
لا يمكن أن يقرأ المسلم سورة الإسراء في هذه الظروف دون أن يجول بنظره وفكره في الآيات التي تتناول إفساد بني إسرائيل وعلوَّهم في الأرض.
إذ أنَّ هذه الآيات قريبة مِن واقعنا اليوم وما يجري مِن أحداث، خصوصًا وأنَّ المسلم يتطلَّع إلى تحقيق وعد الله تعالى بإنهاء هذا الإفساد.
ولا يزال العلماء والمفسِّرون يخوضون غمار التفسير والتحليل لنصوص الكتاب الكريم تجلية لمعانيه وإظهارًا لمكنونه.
وقد يتجدَّد لهم النظر وتتفتَّح لهم آفاق لإعادة القول وتجديد الرأي، بحسب ما يحدث عندهم مِن معرفة أو خبرة أو إلهام.
ولا يزال الحوار والجدل والرأي يدور حول تفسير هذه الآيات المتعلِّقة بإفساد بني إسرائيل وعلوِّهم في الأرض بين علماء الأمَّة قديمًا وحديثًا، إذ الباب لا يزال مفتوحًا للاجتهاد في الرأي طالما وأنَّ الأمر لم يُحسم بعد، وتبقى الآراء تدور بين الصواب والخطأ والراجح والمرجوح والقرب والبعد.
علمًا بأنَّ تفسير بعض الآيات يتأثَّر بمدارك المفسِّرين في عصرهم وزمنهم، خصوصًا عندما يتعلَّق الأمر بحدث معلَّق، يمكن تأويله على الماضي أو المستقبل، فضلًا عن زاوية النظر للخطاب، بحيث يجعل الأمر متَّجهًا إلى خلاف وجهته.
وهذا ما كان ينبِّه إليه علماء الأمَّة؛ ففي حين رأى جمهور مِن الصحابة -رضي الله عنهم- سورة النصر بأنَّها في سياق البشرى بفتح مكَّة ذهب عمر بن الخطَّاب وعبدالله بن عبَّاس -رضي الله عنهما- إلى كونها نعي رسول الله إلى نفسه.
لهذا يظهر لي مجدَّدًا، وبعد تأمُّل في أحداث دولة بني إسرائيل التي أُعلِن عن قيامها عام 1948م، وما يجري مِن أحداث في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023م، وقتل وذبح وتهجير، أنَّ الآيات قد تكون موجَّهة بالأساس لأمَّة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم، وبحسب توجيه ضمير المخاطب سيختلف فهم الأحداث.
ففي حين ذهب المفسِّرون السابقون لكون ضمير الخطاب موجَّهًا لبني إسرائيل، إذ جاء في سياق الكلام عنهم مطلع الآيات، نظرًا لاستبعاد أن يكون الخطاب موجَّهًا لهذه الأمَّة، يمكن في الوقت ذاته أن يكون موجَّهًا للأمَّة المسلمة.
ولعلَّ الدافع وراء اعتقاد أنَّ الخطاب والضمير موجَّه لبني إسرائيل وليس للمسلمين هو الظنُّ بأنَّه لا يمكن أن يسلَّط اليهود على المسلمين، وهو أمر ورد في بعض الأحاديث، حيث أخبر الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن ذلك، وتعجَّب له الصحابة -رضي الله عنهم. بالتالي قد يكون تحويل الخطاب هو المدخل الأنسب لقراءة الآيات بشكل موضوعي صحيح.
وقوله تعالى: ((وَقَضَينَا إِلَىٰ بَنِي إِسرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفسِدُنَّ فِي الأَرضِ مَرَّتَينِ وَلَتَعلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا))، الإسراء: 4، فيه إخبار لهذه الأمَّة المسلمة، والخطاب موجَّه لها، بأنَّ الله تعالى قدَّر في سابق علمه، في الكتاب وهو هنا كتاب اللوح المحفوظ المدوَّن فيه القدر، أنَّ بني إسرائيل سيفسدون في الأرض، وهي هنا فلسطين، إذ هي مرتبطة بقصَّة الإسراء والمسجد الأقصى، ولا اعتبار لأيِّ تأويل آخر خلافها، والقول بأنَّهم أفسدوا بالمدينة لا محلَّ له، إذ هم مُفسدون حيث حلُّوا، وإنَّما المقصود به هنا إفساد مخصوص في الأرض المقدَّسة بعد فتحها مِن قبل المسلمين. فالأرض هنا فلسطين وليس غيرها.
وسيتمُّ إفسادهم في ظلِّ علوِّهم علوًّا كبيرًا، أي مع قيام دولة قويَّة لهم، مدعومة مِن قوى عالمية، أو بقوى تهيمن عليها رؤى صهيونية يتمكَّن اليهود مِن فرضها عليهم.
والإفساد هُنا هو قتل المسلمين مِن أمَّة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم، وتهجيرهم مِن ديارهم، فلا إفساد أعظم مِن سفك دماء المسلمين وإخراجهم مِن أوطانهم، ولهذا قالت الملائكة: ((قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ..))، البقرة: 30.
وأمَّا الفساد والعصيان الذي يلحق بأيِّ أمَّة، فيقع في اليهود والنصارى بل وفي هذه الأمَّة المحمَّدية، فهو مِن الفساد المعتاد؛ وفساد بني إسرائيل في فلسطين في زمن مملكتهم قديمًا هو مِن هذا العصيان والفساد الذي تجري سننه على المجتمعات والدول.
لكنَّ الله تعالى يريد أن ينبِّه في معرض الحديث عن الإسراء والمسجد الأقصى وفتح المسلمين لبيت المقدِّس إلى وجود احتلال إسرائيلي قادم، وأنَّ هذا الاحتلال الإسرائيلي القادم ستزهق فيه أنفس مؤمنة، وأنَّ على المسلمين أن يوطِّنوا أنفسهم لهذه المعركة القادمة. فهو إخبار وتنبيه للمسلمين بقيام دولة لبني إسرائيل ذات شأن وقوَّة.
وقد ثنَّى الله تعالى الإفسادتين وأفرد العلوَّ، فلم يقُل: ولتعلنَّ علوَّين كبيرين، وفي هذا إشارة إلى أنَّ الإفسادتين ستكون في علوٍّ واحد، وهو قيام دولة إسرائيل التي ستنشأ على أرض فلسطين.
وقوله تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ وَعدُ أُولَاهُمَا بَعَثنَا عَلَيكُم عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعدًا مَّفعُولًا))، الإسراء: 5.
الخطاب هنا موجَّه لأمَّة الإسلام، أي إذا جاء وعد الإفسادة الأولى، أي المذبحة الأولى التي يرتكبها بنو إسرائيل في حقِّكم بأرض فلسطين، بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد، وهؤلاء هم البريطانيون الذين تسلَّطوا على الأمَّة، ومزَّقوا دولتها، وشتَّتوا وحدتها، فجاسوا خلال الديار، بلاد المسلمين التي أصبحت خاوية مِن المقاومين المؤمنين، فعاثوا في شرقها وغربها، حتَّى كادت أن تكون أرض المسلمين لهم دون غيرهم.
وقد يُقصدُ بهم الأوربِّيون عمومًا، إذ كانت دولهم وجيشوهم ذات بأس شديد، وسلاح عتيد، وتوزَّعت خارطة المسلمين بينهم، يحتلُّونها ويتقاسمونها.
فهذا محتمل وهذا محتمل. وقد تحقَّق إفساد اليهود بوجود الاحتلال الأوربِّي لبلاد المسلمين، وارتكب اليهود الأذلَّاء المجازر ضدَّ المسلمين تحت رعاية هذه الدول، وهجَّروا أهل الأرض وشرَّدوهم، حتَّى أعلنوا قيام دولتهم في عام 1948م. فهذا هو الإفساد الأوَّل، والذي رافق الاحتلال الأوربِّي لبلاد المسلمين.
وقد زاد عدد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، في الفترة بين 1937م- 1948م، عن (75) مجزرة، راح ضحيَّتها أكثرُ مِن (5) آلاف فلسطيني، فضلًا عن إصابة الآلاف. هذا فضلًا عن تشريد أكثر مِن (800) ألف فلسطيني عن قراهم ومدنهم. وهو رقم بقياسات ذلك التاريخ كبير جدًّا، إذ يقدَّر عدد الفلسطينيين عام 1948م بأكثر مِن (1.5) مليون فلسطيني.
ثمَّ قال تعالى: ((ثُمَّ رَدَدنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيهِم وَأَمدَدنَاكُم بِأَموَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلنَاكُم أَكثَرَ نَفِيرًا))، الإسراء: 6، والكلام هنا لا يزال موجَّهًا لأمَّة المسلمين، وبالأخصِّ أصحاب الأرض، الذين هُجِّروا وطُردوا وشرِّدوا.
والكرَّة هي أسرع ما تكون بعد الفرَّة، إذ لا تكون كرَّة بعد قرون وآلاف السنين، إذ هذا لا يُعهد في كلام العرب. فكلمة كرَّة هنا تدلُّ على قرب العهد واتِّصال المعركة، فلا يكون الكرُّ والفرُّ إلَّا في معركة واحدة.
وهذا يكون بعد أن يمنح الله تعالى أهل فلسطين إمدادًا مِن الأموال والبنين، وهو ما يحتاجه أيُّ شعب لاسترداد أرضه واستعادة حقِّه.
وبالفعل فقد تنامى عدد الفلسطينيين، وفتحت لهم أبواب الدنيا شرقًا وغربًا، وجاءهم الدعم مِن بقاع المسلمين المختلفة، حتَّى بات الفلسطينيون أكثر تعدادًا مِن الإسرائيليين، وهو ما جعل الإسرائيليين يعيشون تحت قلق التغيُّر الديمغرافي في دولة إسرائيل وفلسطين عمومًا.
فهذا الإمداد الإلهي للفلسطينيين بالأموال والبنين أدعى لأن يغتنموه ضدَّ أعدائهم ولا يُضيِّعوه: ((إِن أَحسَنتُم أَحسَنتُم لِأَنفُسِكُم وَإِن أَسَأتُم فَلَهَا..))، الإسراء: 7، ومعلوم أنَّ تضييع هذا التحوُّل في المعادلة والتخاذل عن استغلاله سبب للنكبة، وعندها تضيع المقدَّسات.
وللأسف فإنَّ فئة قليلة مؤمنة هي مِن استغلَّت هذا الإمداد الربَّاني بالأموال والبنين، فأعدَّت وتجهَّزت وتدربَّت وبنت قدراتها المختلفة، فيما ظلَّ كثير مِن الفلسطينيين في حالة التيه والضياع، وما يُقال عن مسلمي فلسطين يُقال عن مسلمي العالم، فئة قليلة تعدُّ وتستعد وكثرة منغمسة في الشهوات والملذَّات.
ثمَّ يقول تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ وَعدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُم وَلِيَدخُلُوا الـمَسجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ..))، الإسراء: 7.
ووعد الآخرة هنا يقصد به الإفسادة الثانية، والمجزرة الجديدة في المسلمين، حيث ساءت وجوه كثير مِن المسلمين بتخاذلهم وتثبيطهم وتقصيرهم وإضاعتهم لما يجب عليهم، وإذا ما انتصر بنو إسرائيل على قطاع غزة فسوف يلحق بالفلسطينيين أوَّلًا وبعموم المسلمين السوء وسواد الوجه، حيث يغلبون مِن هذه الشرذمة النتنة.
والذين يدخلون المسجد، إمَّا أن يكونوا الأشخاص المشار لهم في الآيات الأولى ((عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأسٍ شَدِيدٍ))، فيكونون هم البريطانيون الذين دخلوا القدس أوَّل مرَّة في 11 ديسمبر 1917م، بعد شهر مِن إصدار وعد “بلفور”، وباتت القدس محتلَّة بأيديهم حينها؛ وإمَّا أن يكونوا بنو إسرائيل الذين احتلُّوا القدس في 7 يونيو 1967م، وضمُّوها إلى دولتهم المعلنة في 1948م.
والراجح هو الثاني كونهم أصحاب الدولة، لذلك قال تعالى: ((وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوا تَتبِيرًا))، الإسراء: 7، أي أنَّهم سيدمِّرون بدخولهم الثاني للمسجد الأقصى تدميرًا أشمل، قد يطال فيما يطال المسجد الأقصى ذاته، وتدمير المسجد أعظم إساءة لوجوه المسلمين.
وفي حين لم يذكر التتبير في الدخول الأوَّل ذكره هنا كونه أعظم صور العلو والاستكبار والجبروت والإفساد. وهو المشهد الذي لا يُريد القرآن الكريم للمسلمين أن يصدموا به، وليعلموا أنَّ ذلك كائن بتقصيرهم وتخاذلهم وإضاعتهم للواجب، فالسنن لا تحابي أحدًا، لهذا قال: ((عَسَىٰ رَبُّكُم أَن يَرحَمَكُم))، الإسراء: 8، بهذا الإخبار المؤلم لكم فيخفِّف عنكم مُصابكم، أو بهذا التسليط الذي يعيدكم إلى رشدكم ووعيكم ورجوعكم للدين، فإن أبيتم إلَّا التقصير والتخاذل وإضاعة الواجب عادت العقوبة وعاد التسليط: ((وَإِن عُدتُّم عُدنَا وَجَعَلنَا جَهَنَّمَ لِلكَافِرِينَ حَصِيرًا))، الإسراء: 8.
إنَّ ما سيميِّز الإفسادتين اللَّتين ستكونا في ظلِّ علو بني إسرائيل ودولتهم هو أنَّ الإفسادة الأولى ستكون إفسادة النشأة والتأسيس، والإفسادة الثانية ستكون إفسادة الانكسار والزوال، وبينهما علوٌّ على مستوى الداخل وعلى مستوى العالم الذي تآمر مع هذه الأمَّة اللقيطة النجسة.
والعجيب هو أنَّ سورة الإسراء تضمَّنت في موضعين مِنها مسألة الاستفزاز والإخراج مِن الأرض، الأولى في شأن نبيِّنا -عليه الصلاة والسلام، إذ قال الله تعالى: ((وَإِن كَادُوا لَيَستَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرضِ لِيُخرِجُوكَ مِنهَا وَإِذًا لَّا يَلبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَن قَد أَرسَلنَا قَبلَكَ مِن رُّسُلِنَا ولَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحوِيلًا))، الإسراء: 76- 77.
والثانية في شأن موسى -عليه الصلاة والسلام، وقومه، إذ قال تعالى: ((فَأَرَادَ أَن يَستَفِزَّهُم مِّنَ الأَرضِ فَأَغرَقنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا * وَقُلنَا مِن بَعدِهِ لِبَنِي إِسرَائِيلَ اسكُنُوا الأَرضَ فَإِذَا جَاءَ وَعدُ الآخِرَةِ جِئنَا بِكُم لَفِيفًا))، الإسراء: 103- 104.
فكأنَّ الإخراج حاصل في ظلِّ صراع الدين والأرض بين اليهود والمسلمين، فأراد الله أن يطمئن المسلمين وأن يذكِّر اليهود، بأنَّ إخراج المسلمين مِن فلسطين سيكون متعذَّرًا وأنَّ المعركة ستكون سجالًا والعاقبة للمؤمنين أصحاب الحقِّ.

معركة على فكرة الوطن ذاته!
كيف انتهت تجارب الميليشيات الموالية للاحتلال تاريخيًا؟
أحلام نتنياهو: تبخّرت أم تأجّلت؟
ميراث التجزؤ في جنوب اليمن