انتشار فيروس الضمير واختفاء البحر المتوسط.. “بلاد تركب العنكبوت” وعلامات نهاية العالم
تذكرك رواية “بلاد تركب العنكبوت” للكاتبة المصرية منى سلامة، بالكثير مما قرأته أو عرفته عن سكان العشوائيات في مصر، حيث تعبر في سردها عن رؤية شاملة لأنماط الحياة في هذه البيئة، فجاء المتن يحكي عن حياة مختلفة عما هو مألوف من حياة الناس في مراكز المدن. فهؤلاء لهم لغة خاصة بهم، وأعراف وعلاقات اجتماعية، ومعتقدات وأخلاق مختلفة، وحتى أن مستويات التخيل لديهم تختلف عن غيرهم. واتسم بناء مفاصل الرواية بوقائع خياليّة، وأحيانا خارقة، واتبعت الكاتبة أساليب وتقنيات الرواية الواقعية السحرية في مزجها السياسي بالواقعي، والحاضر المعاش بالأسطوري والتاريخي.
جاءت سرود الرواية، التي صدرت عن دار عصير الكتب بالقاهرة مؤخراً، بشذرات لبعض الوقائع العجيبة لولي الحارة ــ غريب الأطوارــ الشيخ “جو”، وما ذكره للشخصية الرئيسية في الرواية “أسمر” من حوادث عن علامات نهاية العالم، وما سيقع له أو في الحارة، ووقعت بالفعل.
إنفلونزا الضمير
تبدأ الرواية بالكاتب الكبير الحائر بين الكتابة والتأمل في فاجعة كونيّة حدثت في مصر، هي “اختفاء البحر الأبيض المتوسط”، وقد كان متردداً، وهو يهمُّ باختيار عبارات مقاله حول عواقب ذلك الحدث الكونيّ. البحر لم يبقَ منه سوى قاع صفصف وصخور زلقة، وما ترسَّب في الأعماق من هياكل سفن وبقايا صدئة مما كان يُلقى في البحر.
تسرد الرواية وقائع حياة وموت الكاتب الكبير، الذي حلم، وخطط لكتابة رواية تقتل قارئها، متتبعاً بذلك تجربة روائي آخر سبقه يدعى “رامي قشوع” مؤلف “الرواية التي قتلت قارئها”. رامي قشوع، الذي كانت نهايته مأساوية انتهت به إلى الحجز وهو بعمر الثانية والسبعين بأحد نوادي الأمراض النفسية والعقلية بتهمة قتل زوجته.
وقد وردت تفاصيل موت الكاتب الكبير واختفاء جثته من مستودع الجثث في سرد مواز لحياة الشخصية الرئيسية لرواية سائق التاكسي “أسمر” الذي يعيش مديونا لصاحب السكن الذي يعيش فيه بأحدى العشوائيات. ويقضي أسمر وقت استراحته بعد فترة عمله في مقهى العطاسين بالحارة، ليتفادى اللقاء بمدينه “شلبي” صاحب الشقة.
“أسمر” لم يكن بارعا في اكتساب الصداقات، وبدا لنفسه وكأن الناس لا تراه. يقول أسمر عن حاله “أمرُّ بجوارهم في الطرقات، وأجلس بجوارهم في مقاعد الدراسة ومدرجات الجامعة وفي المقهى، لكنهم لا يروني، لا يسمعوني، كهواء يمر بجوار وجوههم، فلا هو بارد يقرص ولا حار يلسع”.
كان “أسمر” مصوراً فوتوغرافيا موهوباً، وله معرض دائم أقامه في سكنه عرض فيه ما يلتقطه من صور، لكنه يعيش حياة روتينية وفي فقر شديد، وغربة مريرة وإحساس كريه يشعره بالعبثيّة والدونيّة.
كما أن هواجسه بمطاردة له من قبل سلطات الدولة لا تفارقه، فهو يخاف من أن يتم تشخيص وضعه كمصاب بالمرض الغريب “إنفلونزا الضمير” الذي يصيب الناس. فلجان المرور تقطع الشوارع وتتفحص كل مار أو سائق، وكل من يقلَّه تاكسي. وكل من تجده مصابا بالفايروس يحجر عليه فورا، وتُجرى له عملية جراحية معقدة يتم خلالها وضع صمام لضميره، لمنع الفايروس من الانتشار، وعدوى الآخرين، والتسبب في تدهور الوضع النفسي والاجتماعي للسكان.
استعارت الكاتبة أحداثاً من بناءات متخيلة وجعلتها هيكلاً للرواية، كعلامات لنهاية العالم، منها اختفاء البحر البيض المتوسط، والبحر الأحمر، وانتشار فايروس الضمير، الذي يتسبب بإنفلونزا الضمير. المرض الذي يتطلب إجراء عملية فورية لزرع صَّمام للضمير، واختفاء جثث الميتين عقب وفاتهم مباشرة، ونسيان أسماء من ماتوا، وإنكار جميع الوقائع التي عاشوها.
الصورة الفريدة
“أسمر” يُكلف من قبل “شاهق” ضابط البوليس المشرف على العشوائيّة، التي يعيش فيها أسمر بمهمة التقاط صورة للكاتب الكبير، ويغريه بمال كثير إن نجح بالتقاط صورة له، وهو في عزلته.
وتشاء المصادفات أن الكاتب الكبير كان يكتب في غرفة مكتبه في الطابق الأعلى المطلة على حديقة المنزل، فيستفزه صوت قفزة “أسمر” من فوق سور حديقة منزله. مما جعله يطلُّ من النافذة، وهو يحاول الاتَّصال بالشرطة لإبلاغها بأنّ ثمة لصا في حديقة منزله.
لسوء الحظ فقد الكاتب الكبير توازنه وسقط من النافذة إلى الأرض ولقي مصرعه فوراً، فصوّر أسمر صورة الكاتب الكبير ميتاً فوق عشب الحديقة. واعتبر أسمر الصورة التي التقطها للكاتب الكبير الميت، هي مفتاح السعد المادي لوضعه المتأزم منذ فترة طويلة، حتى أنه وعد “شلبي” صاحب الشقة بأنه سيسدد كافة الديون المتأخرة عليه حالما يتم له بيع هذه الصورة الفريدة التي ستوزع على وكالات الأنباء والجرائد.
كان أسمر مُراقباً من شخص ما، وعندما انشغل بتصوير الجثة ضربه شخص ما من الخلف بعقب مسدس على رأسه، فسقط فاقداً الوعي، ولم يفق إلا وهو في المستشفى تطارده تهمة قتل الكاتب الكبير.
حاول أسمر بكل السبل إبعاد التهمة عنه، مرة بالتوسل بولي الحارة الشيخ “جو” ومرة بضابط الشرطة “شاهق” لكنه يبقى في قرارة نفسه أنه المذنب الوحيد لتسببه في مقتل الرجل. معاناة مستمرة من تأنيب الضمير، والتفكير من أنه هو من قتل الكاتب الكبير، أو على الأقل تسبب في مقتله.
استحضار الكاتبة لحياة أسمر وعذاباته كإنسان محدود التعليم والثقافة لم يكن موضوعيا وحياديا بل جاء من خلال رؤية الساردة السياسية والفلسفية والاجتماعية، فقد حملت الشخصية حمولات فكرية وذهنية تفوق قدراتها الواقعية.
كما أن شخصيات كـ“حصان طروادة”، مولانا الشيخ “جو”، الطبيبة خيال، الكاتب الكبير، شاهق ضابط الشرطة، رامي قشوع، جميعها شخصيات ذهنية أكثر مما هي شخصيات واقعية يمكن الحكم عليها في الرواية. ومعظم الشخصيات كانت مجرد أصوات تظهر وتختفي وقتما يحتاج لها السارد، ليهملها حين لا يكون بحاجة إليها، وهي بالتالي غير مقنعة ولا تنال التعاطف وتبقى مجرد رموز وفزاعات في ذهن أسمر المشوش، الذي تسببت الضربة التي نالها على رأسه بمرض ذُهان، ونسيان مستمر لما عاشه من أحداث.
رواية “بلاد تركب العنكبوت” تعتبر من فنون الكتابة السردية المتخيلة تأسَّست على تداعيات تيار الوعي، والتفاعل والحوار مع الذات والتناص مع الأفكار. وانفتحت في شمولية على مشاكل ومعاناة الفرد البسيط في مجتمع متخلف يلهث أفراده على المغانم من دون راحة بال. وقد أعادت الكاتبة من خلال السرد تشكيل الكثير من الكوابيس التي يمر بها المصابون بالذُهان، وجسدتها كوقائع حقيقية، وأعطتها تأويلاً سياسياً وفلسفياً في معانيها ودلالاتها.