اليمنيون والتدخل الأجنبي.. العزوف عن دفع ثمن حروب سلطات الأمر الواقع

موسى النمراني

لطالما شكلت الحساسية تجاه النفوذ الأجنبي سمة أساسية في الشخصية اليمنية عبر التاريخ. فمن مقاومة الاحتلال البرتغالي في القرن السادس عشر، إلى الكفاح الطويل ضد العثمانيين الذي امتد لأربعة قرون، وصولاً إلى الثورة ضد البريطانيين في الجنوب، ظل الدفاع عن السيادة الوطنية قيمة جوهرية في الوعي الجمعي اليمني.

لكن المفارقة تكمن في أن هذا الشعب الذي أبدى شراسة أسطورية في الدفاع عن أرضه، يبدو اليوم وكأنه فقد تلك الحساسية التاريخية، حيث لم يثر التدخل الخارجي في الحرب الحالية ردود فعل مماثلة لتلك التي أثارها التدخل المصري في ستينيات القرن الماضي، حين حارب اليمنيون ضد مصلحتهم بناء على دعاية استخدمت شعارات الوطنية ومقاومة التدخل الأجنبي.

بحسب خبراء فإن اليمنيين يعيشون اليوم تحت وطأة ما يمكن تسميته “متلازمة الإرهاق الجماعي”، وهي حالة نفسية اجتماعية تنتج عن التعرض المطول للصدمات. فخلال العقد الماضي فقط، عانى اليمنيون من حرب عنيفة مستمرة منذ 2014، وأسوأ أزمة إنسانية في العالم حسب الأمم المتحدة، وانهيار كامل للخدمات الأساسية، وانتشار واسع للأوبئة مثل الكوليرا، ومجاعة تعذب ملايين السكان.

في مثل هذه الظروف، يلجأ العقل الجمعي إلى آليات دفاعية، أهمها ما يُعرف بـ”التخدير العاطفي”، وهي حالة نفسية تجعل الفرد غير قادر على التفاعل مع الأزمات الجديدة، مهما كانت فداحتها؛ يُصبح الألم تراكميا، لكنه بلا استجابة، وكأن الجسد الاجتماعي قد أُنهك من فرط النزيف، وفقد القدرة على الإحساس؛ فمشهد القصف أو مشاهد الموت الجماعي أو أخبار التدخلات الخارجية لم تعد توقظ غضبا أو استنكارا، بل تمر كما تمر الأخبار عن تغيّر الطقس؛ مأساة مُدركة، لكن بلا طاقة على مقاومتها.

المؤسسات الاجتماعية التقليدية التي لعبت دورا محوريا في تنظيم المقاومة الشعبية ضد القوى الأجنبية في الماضي، فقدت قدرتها على العمل والتأثير، فالقبيلة، التي كانت حاضنة للمقاومة ضد الأتراك والبريطانيين، فقدت كثيرا من حضورها بعد أن تحولت إلى أداة في الصراع الداخلي، والأحياء الشعبية التي كانت تنتفض ضد المستعمر، وتعيش حالة المقاومة بكل تفاصيلها، وتدمجها في حياتها اليومية، أصبحت غارقة في هموم البقاء اليومي.

كما أن الأجيال التي نشأت خلال العقد الأخير من الحرب تختلف جذريا عن آبائها، حيث أصبحوا يعرفون أمريكا من حكايات المغتربين ووضعهم المادي أكثر مما يعرفونها كعدو مفترض، وهو ما أفرغ دعاية الحوثيين -على سبيل المثال- من تأثيرها المفترض، فيما لو كانت معزولة عن مثل هذه العوامل، وصار المستهدفون بالخطاب التعبوي ضد أمريكا، أو أوربا، يحلمون بالهجرة إلى دول الغرب التي كانت مصدر تهديد في المخيال الجمعي إبان حقبة مقاومة الاستعمار.

ولا ننس أن العقد الأخير شهد تحولاً خطيراً في الخطاب السياسي اليمني، حيث تم توظيف مفهوم السيادة لخدمة أجندات ضيقة، فالحوثيون، الذين يرفعون شعار “الموت لأمريكا”، ويتهمون خصومهم بالتبعية للسعودية والإمارات يقبلون الارتهان للنفوذ الإيراني عن طيب خاطر، وهي مفارقة لا بد أن يلاحظها الوعي الجماعي المتلقي للخطاب، ويحكم استجابته بناءً عليها.

في المقابل، فإن الحكومة “الشرعية” تعيش حالة الموت السريري وتستمد أوكسجين بقائها من الدعم الذي تتلقاه من التحالف السعودي الإماراتي، وهو الآخر مارس دورا من العبثية السياسية خلال العشر السنوات الماضية كان كافيا لتكوين صورة واضحة عنه في الوعي الجماعي، تجعل من خطاب الحكومة الشرعية المناهض للحوثيين باعتبارهم أداة إيرانية خطابا ضعيف التأثير، مقارنة بالخطاب نفسه لو أن هذه الحكومة احتفظت لنفسها بدرجة من الاستقلالية والحضور الداخلي.

هذه المفارقة عمّقت فجوة الثقة بين المواطن والخطاب السياسي المتداول؛ فحين يرى المواطن أن جميع الأطراف، رغم تناقضاتهم العميقة، يوظفون مفهوم السيادة لتبرير تحالفاتهم الخارجية أو ارتهاناتهم، دون أي سلوك يعزز فعليا استقلال القرار الوطني، فإن شعوره بالخذلان يتضاعف، وبمرور الوقت، لم يعد يُنظر إلى السيادة كمبدأ يستحق الدفاع، بل كشعار أجوف تتداوله الأطراف المتصارعة وفق مصالحها، لا وفق مصلحة الشعب. وهكذا، تراجعت فاعلية هذا المفهوم في الخطاب العام، وفقد الحديث عن السيادة قدرته على التأثير في وجدان المواطن العادي، أو دفعه للتحرك واتخاذ أي قرار، فالمصطلح تعرض لعملية جراحية فصلته عن دلالته، وصار مصطلحا بارداً يلوكه الجميع، وبالمناسبة، فقد تعرضت الكثير من المصطلحات لحالة مماثلة من فقدان الصلة بمدلالوتها خلال السنوات الجارية.

هذا التغيّر لم يقتصر على مستوى الخطاب ومضامينه، بل تسلل إلى البنية الاقتصادية ذاتها، ليعيد تشكيل طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الداخل والخارج. الحرب لم تخلق فقط انقسامات سياسية ومناطق نفوذ، بل أنشأت أنماطا جديدة من العيش، وفرضت واقعا اقتصاديا بديلا بات أكثر تأثيرا في وعي الناس من كل الشعارات السياسية المتداولة. ولأن هذه التحولات نشأت من واقع مفروض فقد ولّدت أنماطا من الاعتماد والتكيّف غيّرت نظرة المواطن للتدخلات الأجنبية، وفتتت الحساسية التاريخية تجاهها. وهذا ما لا يمكن تفسيره فقط من خلال المواقف السياسية، بل من خلال الاقتصاد الذي صار يتحكم في المعنى ذاته للسيادة والبقاء.

خلقت الحرب اقتصادا موازيا، أعاد تشكيل علاقة المواطن بالمحيط الخارجي، وخصوصاً التدخلات الأجنبية. فقد اعتمد هذا الاقتصاد على ثلاثة محاور رئيسية: أولها، المساعدات الإنسانية الدولية، التي تحوّلت من أدوات إغاثة طارئة إلى مصادر دائمة للوظائف والتمويل في قطاعات متعددة. ثانيها، تحويلات المغتربين، التي باتت تمثل شريان الحياة الحقيقي للاقتصاد، وتوفر موردا شبه ثابت للمعيشة في ظل توقف الرواتب وغياب الدولة. وثالثها، شبكات التهريب التي ازدهرت بفعل الحصار والانفلات الأمني، وأصبحت جزءً من الدورة الاقتصادية، وإن كانت غير شرعية.

وفي هذا السياق المركّب، لم يعد المواطن يرى التدخل الأجنبي كتهديد وجودي، بل كأمر واقع يتعذر دفعه، ولا مصلحة مباشرة في مناهضته. بل إن البعض بات ينظر إليه كمصدر محتمل للرزق، أو على الأقل كعامل يوفر الحد الأدنى من مقومات البقاء، في ظل عجز الداخل عن إنتاج بدائل مستقلة أو كريمة.

وعلاوة على ما سبق فقد أدت الثورة الرقمية إلى تغيير جذري في إدراك اليمنيين للعالم؛ فبينما كان اليمني في الماضي يعيش في عزلة جغرافية تزيد من حساسيته تجاه الخارج، نجد اليوم شابا في تعز يتواصل يوميا مع أقاربه في أمريكا، وفتاة في صنعاء تتابع محتوى تعليميا من منصات أجنبية، وعائلات تعتمد في معيشتها على تحويلات أبنائها في السعودية، ولم تعد الهوية تقتصر على الانتماء الجغرافي، بل أصبحت مركبة تشمل الانتماءات الرقمية مثل متابعة نجوم السوشيال ميديا، والتطلعات الفردية كالهجرة والعمل عن بعد.

وإذا كانت كل هذه التشققات قد أنتجت وطناً فاقد الملامح، وهوية على وشك التلاشي، فإن سؤال الخروج من هذا التيه لا يمكن أن يُجاب عليه بخطابات التعبئة أو الشعارات الجاهزة، بل بمشروع يعيد الاعتبار للإنسان كمصدر للشرعية، وصاحب القرار في مستقبله.

اليمني اليوم لا يجد نفسه معنياً بالدفاع عن قرارات لم يتخذها، وهموم الناس توزعت بناء على طبقاتهم الاقتصادية، بين مشغول بتوفير الوجبة التالية، ومن يحاول تفادي الوقوع هو أو أولاده ضحية للتجنيد، ومن يتفادى دفع المزيد من الإتاوات التي يشتري بها حقه في الحياة والعمل من الحوثيين، وبطبيعة الحال فإن هذا الوضع ما كان ليتشكل لو أن السلطة تستمد مشروعيتها من رضا الشعب واختياره، وتخوض حربها بناء على دوافع حقيقية نابعة من ضرورة مفروضة أو مصلحة مرجوَّة.

Exit mobile version