تقارير

اليمن المنسي: قصص من مناطق لا تصلها الكاميرات


في اليمن، حيث تطول الحرب حتى تصبح جزءًا من الهواء، هناك مناطق لا تصلها الكاميرات ولا تتسع لها نشرات الأخبار. أماكن يعيش فيها الناس على الهامش، لا لأن معاناتهم أقل قسوة، بل لأن الطريق إليهم محفوف بالخوف والمنع والصمت. هنا لا تُقاس المأساة بعدد الغارات فقط، بل بعدد القصص التي لا تُروى، والأصوات التي اختنقت قبل أن تجد منبرًا. هذا التحقيق يحاول الاقتراب من تلك المناطق المنسية، مستندًا إلى شهادات مواطنين ونشطاء وحقوقيين وآراء مختصين، ومقارنًا هذه الروايات بما وثقته تقارير دولية ومحلية حديثة، ليقدّم صورة متسلسلة وعميقة عن حياة تُدار بالقهر، وتُستنزف بالصمت.

جغرافيا الإخفاء
تتوزع المناطق التي لا تصلها الكاميرات في محافظات تخضع لقيود أمنية وإعلامية مشددة، حيث يصبح الوصول نفسه مغامرة. صحفيون محليون يصفون المشهد بأنه “حصار للمعلومة”، لا يُمنع فيه التصوير فقط، بل يُعاقَب السؤال. في هذه الجغرافيا، تُدار الحياة اليومية بمنطق الطوارئ الدائمة. الأسواق تعمل بنصف طاقتها، المدارس تفتح وتغلق وفق مزاج السلطة المحلية، والمستشفيات تفتقر إلى الحد الأدنى من التجهيزات. مختصون في الشأن اليمني يرون أن تغييب هذه المناطق عن الإعلام ليس عرضيًا، بل جزء من إدارة الصراع عبر التحكم بالسردية، حيث يصبح غياب الصورة أداة بحد ذاته.

حياة تحت الضغط
يقول “أبو أحمد” لموقع الوعل اليمني وهو أب لخمسة أطفال من إحدى القرى الجبلية، إن أصعب ما يواجهه ليس الفقر وحده، بل الإذلال اليومي. يتحدث عن جبايات تُفرض بأسماء متعددة، وعن خوف دائم من الاستدعاء أو الاعتقال بسبب كلمة أو موقف. روايته تتقاطع مع شهادات أخرى تؤكد أن الاقتصاد في هذه المناطق يُدار كأداة ضغط، حيث تُربط الخدمات الأساسية بالولاء، وتُستخدم المساعدات الإنسانية كورقة تحكم. تقارير محلية صادرة خلال العامين الأخيرين أشارت إلى أن أنماط الجباية غير الرسمية أسهمت في تدهور القدرة الشرائية ودفعت مزيدًا من الأسر إلى حافة الجوع.

السجون التي لا تُرى
أحد أكثر الملفات قتامة هو ملف الاحتجاز. حقوقيون يمنيون يؤكدون أن هناك مراكز احتجاز غير معلنة، يُحتجز فيها معارضون أو مشتبهون دون إجراءات قانونية. “سلمى”، ناشطة حقوقية، تروي لموقع الوعل اليمني كيف تلقت خلال الأشهر الماضية شكاوى من أسر لا تعرف مكان أبنائها. تتحدث عن زيارات ممنوعة، ومحاكمات غائبة، وعن خوف يمنع الأهالي من الشكوى العلنية. هذه الشهادات تتسق مع ما ذكرته تقارير أممية حديثة حول أنماط الاحتجاز التعسفي في اليمن، والتي حذّرت من أثر ذلك على النسيج الاجتماعي وسيادة القانون.

نساء في الظل
في المناطق المنسية، تتحمل النساء عبئًا مضاعفًا. “أم ليان” فقدت زوجها في ظروف غامضة بعد استدعائه للتحقيق، ومنذ ذلك اليوم أصبحت المعيلة الوحيدة. تتحدث عن نظرات الشفقة التي لا تُطعم أطفالها، وعن محاولاتها اليائسة للحصول على مساعدة غذائية تُشترط أحيانًا بإجراءات مهينة. مختصات في قضايا النوع الاجتماعي يؤكدن أن النساء في هذه البيئات يواجهن عنفًا مركبًا، اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا، وأن ضعف آليات الحماية يزيد من هشاشتهن. تقارير دولية معنية بحقوق المرأة في النزاعات المسلحة خلال 2023 و2024 أشارت إلى أن اليمن ما يزال من أخطر البيئات على النساء، خصوصًا في المناطق المغلقة إعلاميًا.

الطفولة المؤجلة
الأطفال هنا يكبرون بسرعة. مدارس بلا كتب، ومعلمون بلا رواتب، ومناهج تُستبدل أو تُشوَّه. “علي”، طفل في الثانية عشرة، يعمل في سوق محلي بدل الذهاب إلى المدرسة. يقول إنه يحلم بأن يصبح طبيبًا، ثم يضحك وكأنه يعتذر عن حلمه. خبراء تربويون يحذرون من أن حرمان الأطفال من التعليم في هذه المناطق لا يخلق جيلًا ضائعًا فحسب، بل يرسّخ دورة عنف طويلة الأمد. تقارير صادرة عن منظمات دولية معنية بالطفولة خلال العام الماضي أكدت أن معدلات التسرب المدرسي في اليمن بلغت مستويات مقلقة، وأن المناطق المغلقة هي الأكثر تضررًا.

الإعلام المكمم
غياب الكاميرات ليس صدفة. صحفيون محليون تحدثوا عن تهديدات مباشرة، وملاحقات، ومنع من العمل. أحدهم قال إن “الخبر هنا قد يكلّفك حريتك”. هذا المناخ يدفع الكثيرين إلى الصمت أو الهجرة، ويترك الساحة لرواية واحدة. مختصون في الإعلام يرون أن هذا القمع لا يضر الصحفيين فقط، بل المجتمع بأسره، لأنه يحرم الناس من حقهم في المعرفة والمساءلة. تقارير حديثة لمنظمات دولية معنية بحرية الصحافة صنّفت اليمن ضمن أخطر الدول على الصحفيين، مع الإشارة إلى تزايد القيود في المناطق التي يصعب الوصول إليها.

الصحة على حافة الانهيار
في مستشفى ريفي صغير، تصف ممرضة كيف تُجرى عمليات دون تخدير كافٍ بسبب نقص الإمدادات. المرضى يقطعون ساعات للوصول، وبعضهم يعود أدراجه. أطباء يؤكدون أن منع دخول المعدات والأدوية أو تأخيرها يحوّل الأمراض البسيطة إلى قاتلة. تقارير صحية دولية ومحلية صدرت مؤخرًا حذرت من أن النظام الصحي في اليمن يعيش واحدة من أسوأ أزماته، وأن المناطق المنسية تتحمل العبء الأكبر بسبب ضعف الرقابة والدعم.

رواية الحقوق
حقوقيون يمنيون يجمعون على أن المشكلة ليست في نقص التوثيق فحسب، بل في ضعف الوصول والمساءلة. يقول أحدهم إن “الانتهاك حين لا يُرى يتكرر بسهولة”. يشيرون إلى أن تقارير دولية صادرة خلال 2024 وثّقت أنماطًا عامة من الانتهاكات في اليمن، لكنها تعترف بصعوبة الوصول إلى بعض المناطق، ما يعني أن الواقع قد يكون أشد قسوة مما هو موثق. هذا الفراغ يخلق حاجة ملحة لفتح الممرات أمام الصحافة المستقلة والمنظمات الحقوقية.

بين الأرقام والوجوه
الأرقام وحدها لا تكفي. خلف كل نسبة وجه، وخلف كل تقرير قصة. “أبو أحمد” و“أم ليان” و“علي” ليسوا استثناءات، بل نماذج. قصصهم تكشف كيف يتحول الصراع إلى حياة يومية من التنازلات القسرية. مختصون في علم الاجتماع يرون أن تراكم هذه التجارب يخلق مجتمعًا مثقلاً بالصدمة، يحتاج إلى ما هو أكثر من المساعدات، يحتاج إلى عدالة وحقيقة.

اليمن المنسي ليس بعيدًا، بل مُبعد. قصصه موجودة، لكنها محاصرة. هذا التحقيق لا يدّعي الإحاطة بكل شيء، لكنه يحاول كسر دائرة الصمت عبر جمع شهادات تتقاطع مع ما وثقته تقارير دولية ومحلية حديثة. إعادة هذه المناطق إلى الضوء ليست مسألة إعلامية فقط، بل مسؤولية أخلاقية. فحين لا تصل الكاميرات، يصبح القلم آخر نافذة، وحين تُغلق النوافذ، يختنق الأمل. إعادة فتحها تبدأ بالاعتراف بأن ما لا يُرى لا يقل حقيقة عمّا يُعرض على الشاشات، وأن إنصاف اليمن يبدأ من سماع أصواته المنسية.

زر الذهاب إلى الأعلى