“بين الشهادة والأسر” نساء غزة يبحثن عن الحقيقة وسط الرماد.. “الوعل اليمني” يفتح ملف المفقودين في غزة

الوعل اليمني / أزهار الكحلوت
بعد توقف الحرب وهدوء أجواء القصف والدمار، لا تزال النساء في قطاع غزة يبحثن عن أبنائهن المفقودين. يسألن ويكتبن بأقلام ملؤها الحزن والأمل، على أمل العثور على من كانوا يومًا نبض قلوبهن .
سؤال يطرق الأبواب، يتردد في الأزقة، ويطفو على شاشات الهواتف، ليواجهه ثلاثة سيناريوهات قاسية، إما الاختفاء في سجون الاحتلال أو الدفن في مقابر جماعية أو الموت تحت الركام.
لكن يبقى الأمل وحده رفيق نساء غزة، رغم أن الزمن لا يمنحهن سوى المزيد من الحيرة والوجع.
من قصص الفقد
أسدل الليل ستاره على قلب ياسمين المكلوم، زوجة المفقود خالد أبو عجوة البالغ من العمر 49 عاماً، فازدادت العتمة في روحها، وغرقت عائلته في بحر من الانتظار، معلقة بين الخوف والأمل.
وتسرد ياسمين قائلة: “فقدت الاتصال بزوجي يوم 22 ديسمبر/كانون الأول 2023، حين كان ذاهبًا لمنزلنا بحي النصر بغزة، بعد سماعه أن قوات الاحتلال قد انسحبت من المنطقة، ذهب مسرعاً لجلب الطعام والطحين لعائلته، التي كانت نازحة في أحد مراكز الإيواء غرب المدينة، ومنذ ذلك اليوم لم يعد شيءٌ كما كان.”
منذ فقدانه، هرعت العائلة للبحث عنه، وتصف ياسمين الحدث قائلة ” خرج زوجي من مركز الإيواء وذهب إلى المنزل”، لكنها ليست متأكدة إن كان وصل إليه أم لا، وتتابع بحزن: “قصفوا البيت بعد أسبوع من فقدانه، أنا خائفة أن زوجي كان فيه محاصراً.”
وبذلت العائلة جهودًا مكثفة للبحث عنه، زاروا المستشفيات و تواصلوا مع الجهات المعنية ، ونشروا صوره عبر منصات التواصل الاجتماعي، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، ولم تصل إليهم أي معلومة مؤكدة بشأنه.

وسط هذا الألم، لم تفقد ياسمين أملها، في العثور على اسم زوجها بين الأسرى، فكانت تتابع كل قائمة تصدر عن الأسرى المحررين، تبحث في الأسماء عن اسمه، تنتظر أي خبر قد يطفئ نار الانتظار، فكانت تسألهم دائماً، وقد ذكر بعضهم أنهم سمعوا باسمه، وهو الخيط الوحيد الذي دفعها للتمسك بالأمل في أن يكون على قيد الحياة.
وتقول ياسمين، بينما تحاول أن تبقى قوية أمام أطفالها: ” كلما سمع ابني الصغير أن هناك أسير من عائلة أبو عجوة، يصرخ فرحاً: ماما، سأنادي بابا!”.
لا أملك دليلاً على استشهاده
وبعد مرور أكثر من عامٍ، على فقدان زوجها وصلتها رسالة من اللجنة القضائية في غزة، مفادها أن تذهب لتسجيل بيانات زوجها كشهيد، ولكن رفضت على الفور. تقول بحزم: “كيف أوقع على شهادة وفاته وأنا لا أملك أي دليل على استشهاده؟ كيف أخبر أطفالي فجأة أن والدهم لن يعود؟ بينما هم ما زالوا يعيشون على أمل عودته؟ ولم أرد أن أتخذ خطوة قد تؤثر على نفسيتهم وأتعب أكثر معهم وأتعب نفسياً”.
اللجنة القضائية هي الجهة المختصة في غزة، التي تتولى دراسة حالات المفقودين خلال الحرب، وتقرر اعتمادهم كشهداء من عدمه، وفقاً للأدلة المتوفرة، سواء كانت تقارير طبية من وزارة الصحة، أو شهود عيان، أو وثائق رسمية أخرى .
وتعيش ياسمين أبو عجوة على أمل أن يكون زوجها “خالد” معتقلًا داخل سجون الاحتلال، وإن كانت تفقد أي دليل على ذلك.
جرحٌ مفتوح
تتشابه تفاصيل قصص فقدان الغزيين خلال الحرب، حيث يروي ذوو المفقودين القصة ذاتها “خرج ولم يعد”، ولكن قصة الحاج عبد القادر الكحلوت البالغ من العمر 77 عاماً، قد تختلف قليلا عن سابقتها، تحمل في طياتها أكثر ألماً وحسرةً على ذويه، حيث اختفى في لحظة لم يكن لأحد أن يتخيل أنها ستكون الأخيرة. لكن النتيجة واحدة لكل ذوي المفقودين.
تروي لنا ابنته منال بحسرة وتقول: “فقدت والدي يوم الحادي والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بعد إجبار الاحتلال لهم على النزوح من مركز الإيواء بجباليا، وتهديدهم بطائرات كواد كابتر.”
خرج والد منال برفقة ابنه بعد تهديد الاحتلال بإخلاء مركز الإيواء والتوجه لحاجز نصبه الاحتلال بنفس المنطقة، ولكن كان والدها لا يستطيع المشي على قدميه، فطلب ابنه من عائلة كانت تجلس على عربة يجرها حمار، فوافقت العائلة على ركوب والدها فقط، نظرًا لامتلاء العربة بالركاب، فأجلسه الابن عليها، ومشى وراءه، ظنًا منه أن والده سيظل أمام عينيه، ولم يكن يعلم أن تلك الدقائق القليلة ستكون فاصلاً طويل الأمد بينه وبين أبيه.

لم تكن تجربة نزوح والد منال جديدة على الغزيين خلال الحرب، فكل نزوح كان أقسى من سابقه، وفي هذه التجربة فقدت آثاره عن عيني ابنه، وبقي مفقودًا حتى هذه اللحظة، خلال نزوحه فرقت مدافع الاحتلال ورصاصه جسد الأحبة.
وبحسب شهود عيان، قالت إحدى النساء اللواتي كنَّ على العربة: “كنا جالسين على العربة فجأة الدبابات، وصارت ترمي علينا رصاصًا وقذائف، والشهداء والمصابين ارتموا على الأرض وبدأت العربة تسرع، وتفرقت العائلات، وعند وصولنا إلى حاجز الاحتلال، أجبرنا على النزول، واقتادت القوات الرجال إلى جهة مجهولة، ولم يعرف مصير ذلك الحاج حتى الآن.”
تتمنى ولو جثته
تقول منال: “عندما علمنا بفقدان والدي هرع أبناؤه للرجوع لتلك المنطقة رغم خطورة الوضع ووجود قوات الاحتلال فيها، ولكن للأسف لم يكن له أي أثر.”
وباشرت عائلة الفقيد، بنشر صوره و البحث عبر منصات التواصل الاجتماعي وعبر اتصالهم للصليب الأحمر، الذي كان جوابه جواب كلِ من سأله: ليس لدينا اسمٌ كهذا.
وتتساءل منال بصوتٍ يملؤه الانكسار: “وين اختفى؟ أين جثته؟ بدي أودعه واكفنه وادفنه بالقبر، يا ريت لو أجد جثته” .
وتعتبر مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان أن “احتجاز الاحتلال جثامين الشهداء مخالف للقانون الدولي الإنساني وتعتبر جريمة حرب، بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كما تعتبر شكلًا من أشكال العقاب الجماعي لعوائل الشهداء المحتجزة جثامينهم”.
هل تمزق جسده من البرد؟ هل أطلق الاحتلال النار عليه؟ هل أسَرَهُ الاحتلال لديه؟ هل دفنه الاحتلال بمقابر جماعية؟ أم تُراه نجى ولكن مات من جوعه ونهشت الكلاب جسده؟ لكن أين جثته؟ يمزق هذا السؤال منال منذ 6 أشهر، ولا تملك له جوابًا.
أمٌ مكلومة
تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بصور وجوه غابت، وعيون تفيض بالشوق والأسى، ورسائل تحمل أسماء لم تعد تنادى في البيوت.
تتنقل أم ثائر البنا، بين صفحات البحث عن المفقودين، تحدق في الأسماء وتترك تفاصيل ابنها هنا وهناك، لعلها تجد أثرًا يدلها عليه .
بعدما تقطعت بها السبل، كانت هذه الوسيلة الوحيدة التي اتخذتها أم ثائر للبحث عن ابنها المفقود بلال البنا 21 عاماً، الذي فُقِدَ بخانيونس يوم 13 يناير/ كانون الثاني 2024. فلم يعد هاتفها يفارق يدها لتنشر صوره عبر منصات التواصل الاجتماعي، لتسأل عنه وتكتب بألم: ” ابني بلال خرج ولم يعد.. من يعرف عنه شيئًا فليخبرني، أرجوكم لا تتركوني في هذا العذاب”.
ويراودها الخوف من أن تكون فقدته إلى الأبد. تقول: ” أنا خايفة تمر الأيام، وأنا ما أعرف شي عن ابني، وممكن يكون ابني شهيد واندفن مجهول الهوية، وما أعرف في أي أرض اندفن”. وعلى الرغم من خوفها لكنها لا تزال تتمسك بالأمل، رغم الألم الذي ينهشها في كل لحظة.

دائرة الانتظار
اليوم، وبعد مرور أكثر من عامين على فقدان البنا، ما زال الأمل يراود والدته في العثور عليه، أو على الأقل أن تصل إليها معلومة تكشف عن مصيره.
وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر: “يحق للأشخاص معرفة مصير أحبائهم المفقودين. ويقع على عاتق الحكومات والقوات المسلحة والجماعات المسلحة الالتزام بتوفير المعلومات عن مصير المفقودين”.
فالحرب تركت خلفها آلاف الأسر تبكي فقدان أحبتهم، وتعيش على أمل عودتهم يوماً ما، عسى أن يكون قريباً.
صرخة لجهود دولية عاجلة
شهدت الحرب على غزة ، حالات متزايدة من فقدان الاتصال بين العائلات وأبنائها، حيث يبرز الإخفاء القسري كأحد أخطر الانتهاكات الإنسانية التي يرتكبها الاحتلال. وفي هذا الصدد، أكد المحامي والباحث القانوني “ناصر ثابت” منسق فريق البحث والدراسات القانونية في منظمة القانون من أجل فلسطين بمانشستر في بريطانيا، أن القانون الدولي يُلزِم الأطراف المتحاربة بعدم إخفاء مصير الأشخاص قسراً، وتقديم معلومات عنهم مع السماح لمنظمات مثل الصليب الأحمر الدولي بالتحقق من أماكن احتجازهم؛ حيث تصنف هذه الممارسات جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وعند سؤاله عن كيفية استعلام الأسر عن أبنائهم، قال إن هناك وسيلة واحدة أمامهم، وهي التواصل مع “اللجنة الدولية للصليب الأحمر “، إلا أن الاحتلال لا يتعاون معها في كثير من الحالات.
ودعا ثابت، أهالي المخفيين قسراً، باتخاذ إجراءات قانونية من بينها، رفع دعاوى قضائية أمام المحاكم المحلية والدولية، وتقديم تقارير موثقة إلى لجان حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية، والضغط الإعلامي والدبلوماسي لإثارة القضية دولياً.
وبحسب المركز الفلسطيني للإعلام أفاد أن عدد المفقودين والمخفيين في قطاع غزة يتراوح ما بين 8٫000 إلى 9٫000 حالة، في حين بلغ عدد البلاغات الرسمية التي وردت حتى اللحظة نحو 5٫000 بلاغ.
في زحام المآسي اليومية بغزة، تحولت قصص المفقودين إلى مجرد خبر عابر، لكن في قلوب من فقدوا تبقى الجراح مفتوحة، لا يداويها الزمن ولا تسكنها الإجابات الغائبة.
وبينما تواصل نساء غزة البحث عن أحبائهن، يبقى السؤال معلقاً في الفراغ، هل يعود الغائبون؟ أم يبقى الأمل وحده؟ فهن لا يمتلكن إجابة، ولا حتى بصيص أمل.. فقط الانتظار القاسي والبحث الذي لا ينتهي.






