهو نمط معماري فني ديكوري استخدم لتزيين واجهات المعابد وجدرانها الداخلية، إذ نرى ذلك في الجزء العلوي من سور معبد ألمقه في صرواح العاصمة القديمة لمملكة سبأ، ويمكن مشاهدة سور المعبد المستدير تزينه في الأعلى أفاريز من رؤوس الوعل خاصة في الواجهة الشرقية، كما كشفت اأعمال التنقيب الأثري التي أُجريت في معبد ألمقه برآن عن العديد من القطع الحجرية من أفاريز الوعل التي كانت تزين جدرانه الداخلية. ولا تزال الكثير من هذه الأنواع متواجدة في مواقع أثرية كثيرة وفي قاعات المتاحف اليمنية وفي الخارج كثير من هذه الأفاريز المنحوتة أغلبها من حجر الجير الأبيض (البلق) والرخام والمرمر ونادراً من الخشب، ومظهرها الجميل في صف رؤوسها المستطيلة الوجوه والملتوية القرون متجاورة تبرز أشكالها من كتلة الحجر المنحوتة منه.
إلى جانب ذلك اهتم النحات اليمني القديم في نحت أشكالها كمقدمة لمنحوتات الأعمال الهندسية المحورة والمنحوتة من الحجر أو المصنوعة من المعدن. كما جاءت مرافقة للمسارج البرونزية التي تشبه في شكلها القارب، إذ نراها معتلية المسرجة مرتكزة بقوائمها الخلفية أو الجزء السفلي من بدنها على مؤخرة المسرجة وتظهر متوثبة في حالة حركة بقوائمها الأمامية ، كما تظهر في لوحات من الحجر الجيري والرخام مزينة لكتابات نذرية بخط المسند وعلى عروش الملوك والأقيال والمجالس العامة.
الصيد المقدس والقوانين المنظمة له
للوعل في حياة اليمنيين القدماء ودياناتهم مكانة خاصة ومميزة، ومع وجود وفرة عظيمة من قطعان الوعول على امتداد الجغرافيا اليمنية بحسب ما تظهره الرسوم الصخرية والنقوش فقد اتخذ صيد الوعل الموسمي المقنن كطقس مقدس (صيد عثتر)، الذي كانت تقام له شعائر موسمية عامة حيث كانت تنظم طقسًا دينيًّا بحسب معتقدات اليمنيين القديمة لتضمن لمن يؤدوا هذا الطقس القوة والخصوبة في ذريته وفي أرضه وقطعانه، ويتصدر طقس الصيد المكرب أو الملك السبئي وكبار القوم، وكان الوعل هو قوام هذا الطقس وكانت فترة الصيد المحددة بعشرين يومًا من فصل (دثان) الصيف، بحيث يعلن المكرب أو الملك بداية موسم الصيد ونهايته، وينتهي الطقس المقدس بإقامة نصب احتفالي يسمى (القيف). ورغم الوفرة الكبيرة لقطعان الوعول فقد اقتصر صيده بالقوس والرمح وغيرها من الأدوات البدائية، فكانت فرصة نجاة الوعول من موسم الصيد كبيرة. ومع ذلك كانت التعاليم الدينية والقوانين اليمنية القديمة تحرم اعتراض الوعل أو منعه من الرعي في المراعي العامة والخاصة في سائر أيام السنة، وكان هذا التقنين المنظم يعمل على ضمان تكاثر القطعان والحفاظ عليها من الانقراض، بعكس ما تتعرض له الوعول هذه الأيام بسبب الاستيطان البشري لمناطق عيشها وتكاثرها والرعي في موائلها الطبيعية والأهم منها الصيد التدميري الجائر بالأسلحة الأتوماتيكية الحديثة لأغراض المفاخرة والتباهي الأجوف الذي عَرَّضَ الوعول اليمنية لخطر الانقراض بالرغم ما لها من أهمية بيئية وتاريخية ووطنية عند اليمنيين قديمًا وحديثًا.